الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رجال من الإمارات.. الرعيل الأوّل

رجال من الإمارات.. الرعيل الأوّل
19 مارس 2014 20:48
يشكل المؤرخ والكاتب الدكتور عبد الله الطّابور النّعيمي، الحائز دكتوراه الفلسفة في التاريخ الحديث والمعاصر، ظاهرة وذاكرة حاضرة بشغف شديد بكل ما يتعلق بتاريخ الإمارات وشخصياته الوطنية، من خلال مشروعه الثقافي الذي بدأه قبل نحو خمسة وعشرين عاما، نجح من خلاله في أن يكشف لنا صفحات مضيئة من تاريخ المنطقة، وهو مشروع نوعي يستحق أن نتوقف عنده، بعد أن أنجز من خلاله نحو 23 كتابا منها: الحركة المسرحية في الإمارات 1985، الألعاب الشعبية في الإمارات ـ الجزء الأول 1986، التعليم التقليدي ـ المطوّع في الإمارات 1992، رجال في تاريخ الإمارات ـ الجزء الأول 1993، الطب الشعبي في الإمارات ـ 1998، جلفار عبر التاريخ (حائز جائزة أفضل كتاب صادر في الإمارات ـ مسابقة العويس 1998)، رسائل الرعيل الأول من رواد اليقظة في الإمارات ـ الجزء الأول (مدخل لملامح اليقظة) 1999، المختصر في أشهر نواخذة الغوص والسفر في الإمارات 2002. والكتاب الذي نحن بصدده المعنون بـ «سلسلة التاريخ الشفاهي ـ رجال في تاريخ الإمارات ـ الجزء الثاني» من إصدارات مركز زايد للتاريخ والتراث، بمدينة العين، في 412 صفحة من القطع الكبير. في الكتاب حديث موثق عن تلك الحقبة من تاريخ المنطقة من خلال سيرة الرجال الأوائل الذين عاشوا عصر بدايات النهضة، وفي الإمارات أكثر من شخصية تستدعي التعريف بها ومعرفة تاريخها، في إطار المشروع الثقافي للدكتور الطابور الذي يجمع من خلاله آثار ومآثر الأوائل، مدونا صنيعهم، في خطوة للحفاظ على جانب مهم من الموروث الشعبي وحفظه، خوفا عليه من التهميش والتشويه، ولكي يظل شاهدا على حلقة من أهم حلقات التاريخ وفترة من أكثر الفترات غموضاً. جاء في مقدمة ناشر الكتاب: «يشكل التراث الشفاهي لدولة الإمارات العربية المتحدة بألوانه المتعددة، من سير وتراجم وحكايات شعبية وأمثال وشعر وغيرها، مصدراً مهماً من مصادر التاريخ، ومنبعاً علمياً غنيًا يقدم لباحثين معلومات قيمة عن كثير من جوانب حياتنا الحديثة والمعاصرة التي لا تزال بحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة، وفي إطار هذا التوجه العلمي جاء اهتمام المركز بإصدار عدد من الأبحاث والدراسات ذات الصلة بالتاريخ الشفاهي، ويأتي هذا الكتاب ليضيف معلومات جديدة عن عدد من أعلام الإمارات الذين كان لهم دور بارز في مختلف ميادين الحياة مثل: التعليم، الصحافة، القضاء، الأدب، التجارة، الصناعات والحرف التقليدية، الملاحة البحرية وغيرها. يمثل هذا الكتاب عملاً متميزا في التراث الشفاهي، وهو يشتمل على تراجم لثماني عشرة شخصية عامة، من الشخصيات التي أسهمت بأدوار مختلفة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإمارات في مرحلة ما قبل النفط، ومما يزيد من أهمية هذا العمل أن الباحث استقى مادته عن هذه الشخصيات بلقاءات مباشرة معها قبل أن ينتقل كثير منها إلى رحمة الله تعالى، ويتمثل بعضها الآخر بلقاء رواة ثقاة عرفوا أولئك الرواد الأول عن قرب وخبروهم (ص 7). المدفع.. أدب وصحافة من رجالات الرعيل الأوائل، بدأ الطابور حديثه عن الأديب والصحفي «إبراهيم بن محمد المدفع - 1909 – 1985» موضحا أنه نشأ في أحضان والده، وتعهده جده التاجر عبد الله بن حسن المدفع، أحد تجار الشارقة المشهورين في مطلع القرن العشرين، وعرف بالانفتاح على العالم الخارجي من خلال ملاصقته لجده الذي كان يعيش في «بومباي» والتقى العلماء والمفكرين والسياسيين والمصلحين العرب الذين كانوا يزورونه في مجلسه المشهور في العشرينيات. درس إبراهيم المدفع في بداية حياته في الكتاتيب على يد مشايخ العلم في الشارقة، وكان على جانب عظيم من الذكاء والفطنة وسرعة الانتباه، فختم القرآن، وتعلم مبادئ علم التوحيد والعلوم الدينية عند الشيخ عبد الكريم بن علي البكري النجدي الأصل، كما تعلم الخط عند أحمد بن عبد الرحمن الهرمسي، في مدة قصيرة، بل أجاد وتميز في كتابة الخط العربي، ليصبح الكاتب الخاص لحاكم الشارقة آنذاك، ومن ثم ترؤسه لدائرة حكومة الشارقة، ويقول الطابور: إلى جانب تلك الأعمال كان إبراهيم المدفع من المصلحين الاجتماعيين الذين يستعين بهم الحاكم للتدخل لحل بعض الخلافات التي تحدث بين القبائل وفك النزاعات والفصل بين الخصوم، فقد كان يعقد الصلح بين أبناء القبائل، كما عمل مستشارا للشيخ خالد بن محمد القاسمي، وقد استمر في هذا المنصب حتى بداية عهد صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، ثم استقال واعتزل العمل الحكومي، بعد أن اعتلّت صحته وأقعده المرض عن ممارسة نشاطه (ص 26). تحدث المؤلف عن مجلس إبراهيم المدفع، بما كان يمثله من منتدى ثقافي ومركز إشعاع يأتي إليه الأدباء والمثقفون، فكان معه قلة من شباب البلاد المثقف يشعلون في العتمة سراج المعرفة والثقافة ويشيدون عبر تيه التجزئة جسور التواصل مع شعوب أمتهم العربية. كما تناول بالتفصيل تجربته مع الصحافة وتأسيسه لصحيفة عمان عام 1927، وهي صحيفة حائطية كانت تكتب بخط اليد. ويذكر الطابور في السياق أن صحيفة عمان كانت نصف شهرية، اشترك في تحرير مادتها أدباء وشعراء من المنطقة، مثل المؤرخ عبد الله بن صالح المطوع، أحمد بن حديد، مبارك بن سيف الناخي، حميد بن عبد الله الكندي، حمد بن عبد الرحمن المدفع. توقفت صحيفة عمان، ولم تتوقف طموحات المدفع في مجال الصحافة والإعلام، فأسس صحيفة (صوت العصافير) عام 1933، وألحقها بصحيفة سياسية بعنوان (العمود). وفي عام 1928 أسس (المكتبة التيمية الوهابية) التي كانت أشبه بملتقى فكري للوجهاء والأدباء في الشارقة. وفي تناوله لتجربته الشعرية يؤكد الطابور أن المدفع كان قومياً بامتياز، وصاحب شعور وطني متقد، ويورد العديد من النماذج الشعرية التي نظمها. يتوقف حديث المؤلف عن المدفع حتى عام 1985، وهو عام رحيله عن الدنيا، بعد سنوات حافلة بالإنجازات والانتماء لوطنه وأمته، فيقول: «وفي سنة 1985، فاضت روح إبراهيم المدفع عن عمر يناهز سبعة وسبعين عاما، وقد نعت الشارقة حكومة وشعبا علمها الكبير الذي انتقل إلى جوار ربه تاركاً للوطن رصيداً حياً من المآثر والآثار الباقية إلى يوم الدين (ص- 50). العتيبة.. تجارة وعلم شهدت أبوظبي في فترة الثلاثينيات والأربعينيات ظهور العديد من رجالات العلم والثقافة الذين أخذوا على عاتقهم بناء الإنسان على هذه الأرض الطيبة، وفي تلك الفترة مارس تجار اللؤلؤ وبعض الوجهاء دوراً كبيراً في تأسيس المدارس شبه النظامية واحتضان العلماء وبناء المساجد، ومن هؤلاء الرجال الوطنيين المعروفين بكرمهم وحسن تدبيرهم (خلف بن عبد الله العتيبة – 1840). وهو واحد من أهم تجار اللؤلؤ في مدينة أبوظبي، الذين اهتموا بالتعليم وبناء المدارس، فقد افتتح أول مدرسة شبه نظامية في أبوظبي عام 1911، وكانت تعرف باسمه. وقد تحدث المؤلف عن جوانب عديدة من شخصية خلف العتيبة، وبخاصة في جانبها الإنساني، ويقول في هذا الصدد مستندا إلى حديث أدلى به ابنه راشد: «أما عن فكرة تأسيسه هذه المدرسة، فقد استغل الوالد وجود عدد كبير من العلماء الذين كانوا يفدون إلينا، خاصة لما سمعوا عنه من حبه للعلم ورغبته في عمل الخير، ولما تميز به من سمعة طيبة وحسن أخلاق، وهذا ما جعلهم يفدون إلى مجلسه رغبة منهم في عمل الخير، وقد خصص جزءا من ثروته لأعمال الخير، وأنفق من ماله لتربية جيل من الأبناء على كتاب الله، وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، ولم يبخل في دعم فكرة المدرسة، واستقطب المعلمين، ووفر الكتب والأدوات واللوازم الضرورية للمدرسة وطلابها، وكان هدفه الإصلاح والتقوى، فقد تأثر بأفكار العلماء والمفكرين أثناء احتكاكه بهم في الأسفار التجارية، ونظرا لما تميز به من سمعة طيبة وحب لعمل الخير فقد تشجع الكثير من العلماء لزيارته والالتقاء به رغبة في أن يسخر هذا التاجر شيئاً من ماله لخدمة حركة التنوير التي كانوا يناضلون من أجلها ويتحملون في سبيلها مختلف أساليب التنكيل (ص – 137). ويختتم الطابور حديثه عن خلف العتيبة بوصفه واحداً من ملوك اللؤلؤ في المنطقة، وتاجراً له باع طويل في هذه المهنة العريقة، وكان شابا يافعا، عندما بدأ رحلة الغوص على اللؤلؤ مع النوخذة محمد بن غنوم، ومنذ ذلك الوقت أخذ يهيئ نفسه للاضطلاع بدور قيادي في هذه التجارة، وقد انتقل للعمل في سفينة عمه محمد بن عتيبة، وظل يعمل حتى اكتسب خبرة عملية ومهارة في قيادة سفن الغوص، متمرسا في فنون البحر، وأصبحت له علاقة بالكثير من الطواشين، وبعد أن تكونت لديه ثروة اشترى سفينة وانطلق في الحياة من أوسع أبوابها باحثا ومنقبا عن المحار في أعماق البحار: ويذكر أنه خصص مكانا جنوب مساكن العتيبات بأبوظبي كمقر لسكن حوالي خمسمائة شخص من أتباعه وأعوانه، ووفر لهم المأكل والملبس وكل ما يلزم لإعاشة هؤلاء الرجال مع عائلاتهم، ولم يبخل عليهم بما حباه الله من نعمة (ص – 131). هذه صورة لنموذجين من سيرة رجالات الإمارات، وقد توسعنا قليلا في الحديث عنهما، لتكوين صورة عن أسلوبية المؤلف في رصد جوانب من حياة الرعيل الأول من أبناء الإمارات المخلصين، لكنه في الواقع تناول بقية الشخصيات بذات الهمة والروح والانسيابية، فتحدث عن الربان والنوخذة (اسماعيل بن عيسى جكة المنصوري) في رأس الخيمة ومعرفته بقانون البحر، وعن الوجيه الحاج (درويش بن كرم عبد الله) – 1919 – 1985، في أبوظبي، معلما وفقيها ومرشدا، كما تحدث في كتابه عن الشيخ (سلطان بن سالم القاسمي) شاعرا وسياسيا من الطراز الأول، وقد ارتبط اسمه بالنضال الطويل ضد الإنجليز، وفي الكتاب سيرة للشيخ (سيف بن علي الخاطري) في رأس الخيمة، كواحد من الرواة الحافظين الذين لهم باع طويل في رواية الأحداث التاريخية والسياسية التي مرت على المنطقة، وهنا المؤرخ (عبد الله بن صالح المطوع) في الشارقة، كواحد من المؤرخين القلائل في الخليج العربي، وتعتبر مخطوطاته من المصادر التاريخية المهمة، خاصة وأنها استمدت أحداثها من الواقع، ومن خلال معايشة صادقة ورصد مكين، ومن بعده نقرأ عن سيرة الشيخ (عبد الله بن علي السويدي) في الشارقة معلماً لمادة الشريعة، وداعية أميناً صادقاً مطلعاً وملماً بالقضايا الدينية، ومتذوقاً للشعر والأدب. ومن الشخصيات البارزة في الكتاب الشيخ (عمر بن عبيد الماجد المهيري) في دبي، تاجرا مرموقا مناديا بمجانية التعليم، ومن ثم مشتغلًا في سلك القضاء، ومهتما بالشعر والأدب، وناظما للشعر ويكتب المؤلف في السياق. وفي الكتاب ثمة إشارة لطيفة إلى الشاعر (مبارك بن حمد العقيلي) المولود في الإحساء، مستقرا في الشارقة ودبي، وكانتا في ذلك الوقت بلاد الثقافة والعلم والأدب، وقد اتسم أسلوبه الشعري بالقوة في البناء والتصوير الابداعي والنظرة الشفافة إلى الحياة، ونقرأ أيضا سيرة صانع الذخيرة وتحضير البارود من المواد المتوافرة في البيئة (محمد بن سعيد بن ساعد الحبسي) في رأس الخيمة، وقد مارس إلى جانبها صناعات عديدة مثل السكاكين، المناشير، المحاريث، المسامير والمخارز والمكاحل وغيرها، وأورد الطابور حديثا عن سيرة الوجيه (محمد بن جمعة المطوع) في الشارقة - 1887 – 1971 – معلما وتاجرا للؤلؤ وممارسا لمهنة الطب الشعبي، وقاضياً عمل في محاكم قطر. كما نقرأ سيرة الأديب (محمد بن علي المحمود) في الشارقة، تاجرا شهيرا للؤلؤ، ومثقفاً وصاحباً لمجلس أدبي لتشجيع العلم والثقافة، ومعلماً ساهم في غرس بذور افتتاح أول مدرسة نظامية، ألا وهي المدرسة القاسمية بالشارقة، وفي ذات السياق حديث مطول عن الأديب (هاشم بن السيد رضا الهاشمي) في دبي، معلما في راس الخيمة، ومشرفاً على أول مطبعة وطنية في الإمارات سميت آنذاك بالمطبعة العمانية ومكتبتها، وكانت له خواطر أدبية بديعة ومقالات معبرة في شؤون الحياة. ويختتم الطابور كتابه القيم بسيرة عن المطوع (يوسف إبراهيم بوحميد) وقصة الجزر المسلوبة طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى، وكتب الرجل دراسات وافية عن تاريخ هذه الجزر وموقعها وعن التعليم والزراعة وصيد السمك والغوص ومظاهر الاحتفالات الشعبية، والعلاج الشعبي والمظاهر العمرانية فيها بأسلوب معبر. مقاربة.. الكتابة الوطنية لا شك أننا كنا أمام (كتاب وطني) بكل المقاييس، فقد أقامه على أكثر من عمود وأسلوبية تعتمد على صدق المعلومة من الرواة الشفاهيين، ومن ثم التوثيق من خلال الدراسات والبحوث والكتب المتعلقة بالسيرة الذاتية للشخصيات، مضيفا إليهما سرديته الجميلة على مستوى اللغة والشرح والمفردة، والمقاربة الجميلة في بعض الأحيان. والكتاب لا يقدم سيرة رجال عظماء من رجالات الرعيل الأول في الإمارات، بل يقدم تاريخ بلد، وما مرّ به من أحداث تاريخية وسياسية واقتصادية من خلال سيرتهم العطرة، معتمدا بالدرجة الأولى على المنهج التاريخي، كطريقة في الرؤية، إلى حياة وسيرة الشخصيات، حتى لكأنك تكتشف وأنت تقرأ سير الشخصيات أن هناك وحدة موضوع في الترتيب، والنظرة غلى الحياة والوطن والحياة والواقع، وأن هناك وطنية صافية لدى جميع هؤلاء من الرجال الثمانية عشرة الذين أثروا تاريخ الإمارات. والدكتور عبد الله الطابور بهذا المقياس كاتب عميق وأصيل، مجتهد في بحثه وتقصيه المعلومة، فالكتاب ممتلئ بالهوامش التوضيحية والمراجع والخرائط والتوثيقيات من مخطوطات ومراسلات تؤكد قيمة المعلومة، وهو بأسلوبيته الواضحة من أنصار (الارتباط بالموروث الشعبي) وضرورة تبنّي القيم الإنسانية في مجال البحث والتاريخ المرتبط بالمنهجية باعتباره علماً، وبالناحية الواقعية باعتبارها موضوعة، ولهذا اتسم هذا الكتاب في جزئه الثاني، كما جزئه الأول بفلسفة في شكلين أدبيين هما: الشكل النظري المنهجي، والشكل الروائي القصصي القائم على سرد من السهل الممتنع. في هذا الكتاب عمق الجانب البحثي وجمال المفردة وجدية المعلومات وجديدها، ما ينفع الجيل الحاضر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©