الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر.. وعرانيس الذرة الصفراء

20 مارس 2014 12:37
سننطلق من مقولة أن المخلوق البشري يجسد في تطوره مسيرة البشرية، ليس بيولوجياً فقط، بل أيضاً يجسد الموروث العاطفي والفكري والجمالي... وكل المخاوف والتطلعات التي مرت بها البشرية، كما يقول كارل يونغ. ومنذ ظهور علم النفس قبل ما يقرب من قرن ونصف القرن، لم يظهر من يدحض هذه المقولة. وربما كان المظهر الأدبي عالمياً أكبر البراهين على هذه المقولة. فلماذا كان الشعر الوجه الأول للنشاط الأدبي، لو لم تكن البشرية قد مارست هذا الوجه في مرحلة طفولتها؟ ولما كان النشاط الفكري ينمو على حساب الخيال، فإن من الطبيعي أن يتأخر النثر في الظهور بعد ظهور الشعر بمرحلة طويلة جداً، حتى أن بعضهم ذهب إلى أن الموقف الشعري هو الموقف الأدبي الحقيقي، وما النثر سوى إخضاع الموقف الشعري لقوانين فكرية، بعضها حدّ من الاندفاع الخيالي. النثر مسامرة تجري حول الموقف الشعري. فحتى «التاريخ»- وهو فن نثري، بعد أن كان يكتب شعراً- ليس أكثر من موقف أدبي للمؤلف يفضحه سرده الأحداث وتصويره الشخصيات. ولو نظرنا في المؤرخين الإغريق الأوائل، وهم من يسلم لهم الباحثون- وفي مقدمتهم أرنولد توينبي- بالحيادية، لوجدنا الموقف الأدبي يتسرب في الأحداث والشخصيات، فلا يستطيع هيرودوت إخفاء إعجابه بالفن المصري، على سبيل المثال. ما نريد تأكيده أن الموقف الأدبي قائم على الموقف الشعري، كما تدل على ذلك الآثار الأولى للأدب. وقد ظهر الموقف الشعري في طفولة البشرية، تماماً كما يظهر في الطفل عندما يصل إلى اليفوعة، إذا كان نموه بعيداً عن السلطات القمعية في البيئة الحاضنة الموروثة من بيئات منغلقة. باختصار نشير إلى أن النمو العاطفي الحر للطفل سيجعل المظهر الشعري أول المظاهر، وما سمعنا من أحد أنه بدأ نشاطه إلا بالشعر: كطه حسين ومصطفى لطفي المنفلوطي، والمازني والعقاد... والأمثلة كثيرة وبخاصة في علم النفس الأدبي. وباستثناء الموسيقى- وهي في التجربة البشرية أسبق من التجربة الشعرية- فإن ما يسمى «المواهب» لا تظهر قبل الشعر. المرحلة الأولى ما وصلنا من شعر عن التجارب الشعرية في طفولة البشرية، لا يمثل الطفولة الشعرية بالمعنى الحقيقي، لأن هذا التراث قطع أشواطاً من التجارب والمعاناة. الطفولة الشعرية مرحلة عشوائية يمكن أن نسميها مرحلة «اللاوعي الجمالي» يتدرب فيها الشعراء، على نحو جماعي، على الموقف الشعري. وقد ظل ذلك يظهر حتى العصر الحديث في قرانا، ففي القرى النائية، تتحلق مجموعة من الرجال حول كومة من الذرة الصفراء، وبأيديهم مدقات طويلة الساق يضربون بها العرانيس، وهم ينشدون، فيبدأ أحدهم بما يسمى «الردة» أو «اللازمة» التي تتكرر بعد أن يسهم كل واحد منهم بقسط من الأبيات الشعرية القليلة. وإذا جاء دور أحدهم فإنه يعيد الردة إن لم يستطع الإسهام في الشعر، فإذا كان مقتدراً أنشد بيتين أو أكثر، ثم يقوم بتسليم الردة لـ «الجوقة» المحيطة بكومة الذرة الصفراء. وبعد إنجاز العمل تبقى في الذاكرة الأبيات الشعرية التي ارتقت إلى مستوى مقبول أو مبدع، وتهاوت مئات الأبيات الأخرى، وسارت «الأغنية» أو «الأنشودة» أو «القصيدة» من دون أن يرافقها اسم شاعرها، فهي موقف شعري جماعي. بالطبع يختلف الموقف الشعري بحسب التجربة الجماعية، فلا يعقل أن ينشد البحارة في العاصفة الهوجاء قصيدة غزلية، ولا يمكن في قطاف الكروم أن ينشدوا شعراً على غرار شعر الزير سالم في الانتقام. ومن هنا شددت بعض النظريات الأدبية على دور العمل في تنويع التجربة الشعرية. ومن هذه التجارب الكثيرة جداً والمتنوعة جداً يتشكل ما يسمى التصوّر الشعري العام. لكن لندع هذا ولنعد إلى الطفولة الشعرية، لنقول إنها تمرّ بمرحلتين: مرحلة اللاوعي الجمالي، ومرحلة الوعي الجمالي. وتختلف تسمية هاتين المرحلتين، أو هذين النوعين من الشعر، من مفكر إلى آخر، من شيللر إلى شيلنغ إلى غوته إلى كولردج إلى وردزورث... كتسمية «الشعر الساذج» و«الشعر المثقف» و«الشعر الريفي» و«الشعر المديني» و«شعر الطبيعة» و«شعر الحضارة»... الخ. الطفولة الشعرية الأولى، أو مرحلة اللاوعي الجمالي، تمتاز بحرية كاملة في التنقل بين مظاهر الكون، مثل طفل يتأمل ويعيد ترتيب الكون كما يحلو له، من دون أن ينتبه إلى التناقضات الكبيرة أو الصغيرة التي يقع فيها عندما يرتب موزاييكه الشعري. قد يتعلق بغيمة ويحط على رأس جبل، ثم ينتقل مباشرة إلى السباحة في النهر، وفجأة يبكي يريد أمه، أو يبحث عن عقد من الخرز سقط من معصم صديقته، أو يبحث عن صاحبة العقد بعد أن أعجب بترتيب ألوان خرزه البراق... الخ. وسنشير- فيما بعد- إلى أن هذه الطفولة تتكاثر لدى كثير من شعراء اليوم. الخيال هنا يعمل بحرية شبه مطلقة، صحيح أن هناك مخزوناً، ولكن النشاط الجمالي يعمل بعشوائية. شبكات هائلة تعمل خلف هذا الموقف الشعري المندفع: من الخوف الذي كابدته البشرية حتى الدهشة التي واجهت بها المظاهر غير المعروفة في الطبيعة، وحتى التجربة الشخصية الفجة... لا مجال هنا لذكر تلك الشبكات المتداخلة والمتفاعلة... ولكن بصورة عامة نقول إنه لهو طفل، ولكن بنظرة شعرية. المرحلة الثانية كما نقيت أنشودة الذرة الصفراء من الأبيات غير المناسبة أو غير الجمالية، وبقيت الأبيات الجميلة المعبرة، كذلك عندما يشب اليافع يقوم بهذه العملية، مقلداً البشرية ذاتها بعد أن قطعت المرحلة الأولى التي هي أقرب إلى المواجهة الفطرية مع مظاهر الطبيعة والحياة. لا ندري من أثر أو تأثر بالآخر: هيغل أم كولردج، ولكنهما يصبان في مستقر واحد وهو أن المرحلة الأولى قد انتهت إلى الأبد، ولن تعود، وما تسعى إليه البشرية اليوم هو الوعي الجمالي الرفيع. وقد أصرّ كولردج أن شعر وردزورث نفسه ليس ذلك الشعر الريفي الطبيعي الساذج، بل بالعكس، إنه الشعر الحصيف الجميل المرتب والمعبر عن وعي جمالي أنيق، وعندما ينظم وردزورث قصيدة «الحاصدة الوحيدة» فإن وصفه لهذا الموقف الريفي البسيط لا يعني أن القصيدة من الشعر الساذج بل من الشعر الرفيع الناجم عن ترتيب جمالي هادف. فكما انتهت القصائد الجماعية التي لا يعرف من نظمها، ولا من انتقى أبياتها، سوف تنتهي في مرحلة القصائد الفردية تلك العفوية، وتخضع القصيدة لتقاليد أدبية اختبرتها البشرية وانتقتها وانتهجتها بعد مخاض طويل استغرق قروناً. إن الخيال العفوي يخلي الطريق للخيال المثقف، المتدرع بخبرة البشرية في تطورها الشعري. إلا أن هيغل يذهب أبعد من ذلك بكثير، فيرى أن الشعر ليس عقلياً، إنه موقف عاطفي، وبما أن نظريته تشدد أن كل ما هو عقلي واقعي وكل ما هو واقعي عقلي، فقد رأى أن الشعر لا مكان له في مستقبل البشرية، الذي سيكون مستقبلاً «عقلياً» وبذلك ينطبق العقل على الواقع وتعيش البشرية مرحلتها «الإيليزية» بحسب المفهوم اليوناني. فالحياة السعيدة هي حياة عقلية، من دون أن يوافق على قسمة العقل الكانطية إلى عقل محض وعقل عملي، فعند هيغل هناك عقل واحد يقوم بترتيب الواقع على قوانينه ومبادئه، فإن كان الواقع على غير هذه القوانين، فإن العقل كفيل برده إليها، وإذا كان العقل مشتطاً في قوانينه فإن الواقع يرفضها ويجعله يعدلها حتى تنسجم مع قدرة الواقع على استيعاب قوانين العقل المطلق. ولكن هل صحيح أن الطفولة الأولى ذهبت إلى غير رجعة؟ العود الأبدي في منتصف القرن التاسع عشر ظهرت كوكبة من الشعراء الرمزيين كبودلير ورامبو ومالارميه، جعلت شعر إدغار ألان بو نبراساً لها، وكأنها اتخذت من مقطع «ما مضى لن يعود» في قصيدة بو «الغراب» شعاراً تلتزم به. وسعت إلى الغريب العجيب، الذي ربما لا يمرّ سوى مرة واحدة، فأحدثت حركة عميقة في الشعر. ولكن لا يصل القرن التاسع عشر إلى خواتيمه إلا كانت النظرية الهندية في العود الأبدي قد شاعت لدى المفكرين والفلاسفة الأوروبيين. وهذا موقف جديد يختلف ويخالف نظرية هيغل في أن الشعر مرحلة من مراحل طفولة البشرية، ولن تعود إليها، مهما توالت القرون. فللتاريخ- في هذه النظرية- دورة تشبه دورة فصول الطبيعة. وكانت ثقافة المايا والأزتيك والإنكا انتشرت في أوروبا وبخاصة تقويمها العجيب الذي يرصد دورة التاريخ. من يلقي اليوم نظرة عامة على الأدب، والشعر بصورة خاصة، يجد أنه «بنية عنيدة» على حد تعبير نورثروب فراي، لم تؤثر فيه مراحل التاريخ، فقد ظل عبارة عن تجارب تتجدد، فلا تختلف قصيدة غزل في القرن العشرين عن قصيدة غزل قبل سبعة آلاف سنة. ومرحلة النضج في الموقف الجمالي لا تعني التنكر للتجارب القديمة، بل بالعكس، تعني تعميق هذه التجارب وإغنائها، من غير الخروج عن مراميها. إلا أن الملاحظ أن الشعر، في هذه الأيام، من بين الأنواع الأدبية أقرب إلى تصوير المرحلة الأولى من الطفولة، أي أناشيد ضاربي عرانيس الذرة قبل أن تتغربل الأبيات وينتقى الجميل الرائع منها. كثير من الشعراء المحدثين اليوم يعبرون عن الذات الفردية بحرية شبه مطلقة، وبفوضى من التعبير لا تنصاع لضوابط الهندسة الجمالية. وصارت الصيحات، أو الشتائم المقذعة في بعض الأحيان، نوعاً من التجديد، فصارت القصيدة أشبه بجزر غير مترابطة فيما بينها، يجري الانتقال من هدف إلى آخر، من دون انتقائية جمالية. ولا نرى التحلل من قيود الوزن والقافية سبباً مقنعاً، فالشعر المنثور ظهر في الغرب منذ القديم، من غير أن يكون له مسار آخر مختلف عن مسار الشعر الموزون. هناك أسباب كثيرة، لا مجال لذكرها في هذا المجال، ولكن نكتفي بالإشارة إلى موقف الناقد العظيم لونجينوس في القرن الثالث الميلادي، الذي يرى في كتابه الشهير «الجليل في الأدب» On the Sublime أن للأدب قوانينه الخاصة، وأن الجليل في الأدب هو نفسه الجليل في الحياة. والجليل، أو الرائع، يحتاج إلى موقف عميق من الحياة، لأنه نابع من إحساس «تجميل الحياة»، فلا يمكن للأشياء التافهة والعبثية أن تقدم أدباً جمالياً، مهما أجهدنا أنفسنا في الصياغة اللغوية. وهكذا تضيع جهود الصياغة الجمالية بين هذه الأشياء، التي تدل على أن الشاعر عاد طفلاً بلا تهذيب، أعني بلا تلك الثقافة التي غربلتها البشرية وقدمتها على شكل تقاليد يجري الانطلاق منها، وليس الجمود عندها. كثير من الشعراء اليوم «يعبثون» كما يعبث الأطفال، مما يرجح نظرية العود الأبدي. ونعتذر عن تقديم الأمثلة- وما أكثرها!- حتى لا نتهم بالتحيز. ولكن بعض الشعراء، من جهة أخرى، يسعون وراء «الجليل» مما يرجح نظرية «البنية العنيدة» التي رحل نورثروب فراي وهو يشرحها ويرددها، والتي تؤكد أن السعي وراء الجليل مرتبط بالتقليد الشعري الذي مضت على تجاربه قرون وقرون. وبذلك يصبح الجليل مألوفاً، ويصبح الجميل العادي مدهشاً، بعد أن جمّله الشاعر بالمرود. اعذرونا أيها الشعراء، فنقدنا ليس جميلاً، ولكنه مثير. كونوا أطفالاً... ولكن بوعي جمالي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©