الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البداهة المنسيّة

البداهة المنسيّة
19 مارس 2014 20:44
أريد أن أعترف أولاً بأني كنتُ مخطئاً حين كنتُ أبحث عن وصف دقيق أطلقه على نمط الإسلام الذي نريد أن نقارع به ما يسمّى بالإسلام السياسي بجميع ألوانه وأشكاله. أحياناً كنتُ أسمي هذا الإسلام البديل بالإسلام المدني أو الإسلام الفطري أو الإسلام الرّوحي أو الاجتماعي أو الشعبي أو القرآني أو الوحياني أو ما إلى ذلك من الأوصاف والصفات. وفي الحقيقة؛ فقد كنت تائها في هذا المسعى الخاطئ، بل كنتُ واقعاً تحت تأثير نفس الخطاب الذي قصدتُ مجابهته، في حين كان عليّ منذ البدء أن أكتفي باسم واحد وواضح بلا نعت ولا توصيف، هو الإسلام. هذه هي البداهة التي أدركتها متأخراً بعد طول لبس والتباس، لكني أدركتها في الأخير. بعد هذا الاعتراف الحاسم، أضيف التّوضيح التّالي: ليس هناك من مقابل لما يسمى بالإسلام السياسي غير الإسلام نفسه. ولا يحتاج هذا الإسلام إلى أي إضافات أو زوائد أو توصيف زائد عن الحاجة؛ فالإسلام بطبيعته الأصلية الخالية من المأسسة والمتحررة من السلطة والمتخلصة من آليات الضبط والمراقبة لا يمثل أيّ بيئة حاضنة للإسلام السياسي أو الأيديولوجي أو السّلفي أو الأصولي أو الجهادي أو قل ما شئت. في كل الأحوال، لا يحضن الإسلام غير الإسلام. وهذه هي البداهة المنسيّة بفعل التديّن الأيديولوجي. أليس يقال: الأيديولوجية نسيان للواقع؟! إنّها البداهة التي غفل عنها الكثيرون. ولذلك فإنّ القليلين فقط من توقعوا سقوطاً للإسلام السياسي، وأقلهم من توقع سقوطاً سريعاً. الخريف الأصولي كان ظنّ الأكثرية أو الكثيرين أنّ الإسلام السياسي سيعمر زمناً طويلاً، وأنه سيكون أطول الأيديولوجيات الشمولية عمراً! أليس خيرت الشاطر نفسه من قال يوماً: “أتينا لنحكم مصر خمسمئة عام”؟ لا شكّ أيضاً أنه شاء أن يقول “إلى الأبد”. وبالفعل، فقد كان يبدو الأمر كما لو أننا على عتبة قرون وسطى جديدة ستستغرق عقوداً طويلة إن لم تستغرق عدة قرون أخرى. لماذا؟ بخلاف سائر شموليات القرن العشرين التي لم تعمر سوى عقود قليلة من الزمن، فإنّ الإسلام السياسي لا يستند إلى خطاب وضعي كما هو الحال بالنسبة للشيوعية أو النازية، لكنه يستند إلى عقيدة دينية راسخة في وجدان الشعوب. وهنا مبعث الخوف من أن يطول الخريف الأصولي زمناً قد لا ينتهي. لكن كل هذا الظن كان مجرّد مغالاة في التقدير وخطأ في الحساب؛ لأنّ الحقيقة التي نسيها الكثيرون هي أن الإسلام لا يمثل بيئة حاضنة للإسلام السياسي: فحين يقال مثلاً: “لا كهنوت في الإسلام، و”لا رهبانية في الإسلام”، و”لا إكراه في الدين”، إلخ، فإنّ مقصود القول أيضاً أنْ لا وجود لسلطة دينية أو مؤسسة دينية أو دولة دينية أو حزب ديني أو جمعية أو جماعة أو مجموعة دينية في الإسلام. وبذلك يظل الإسلام معطى فطرياً قولاً وفعلاً، لفظاً ومعنى، شكلاً ومضموناً، إنه يبقى في أصدق أحواله أبعد ما يكون عن السلطة من حيث هي آليات للضبط والمراقبة والتحكم، وأقرب ما يكون من الطبيعة البشرية بعفويتها وتلقائيتها. نبيّ الإسلام نفسه وعلى خلاف سائر الأنبياء العبرانيين، كان مجرد إنسان بسيط لا يختلف عن سائر النّاس البسطاء والطيبين. يحمل صفات البشر، يجوع ويشبع، يشتهي ويقنع، يعشق ويتوجع، لا عصا يشق بها البحر أو يجعلها تبدو حيّة تسعى، لم يكلم الموتى ولا هو كان يفهم لغة الهدهد أو النّمل، لم يكن يفسر أحلاماً ولا كان يعالج أسقاماً، لم يكن يُسخّر الجن ولا كان يرسل العفاريت إلى أقاصي الأرض فتعود إليه قبل أن يرتدّ إليه طرفه، لا شيء من تلك الخوارق والمعجزات كان يأتيها أو يزعم إتيانها، وحتى عندما يطالبونه بشيء من ذلك كان يرد عليهم: “قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ...”. نبيّ الإسلام يظل أقرب إلى حياة الناس البسطاء منه إلى خوارق أنبياء العهد القديم، أقرب إلى الشرط الإنساني بخصائصه البشرية، أقرب إلى الطبيعة نفسها، وباختصار بليغ، فقد كانت أمّه “تأكل القديد” كما يقول عن نفسه. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لخاتم الأنبياء والمرسلين فإنه لكذلك وأكثر من ذلك بالنسبة لسائر المسلمين، أكانوا صحابة أم تابعين، فقهاء أم رجال دين، دعاة أم مرشدين. لا مكان لمحاكم التفتيش الإسلام دين “طبيعي”، يكاد يخلو في منشئه من “نظرية الحق الإلهي”، يكاد يخلو في مبدئه من “فكرة التفويض الإلهي”، يكاد يخلو في أساسه من “محاكم التفتيش”، يكاد يخلو في بنائه من “صكوك الغفران”، يكاد يخلو في رؤيته من “الخوارق والمعجزات”، يكاد يخلو في وضعيته الاجتماعية من مجالس وهياكل ومجامع ومؤسسات، يكاد يخلو من الحلول السحرية للمشكلات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الصحية، اللهم تلك الإضافات الخرافية التي أضافها رواة الحديث خلال عشرات السنين من التضخّم الحديثي، وهي عموماً تناقض الحس السليم وتخالف القرآن الكريم. ودعنا نعترف بوضوح بأنّ الأصل في الإسلام أنّه ديانة خالية من النظرة السحرية للعالم، وخالية أيضاً مما يسميه فرانسوا ليوتار بالسرديات الكبرى، والتي تعدّ مرتعاً للأيديولوجيات الشمولية. ومن قبيل الاستدلال نقول: لا يروي الإسلام قصة الخليقة في شكل سردية كبرى لها بداية ونهاية، بل حتى النص القرآني نفسه وخلاف الكثير من الكتب المقدسة، لا يقدم لنا زمناً خطياً للقصص والحكايات وتوالي الأحداث، لا يقدم تاريخ البشرية في شكل سردية تمتدّ من بدء الخليقة إلى يوم القيامة كما هو الأمر في “الكتاب المقدس” على سبيل المثال؛ فقد نزل القرآن مُنجَّما شذَريا ويرسم أزمنة متشظية. ولذلك، لم يقدم الإسلام -ولا سيما الإسلام السُّني- أي رؤية خلاصية لتاريخ العالم، على طريقة عودة المسيح في المسيحية، أو الماشيح في اليهودية، أو بوذا في البوذية، أو حتى المهدي المنتظر عند بعض طوائف الشيعة. وبلا شك فإنّ السرديات الخلاصية، سواء أكانت وضعيّة على طريقة تحقيب الزّمن التاريخي عند أوجست كونت وكارل ماركس، أو كانت سرديّات دينية على طريقة الخميني وزمن الغيبة، تعدّ مرتعاً خصباً للأيديولوجيات الشمولية. وفعلاً لسنا نتغاضى ولا نغض النظر عن هذا الواقع الشاخص أمام أعيننا، فإن الإسلام السني اليوم غارق في الكثير من مظاهر التطرف والعنف والفتنة والإرهاب بما يفوق سائر المذاهب والأديان في بعض الأحيان، وهذا مؤسف ومؤلم في كل الأحوال، لكن لا ننسى هذا: يبقى العنف الديني نفسه أقوى دليل على عدم مطابقة فكرة الدولة الدينية مع الواقع الديني للإسلام السني. حين يلجأ إنسان ما إلى العنف فمعنى ذلك بكل بساطة أن ما يريده ليس ممكناً، ليس مقنعاً، أو ليس مطابقاً للواقع. وبكل تأكيد، يبقى العنف مخيفاً ومقرفاً أيضا، لكنه دليل على الإخفاق والفشل. وبالأحرى، أمام استحالة الدولة الدينية في بيئة الإسلام (وفي بيئة الإسلام السني على وجه الخصوص) يبقى أمامنا قدَران اثنان لا ثالث لهما: إما فتنة دينية لا أول لها ولا آخر، تأكل اليابس والأخضر، فلا تبقي ولا تذر؛ وإما الانخراط الحكيم في بناء دولة الحق والقانون، واعتبار ذلك مصلحة شرعية، وواجباً أخلاقياً، وضرورة أمنية. القدر الأوّل تجرعنا مرارته مراراً ومراراً. أمامنا.. القدر الثاني.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©