الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

قصيدة محمد بن راشد الجديدة .. نفس شفيقة وروح عذبة

قصيدة محمد بن راشد الجديدة .. نفس شفيقة وروح عذبة
26 ابريل 2017 12:29
محمد عبدالسميع (أبوظبي) في رائعة من روائع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، نحن أمام لغز يجيء في آخر القصيدة، ليس ثقيلاً ولا مصطنعاً، وإنما هو من وحي هذه القصيدة العتابيّة الشفيفة المترفقة، والتي تنبئ عن نفسٍ شفيفة وروحٍ عذبة لسموّه، في مقطوعة مُغنّاة بليغة، حملتها تفعيلة «فاعلاتن/ فاعلاتن/ فاعلاتن»، بما لهذه التفعيلة من حزن وألم ارتجله الشاعر الذي عبّر بكلّ مقومات التعبير البلاغي واللغوي والبياني عن حالته واندهاشه من هذا الذي يستعجل الجفاء ولا يتبيّن حقيقة الأمر. وفي القصيدة نحن أمام طقوس تستدعي حالات من التشاركيّة والتوحّد مع روح الشاعر المحبّة، خصوصاً وهو يستهلّها بوصف المحبّ العارف بتصاريف الأيام الذي امتلك رؤيةً مسبقة نتيجة معرفته بكلّ هذه التفاصيل، لا سيّما وهو يشبّ ضوّءه فوق ذلك «الرجم» العالي الذي يشكّل بحدّ ذاته منارةً يهتدي بها الناس لوضوحه بكلّ هذا العلو الذي يحمل معرفته وسداد فكره وتجربته، وإذ يقف الشاعر من علٍ ينظر تقلّب الدهر وأحواله، خصوصاً وهو المشهور بإنكاره ذاته لأجل من يحبّ، فإنّ صفاته الواضحة «المثال» إنّما هي في ارتفاعه العالي عن الصغائر من الأمور بأفكاره التي ربّما لم يسبقه إليها أحد، فهي حكرٌ عليه، وفي ذلك افتخارٌ موفّق يدلّ على عظيم منزلته، فهو الذي يسقي العطاش من «فيض نوّه»، بما يحمله الفيض الذي يغمر الأرض العطشى فيفيض عنها من معنى بلاغي، أي أنّه مصدرٌ للحكمة والحبّ والمعرفة والبصيرة، فهي عادته وطبيعته، وهي عادةٌ بالتأكيد ليست بمستغربةٍ عنه أو مقحمةٍ عليه، لأنها مستمدّةٌ أو مأخوذة عن والده وجدّه، فهي يتوارثها الأبناء عن الآباء، وهي خيطٌ يربط أجيال السلالة على الدوام. لكنّ هذا الشاعر به من الشوق وتعب الشوق نارٌ يكتمها وتظل تكويه، بل إنّ لها جمراً وقّاداً ملتهباً إذا أصابت اللحم يتفصّد فيها، وهو تشبيه بليغٌ لنار الشوق المعنوية التي حملت صفات النار الماديّة بكل هذا التكثيف في الوصف. إنّه الشاعر الذي يستعذب الوصف، فكأنّه ذئبٌ يطلق زفراته بعيداً من دون أن يسمعه أحدٌ، وقد خلت معدته من طعام، ولنتصوّر هذا الإمعان في الوصف، وحفز المتلقي على مشاركته بآلامه، فهذا الذئب بعوائه الذي يحرق قلب شريكه في الألم، يظلّ صوته الكسير الذي تردد الأودية صداه في ليلٍ مظلم- تعبير عن الوحدة والوحشة أيضاً- هو «ندبة شحوحٍ يشنّون الحريبة»، وفي ذلك تشبيه مستمدٌّ من البادية الأصيلة بمعطياتها الحزينة الواسعة المرعبة في التفاصيل ودقّة هذه التفاصيل. وإذ يمهّد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بهذه الحال التي تتساوى تفاصيلها مع ما سبقها من جراح وطعون، بل هي تتفوّق عليها فلا يعرف نارها وهمومها غير المحبين، فإننا أمام الشاعر الرسّام الذي يبدع في وصف حبيبه الذي بات أشبه بالعدوّ، بل بات يسدد إليه الطعنات المؤلمة، أمام نفس هذا الشاعر التي لا تقبل غير الحبّ، والتي تتلقى الطعنات بصمتٍ بل باندهاشٍ لهذا الخنجر الذي ظنّه عناقاً، وهو ما يزيد من شعورنا معه بمأساته العاطفيّة التي هي في الواقع مأساة كلّ محب، فالشاعر ينوب عنّا في ذلك - وتلك ظلال القصيدة على المستوى العاطفيّ والإنسانيّ، فضلاً عن نقل التجربة الفرديّة بطبيعة الحال - ليترك لدينا أبلغ الأثر في تقمّص الحالة وارتدادها النفسيّ علينا نحن معشر المحبين، وهنا يتساءل الشاعر، إذ لربما وشى به واشٍ عند هذا الحبيب الذي تغيّر «جوُّه» فجأةً فتعكّرت الأجواء نتيجةً لهذا العداء المفاجئ الذي لم يكن بالحسبان. ومما يزيد من دفقات الألم أنّ هذا الحبيب لم يكن ليتروى أو يتريّث، بل كان عجولاً وقاتلاً بعدم تبيّنه حقيقة الأمر، وفي هذا فإنّ حكمةً يبثّها الشاعر تقول بأنّ العجلة إنما تورث الندم والأسف ولكن، بعد فوات الأوان. ولأنّ هذا المحب العدّو العَجول بات يطوي حبال الوصل- ولنلاحظ دقة الوصف والبلاغة في التركيب- فإنّ الشاعر المحب يكتفي باللوم والعتاب، وهما صفتان ودودتان اتخذهما الشاعر قبل أن تضيع فرصة التصافي بعد كلّ هذا العداء من جانبٍ واحد، إذ سرعان ما يظهر الشاعر أن قلبه الذي يحب وينكر ذاته لأجل الحبّ إنما هو قلبٌ يتوافر عليه شاعرٌ له عزّة وإباء؛ ولعلّه هنا يعذر المحبّ الظالم في أنّه لم يرَ فيه غير جانب الودّ والحنان واللين، فالشاعر الذي يكثّف من صفاته التي تدلّ على صفاء روحه وعذوبة إحساسه يبدع في التركيب: «صافيٍ لك بالصفا الصافي صِفوّي/&rlm&rlm صفو مصفاي العسل ما شي يعيبه»، وهنا فإن تركيباً عالياً في الوصف والاشتغال على تجاور الألفاظ والأحرف وتكرارها لتأكيد المعنى والإعجاز باللفظ، فلا بدّ أن يكتشف المحبّ المتسرّع يوماً أنّه يستغلّ هدوء المحبّ فيعمد إلى المزيد من الظلم وحرق الأعصاب، فالشاعر يعيش مع حبيبه لا يفارقه، فهو في حضوره يعيش معه وفي غيابه يختلي بخياله، وفي ذلك دقّة مرعبة في الوصف تؤكّد العيش الدائم للشاعر مع هذا الحبيب. ولأنّ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد عوّد قراءه على أن يشاركوه في اكتشاف ما للغة من مفاتن وكنوز، فإنّه هنا يرمي إليهم بأحجيةٍ تحملها اللغة، لغز يوجّهه لهذا المحب الذي يتسرع في اتخاذ قرار القطيعة والجفاء، إنّه يسأله عن شبيه الذهب في قيمته، وهو حيث يتوفّر فإنّ زهداً بسواه واستغناءً به عن غيره، وهو يحمل معنى النداء ويستجيب، ومن خصائصه أنّه «إن تفضّ الختم يدنيك الدّنِوّي/الجواب يكون في القبلي تصيبه!». تلك هي أحاسيس الشاعر المرهفة، وتلك هي حكمته ودليله لعودة المحبّ، فكأنّه ينادي «عود»، وكأنّ الفرصة لا تزال قائمةً لاستعادة كلّ ذلك الصفاء. موسيقيّاً: استفاد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من خصائص بحر الرمل في تتابع دفقاته وسرعتها، وهو ما تستلزمه الحالة وتدعو إليه من مبادرة سريعة في بثّ الألم والشكوى والعتاب واللوم، كما أنّ نهاية الشطر المنتهي بواو وياء في كلّ أشطر القصيدة يجعل الوقف يأخذنا بسحره وجرسه الموسيقي في الارتكاز على الياء المسكّنة، أما لازمة الياء والباء والهاء المسكّنة في عجز القصيدة فهو استثمار طيّب يصلح لأن تغنّى معها الأبيات. أما في متن هذه التراكيب، فإنّ تشبيهات بليغة تدلّ عليها حالات العشق التي يعرفها المحبّون والمستهامون، والذين لا يخفف عنهم غير أبيات يصدحون بها كالذئب الجريح فوق رأس «رجم» خصوصاً، وهم تتلظّى قلوبهم فوق كلّ هذا الركام من جمر الشوق وظلاله النفسية الصعبة، وقد وفّق الشاعر في أنّه أظهر تلطّفه بحبيبه على الرغم من جفاء الأخير، لدرجة أنّه وضعنا بصورة المشهد كاملاً، كما أنّه كان بليغاً جداً وهو ينتصف لنفسه ويظهر أنّه إنما يغلّب جانب اللين على القوّة، لأنّ اللين قوّة أيضاً بل هي الجانب الآخر من قوّة المحبّ وتسامحه ورحمته بمن يحب. أمّا اللغز، فهو تقنية سار عليها الشعراء من قبل وتفننوا بها للفت القراء وإشغالهم بقراءة القصيدة والتفكير بـ«مربط الفرس» أو «بيت القصيد»، فكأنّ ذلك «شيفرة» أرادها سموه لتتناسب مع صفاته ومعدنه الذي لا ينتج إلا «الطيب»، وكأننا أمام ختام موفّق لقصيدة بطلها الحِلْم والحُلم بالعودة واللين والحب والبوح بحالات من العشق الصادق أمام أبواب مغلقة وحبيبٍ لا يرحم استعجل حبيبه المخلص بإصدار كلّ هذا الجائر من الحكم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©