الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حضارة تسلقت السلم الموسيقي من درجة الحداء

حضارة تسلقت السلم الموسيقي من درجة الحداء
5 يونيو 2008 01:05
تساؤلات كثيرة تتعلق بالموسيقى العربية وتاريخها حتى الموسيقى الأندلسية ايضاً لماذا؟ لقد اعتبر المسلمون شعر مرحلة ما قبل الإسلام عميقاً في أصوله الكلاسيكية، ولكن لا يبدو أنه كان مصحوباً في إنشاده بالموسيقى، إذ يقول لنا المؤرخون الموسيقيون انه حتى وفاة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) كانت الأغاني العربية بدائية جداً لدرجة أنه لم يكن فيها عنصر إيقاعي، ولكنها ببساطة كانت نوعاً من الترنم الرتيب والذي يحث فيه الحداةُ جمالهم على السير في رحلاتهم الصحراوية· ولو افترضنا جدلاً أن ثمة مغنين في عصر ما قبل الإسلام ينشدون باللسان العربي فإنهم كانوا يوصفون بأنهم ''الأجانب''، فقد ذكر أبوفرج الأصفهاني في الأغاني (ج 16 ص 13) عشر مغنيات، خمس منهن بيزنطيات ويغنين بالإغريقية بصحبة آلة البربط أو الباربيتو وهي آلة من فصيلة القيثارة، والخمس الأخريات يغنين أغاني من الحيرة· هذا ما جاء في كتاب ''تاريخ الموسيقى في الجزيرة العربية والأندلس'' لمؤلفته جوليان ريبيرا بترجمة الحسين الحسن الصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث عام ·2008 وبكل بساطة نقول إنه كان المفترض أن تبحث الكاتبة في أصل كلمة ''غناء'' التي تجاهلتها لغوياً وهي ''غنى، يغني'' التي جاءت في شعر الأعشى ميمون بن قيس الشاعر الجاهلي الذي قال: تغن بالشعر إما كنت قائلة إن الغناء لهذا الشعر مضمار ولو افترضنا أن الغناء عند الأعشى لا يعني الحداء ''صوت طويل لكلمات قليلة محددة يطلقها البدوي'' لاتضح لنا أن الغناء كان موجوداً وبقوة· بدايات الإيقاع ومع الجيل الأول من المغنين ظهر طويس وهيت والدلال، أما طويس (تصغير طاووس) فيقال انه قد ادخل الايقاع في الموسيقى العربية، كما كان يفضل بحر الهزج: مفاعيلن مفاعيلن، كما كان يؤلف أغانيه على بحر الرمل: فاعلاتن، فاعلاتن فاعلن·· الأول ما لم تنتبه اليه جوليان ريبيرا قد ظهر أيام العباسيين ولم يكن معروفاً أيام الجاهليين كما يقول ابراهيم أنيس في كتابه موسيقى الشعر· ظهر بعد ذلك ضمن ما سمي بالمدرسة الجديدة في الغناء العربي سائب ونشيط· أما سائب فغنى الأغاني العربية، أما نشيط فإنه غنى بالفارسية وهو معلم ابن سريج ومعبد الى جانب المغنيات من النسوة (جميلة وعزة الميلاء)· وظهر ابن مسجح الذي تعلم الغناء الاغريقي والبيزنطي في سوريا، فقد كان بارعاً على آلة الباربيتو، وهو استاذ ابن سريج التركي الأصل والذي يعد أحد أعظم المؤسسين للموسيقى العربية، وعندما كان يغني يغطي وجهه لقبحه، حتى قال فيه ابراهيم الموصلي ''كأنه خلق من كل قلب، فهو يغني لكل انسان ما يشتهي''، اذ كان للتأثير الفارسي والبيزنطي شوط في الغناء العربي· أما المغنيات فمنهن جميلة حيث كانت سطوتها الفنية على جميع مغني الجيل الأول ممن غنوا بالعربية، كذلك عزة الميلاء وسيرين وزرنب وخوله الرباب وسلمى ورائعة· بين الأثرياء وما جاء في المرويات أن الغناء نشط حول المدينة ومكة، ولم يكن السبب الا لأن تلكما المدينتين قد سكنتهما الأسر العربية ذات الثروة والنسب الأصيل، حيث كانت تجتمع عندها الفنون النفيسة وعناصر الثقافة الأخرى والتي كان يملكها جيرانهم المغلوبون، فلقد كان الأجانب يأتون بالموسيقى الى تلك المدن وليس العرب، إذ إن العرب كانوا يستمتعون بها ويشجعونها ويدفعون المال من أجلها، هنا بدأت فترة تعليم العبيد طرق وأساليب الغناء· تلك أصول الموسيقى والغناء عند العرب حيث تفصلها جوليان ريبيرا في كتابها وتنقل مرويات ما حدث للمغنين، أما عن دخول الموسيقى في بلاط الخلفاء وخاصة في دمشق إبان الفترة الأموية وبغداد إبان الفترة العباسية وبلوغ هذا الفن اوجه في عهد هارون الرشيد وظهور المؤلفين الموسيقيين ابراهيم الموصلي وولده اسحق فتلك احداث ليست بعيدة من وجهة نظر التاريخ حيث صاحب هذه الموسيقى ثورة التدوين عند العرب· غير ان ما يعاب على منهج جوليان ريبيرا انها تعتمد على أبي فرج الأصفهاني في كتابه الأغاني، ولو افترضنا ان هذا الكتاب لم يكن المصدر الوحيد الذي تناول أصول الموسيقى العربية بالرغم من أهميته ومصداقيته التاريخية لاتضحت لنا ربما أصول أخرى اكثر عمقا في تاريخ هذا الفن عند العرب، ولا أدل على ذلك أن الكتب تروي عن وجود غناء عربي خالص منذ الفترة الآشورية في عهود السلالات القديمة في أرض الرافدين· استقلال فني في العصر الأموي ظهر الغناء كشيء مستقل وقائم بذاته، كما بدأ تصنيع الآلات الموسيقية العربية التي أصبحت في متناول الجميع، ولولا البلاط الأموي وبداية تشكل الحضارة العربية عبر تعرف العرب على ما يجاورهم من ثقافات أقوام البيزنط وضرورة محاكاة الآخر بطريقة الابتكار لظل الغناء محصورا في المغنين الأجانب والجواري، حيث يقال إن يزيد بن عبدالملك كان يعشق المغنية حبابه منذ صباه وقد اشتراها عندما تولى العرش بـ4000 دينار، وليس غريبا ان يؤلف الوليد بن يزيد قصائد في الغناء حيث كان يعزف على الآلة، ومعنى هذا ان الاحساس بالحضارة وتشكلاتها بدأ من البلاط نفسه· العباسيون لم يكرهوا شيئا أشد من الموسيقى وخاصة المنصور ''مؤسس بغداد'' حيث منع العزف والغناء في القصر، وتروي حكايته مع أحد المماليك والذي سمعه يغني على ''الطنبور'' وهي الآلة الخرسانية فكسر آلته وباعه بثمن بخس· سرية الغناء بدأت في القصور العباسية، وبالرغم من ذلك ظلت الموسيقى العربية موجودة عبر الكتابة وظلت الطرق التقليدية حاضرة بالرغم من انتشار الاساليب الحديثة في بغداد بعد عهد المنصور· كان سياط -تلميذ مؤرخ الموسيقى العربية يونس الكاتب- مغنيا وعازفا وموسيقيا وكان معلم ابراهيم الموصلي· أما هارون الرشيد فقد اطلق الغناء حتى وصل في عصره الى أوجه، وذلك لأن العباسيين بعد ان بسطوا حكمهم على كل آسيا الوسطى تأثروا تأثراً شديداً بالثقافة الفارسية وكانوا يقلدونها حتى في طريقة تنظيم القصر· ستائر وآداب كان المغنون يضعون حجابا أو ستارا، وكان هناك مدير يسمى بقائد الستارة أو الحاجز اذ كان التقيد بآداب القصر لا حدود له، ويبدو أن المرويات الشائعة عن أداء المغنين والموسيقيين والراقصين أمام الخليفة -كما هو شائع- محض افتراء ولا أدل على ذلك من قول هارون الرشيد ''لقد اشتهيت ان أرى ندمائي ومن يحضر مجلسي من المغنين جميعا في مجلس واحد''، ويقال ان من شدة فرح الرشيد انه كاد يقفز من مكان اختبائه عندما كان يسمع غناء وموسيقى عربية مدهشة· ثم تتناول ريبيرا أهم موسيقيين عربيين هما ابراهيم الموصلي واسحاق، وقيل ان ابراهيم كان يمزج الايقاعات في اغنية واحدة، كما قيل ان اسحاق احتفظ بتقاليد المدرسة القديمة في الحجاز في التنفيذ وفي التأليف الموسيقي· ويقال ان ابراهيم بن المهدي الأمير العباسي كان موسيقياً وما بعده بدأ عصر الانحطاط حيث الثراء الفاحش الذي بدأ المغنون يبحثون عنه مما اضطرهم الى نقل الموسيقى من بيزنطة وفارس· وتقول جوليان: ''ومن الغرابة أن ابراهيم بن المهدي هو الذي كسر التقليد الكلاسيكي للموسيقى العربية وبذلك أسهم في انحطاط هذا الفن''، وكما يبدو من وجهة نظرها الى الغناء العربي ان كلاسيكية الموروث هو ما لا يجب ان يتغير، وهنا عدت فترة ابراهيم بن المهدي بأسلوبها الجديد بداية انحطاط الغناء العربي· خصائص شرقية كما تتحدث جوليان ريبيرا عن خصائص الموسيقى العربية الشرقية في الهارموني والايقاع والتعبير، نافية الاعتقاد السابق بأحادية الصوت وكما تقول: ''ولكن هناك إشارات قوية الى انها كانت هارمونية اصلا''، حيث لم يعرف السلم بالثلاثي أو السداسي وإنما بالثماني وبهذا التقسيم يمكن الحصول على الهارموني· وتتطرق جوليان ريبيرا الى مفاهيم الخوارزمي في كتابه ''مفاتيح العلوم'' عن الموسيقى والى مفاهيم اخوان الصفا في فلسفة نظرية الايقاع، حيث توجد اربعة ايقاعات في الموسيقى العربية وهي الهزج والرمل والثقيل الأول والثقيل الثاني· ثم تتحدث عن بنية الموسيقى العربية الشرقية، المدى والتركيب والطول وعن تصنيفاتها والآلات الموسيقية المستخدمة، وعن الموسيقى الشرقية في قصور الأمويين في قرطبة وأثر زرياب وموسيقاه في الغناء العربي، كما تناولت انتشار الموسيقى العربية في الأندلس والموسيقى العربية في اسبانيا المسيحية وفي بلاط الملوك والأعياد الشعبية وتقبل السكان المسيحيين لنماذج أغاني مسلمي الأندلس ونمو الأغاني العربية الشعبية في الأجزاء المسيحية من شبه الجزيرة الإسبانية· وربما يعد هذا البحث التاريخي والنظري من أشمل البحوث في فن الموسيقى العربية لما لأهمية توثيق هذا الابداع الذي تشكل فيما بعد وكوّن نمطاً خاصاً بموسيقى عربية خالصة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©