الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«ريتشارد الثالث».. بين عراء الديكتاتورية وجماليات القسوة

«ريتشارد الثالث».. بين عراء الديكتاتورية وجماليات القسوة
19 مارس 2014 16:22
إبراهيم الملا (الشارقة) ـ احتضنت خشبة مسرح قصر الثقافة بالشارقة مساء أمس الأول، وفي ليلة افتتاح الدورة الرابعة والعشرين من أيام الشارقة المسرحية، العرض التونسي «ريتشارد الثالث» الحائز جائزة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة لأفضل عرض مسرحي عربي في الدورة الأخيرة من مهرجان المسرح العربي الذي أقيم في الشارقة أيضاً، وتنظمه «الهيئة عربية للمسرح». مسرحية «ريتشارد الثالث» من تأليف محفوظ غزال، وإخراج الممثل والدراماتورج التونسي جعفر القاسمي، وهي من إنتاج فرقة انتراكت برودكشن التونسية، وقام بالأدوار الرئيسية على الخشبة كل من: فاطمة الفالحي، وسماح التوكابري، وربيع إبراهيم، وصحبي عمر، وعاصم بالتهامي، ونبيلة قويدر، وخالد الفرجاني. وحمل الممثلون في العرض أسماءهم الحقيقية، ضمن استدراج موفق من المخرج لجعل الأداء لصيقاً وعضوياً، رغم الإسقاطات الفارهة والمخلخلة لسيرورة الزمن، والهادمة أيضاً لهيمنة الواقع وسطوته. مسرح الورشة وكانت استحقاقات فوز المسرحية بجائزة أفضل عمل عربي، واضحة وجليّة من خلال اللعبة المدهشة والمحكمة من جهة التوليف السردي والبصري، حول ثنائية الماضي والحاضر، والنور والعتمة، والعنف والهشاشة، يتجسد الماضي هنا في كهف الظلال المرعب والمحمي بشبح ريتشارد الثالث، والخارج من عمق الملحمة الشكسبيرية، دائخاً ومدوخاً ومسكوناً بالشهوة الضارية والدموية في اشتباكها بالسلطة، بينما يتشكل الحاضر وسط أسرة تونسية تتخطفها الثورة الجديدة في البلد، وسط أفكار متناحرة وعلاقات متأزمة، وأوهام سوداء تتصارع مع براءة التمرد، في بيئة من التجاذبات المنهكة والاحتدامات الذهنية وتصادم الأجيال، خوفا من ولادة ديكتاتور جديد على شاكلة ريتشارد الثالث، أو من يشبهه من طغاة العصور الحديثة. وبدا واضحاً في العرض انحياز المخرج لما يمكن أن نسميه مسرح (الورشة)، بحيث تمتزج عناصر التأليف والإخراج والأداء وحتى الموسيقا والإضاءة والمؤثرات الجانبية، في كتلة واحدة يصعب من خلالها تحديد من هو المتحكم في خيوط العرض، ومن هنا فإن كل عرض جديد من هذه المسرحية لن يكون رديفاً لسابقه، فيما يشبه البروفة اللانهائية، حيث لا قواطع ولا حدود ولا أطر ثابتة لهكذا مشهد يتشكل من دواخل المتفرج ويخترق الخشبة، ويعيد هندسة الروح الجماعية ومنمنمات السينوغرافيا ويتلاشى ويتبخر ويمطر مجدداً في سديم الحياة وتقلباتها وانجرافاتها وتبدلاتها التي لا تعرف السكون، ولا ترتهن لمنطق أو ثبات أو ديمومة. زمنان منفصلان ينطلق عرض «ريتشارد الثالث» من واقعين وزمنين منفصلين، هما الواقع الخاص بعائلة تونسية تعاني صراعاً داخلياً بعد رحيل الأب، وهنا يلجأ الكاتب للغة المحكي اليومي في صياغة الحوار، أما الواقع المقابل، فيتمثل في البيئة التآمرية المحيطة بالبطل الشكسبيري المأخوذ بسحر (الأنا) والمتشكك بأقرب الناس إليه، ولكن النسخة التونسية من ريتشارد الثالث في هذا العرض السيميائي بامتياز، ستكون هي النسخة المصاغة بمخيلة الشعر البديل، والقصيدة التي تنطلق من قيم كلاسيكية، إلى منظور عصري، ومن خلال مسرح لا يعترف بمنهجية محددة تقيّد تأويلات النص، وتحاصر رؤية المخرج، وتكتم حرية الارتجال لدى الممثلين، وكان للتقنيات السمعية والبصرية المتطورة والذكية، دورها المهم هنا في صنع إيحاءات مشهدية لفضاء العرض، وما اعتمل فيه من توتر درامي فائض، ملأ مساحة الخشبة من العمق، وحتى صالة المتفرجين. وعززت (الإضاءة) من التأثير الإيحائي الباذخ لجماليات القسوة والتي هيمنت على كامل تفاصيل العرض، فحلّت الإضاءة مكان الديكور والسينوغرافيا التقليدية، بل كان يخيّل للمتفرج، وفي فترات كثيرة، أن الإضاءة هي جزء أساسي وأصيل في المنظومة الأدائية للعرض، وكان اللعب على مناطق الظلمة والنور وما يتخللها من منطقة رمادية تجمع محنة العائلة التونسية ومحنة ريتشارد الثالث، هي لعبة مسكونة بالسحر والمتاهة اللذيذة عندما ينصهر الماضي في الحاضر، ويكون المستقبل ضرباً من الغيب المتجسّد الذي ينقل سؤال الثورة التونسية إلى حوافّ المراجعة والنقد والاختبار الفني التنبؤي على خشبة المسرح، وخارجها أيضاً. يقول ريتشارد في منتصف العرض: «خلقت قبيحاً، كي أرى الوجود جميلاً»، وفي نهاية العرض يجتمع عدد من الشخوص الغامضين، وقناديل خافتة تتأرجح بين أيديهم وهم يوجهون خطاباً شعرياً فائضاً بالإدانة نحو ريتشارد المسجى تحت أرجلهم، ويقولون: «أيها العاشق لوناً أوحدا، هل ترى السفرة في الشمس علينا سرمدا، لا ولكن، كلما حان المغيب، لبست من حمرة الأرض رداء، حتى لا يولد ريتشارد جديد». ورغم أن مشهد الختام كان منفصلاً نوعاً عن الإيقاع العام للعرض، وعن مناخاته الكابوسية الضاجة بالعنف الجسدي واللفظي والإيمائي، ومن الانشقاقات الحادة في بنية العائلة التونسية، وكذلك في النوايا المسمومة لبنية العائلة الملكية المحيطة بريتشارد، إلا أن هذه الخاتمة التي شهدت محاكمة ريتشارد شعرياً، جاءت لتلخص شيفرة العرض التي تنظر بعين مرعوبة لولادات ممسوخة قادمة، ومحذرة في ذات الوقت من ثورات تعمل دون وعي على ولادة دكتاتوريات جديدة، وطغاة آخرين مملوءين بحقد أشدّ، وبعنف أكثر شراسة، مقارنة بمن سبقوهم من الطغاة والمعتوهين. وسبق للمخرج جعفر القاسمي المعروف بالتنويع في رؤيته وأساليبه الإخراجية تقديم مسرحية بعنوان «بوراشكا والفلايك ورق» اعتمد فيها تقنيات المسرح الروسي، والذي أسقط فيها الجدار الخامس الذي يفصل الجمهور عن الكواليس، وقدم بعدها مسرحية «حقائب» التي حصد من خلالها جائزة الخشبة الذهبية في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في العام 2010.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©