الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بعد خراب البصرة..

بعد خراب البصرة..
28 ابريل 2010 21:07
أثار المقال الذي نشره ملحق “الاتحاد الثقافي” في (2010/3/18) عن ابن دريد، والذي هو في الحقيقة ملخص للورقة التي قدمتها عن هذا المعلم والراوية والنسابة في ندوة العويس التي عقدت حوله في الأيام الأخيرة من العام الفائت.. أثار ذلك المقال ردّات فعل، أغلبها حنيني أو تذكري للعلاقة التليدة بين موانئ هذه المنطقة والبصرة. وكان ممن اتصل بي رجل من كلبا تحدث لي طويلاً عن ذكريات وعلاقات كانت بين بعض أقاربه أو معارفه مع ناس البصرة. علاقات زواج وعلاقات تجارة وعلاقات ارتحال متبادل. بالمقابل، قلت له إن البصرة كانت محطة رئيسة من محطة بحّارتنا السفّارة، وكان أبي أحدهم، فإلى هناك كانوا يتوجهون كل موسم بسفنهم الخشبية المهتزة، ثم سائحين على المحيط الهندي، محاطين بعواصفه، وهم يحملون من تمر البصرة ومائها وهواء بندرها ما تتسع له أدراج سفنهم صناديقها السعفية. وعندما كنت أعمل على ابن دريد، تفتحت في فم قلمي عديد خيوط عن هذه العلاقة، أظنها ستكون فصلاً صعباً من فصول عمل أحلم بكتابته عن الرجل، خاصة أن البصرة منذ تكونها وانطلاقها كمصر أو مدينة في حدود الأربعينيات من القرن الهجري الأول، قام نسيجها السكاني والخططي على حضور لافت للجالية العمانية. أو ما أطلقت عليه ذلك قاصداً مجموعة من سكان شبه جزيرة عمان، أي سلطنة عُمان والإمارات العربية الحاليتان، والتي ساهمت في “فتح فارس” عبر جلفار أو رأس الخيمة، وأعطيت لها محال وأخماس في بصرة طور التكوين كمكافأة على المشاركة في ذلك “الفتح”. الأجيال التالية من أبناء وأحفاد تلك الجالية سيبرزون كمؤثرين فعليين في تشكيل أعظم عصر شهدته الثقافة العربية/ الإسلامية، أي ذلك العصر الذي يُطلق عليه اليوم تسمية عصر التدوين، ومن أحفاد تلك الجالية المبرزين: الخليل بن أحمد الفراهيدي مثلاً. العُمانيون، ظلوا ومنذ تلك الفترة يفخرون بالوجوه البارزة من أبناء تلك الجالية وأحفادها، وجوه بارزة في الجيش والفتوحات والولاية والقيادة كأبي صفرة وأبنائه، أو وجوه بارزة في التدين والتمذهب والتصوف كأبي الشعثاء جابر بن زيد أو العاشقة الإلهية رابعة العدوية، أو في الشعر كبشار بن برد أو في الأدب واللغة والرواية كالخليل بن أحمد وابن دريد. يفخر العُمانيون بقائمة تضم مثل هذه الوجوه البارزة عبر الأزمان، ولأسباب شتى، لأسباب قبلية ولأسباب دينية ولأسباب سيكولوجية ولأسباب ثقافية، ولم يخف أداء هذا الفخر، بل ازداد اشتعالاً في العصر الحديث، أي في هذا العصر الذي أحس فيه العُمانيون بأنهم ملقون جانباً على طرف من التاريخ والجغرافيا تبزهم المراكز العربية بإرثها الثقافي الغليظ، أو على الأقل حين احتاجت سلطاتهم الوليدة المعاصرة إلى دعامة من ثقافة تضمن لها تميزاً وفرادة وخصوصية، وبالتالي شرعية وتمكن. إلا أن مستقبل الثقافة في شبه جزيرة عُمان، على ما بدا لي، وأنا تجتاحني مثل هذه التساؤلات، بحاجة إلى أكثر من مجرد الفخر بهذه الوجوه البارزة، أو ما اصطلحت على تسميته في ورقتي المذكورة أعلاه بـ”القائمة العُمانية”. إنها بحاجة أولاً إلى مواجهة الذات، إلى قراءة الأسطورة التي تأسست عليها الأنا الجماعية، إلى تفكيك السردية التي روت وتروي سيرة هذه الأنا، إلى التحولات التي انتابت هذه السيرة، إلى اكتشاف الآليات والبُنى التي تحكمت في المجرى العام لهذا الروي، إلى الشخصنة والتمثيلات التي تمظهرت فيها تلك الآليات والبنى. هكذا قادتني هذه الملاحظات إلى ما قبل تأسيس “القائمة العُمانية” تلك، أي تلك السيرة البدئية عند العُمانيين، ألا وهي سيرة مالك بن فهم وأولاده وأحفاده. كما قادتني إلى الإحساس بأهمية إيقاظ مثل هذه النصوص المدفونة في زجاجة الاستعمال، للكشف عن اللحظات المعتمة في تاريخ هذه البقعة، كما في جغرافياتها، حروب قبلية لا تتوقف، ارتحال لا يكف واستعمار تلو آخر، وصحراء تأكل من دماغ الجبل، وموجة ضائعة على سواحل الكلام. من جهة أخرى، فإن مواجهة الذات كذلك تعني قراءة العلاقة، علاقة هذه الأنا الجماعية، مع الآخر. هذه العلاقة التي تؤسسها تلك النصوص المدفونة وتلك “القائمة” الفخورة التي يؤسسها التاريخ، وتؤسسها الجغرافيا. علاقة مع الصين، كما العلاقة مع الهند، علاقة شائكة مع فارس كما العلاقة الأكثر تعقيداً مع شرق أفريقيا، علاقة مع عدن، كما وعلاقة خاصة (... خاصة أننا نتحدث عن ابن دريد هنا) مع البصرة. فريدة هي تلك العلاقة، فريدة لأن العالم المتصل بين رأس الخليج ومضيقه فريد. وفريدة لأن ما حدث تاريخياً في بلاد ما بعد رأس الخليج، أي بلاد الرافدين أقرب ما يكون إلى المعجزة البشرية، وفريدة لأن المعجزة تلاقحت وسالت عبر مضيق الخليج كي تحمل الأمواج أكثر من الغرقى وتتهشم على سواحل الهند والصين والجزر الضائعة في بحر الظلمات، وفريدة لأن رأس الخليج بعد ذلك حمل المفتاح الذي أطلق الحكايات من صندوق المسافرين، والكلمات من أفواه البداه الرحل، وفريدة لأن البصرة فريدة. ولعلّ أكثر الكتابات التي قرأتها، وأثارت المتشابك من الهواجس في ذهني، ذلك المقال القصير الذي كتبه ماسنيون عن خطط البصرة. فإشارته أو جمعه بين تقعيد العروض كما أحدثه الخليل، والطرق على النحاس (وما أدراك بعلاقة العمانيين بالنحاس) في أزقة محل الأزد حكاية لوحدها، ورحم حكايات إشارته الغامضة إلى العلاقة بين هذا “العلم”، و”علم” الأنواء في المحيط الهندي. البحرُ عند هذا الأفق، سينجبُ جلجامش وحكايات السندباد، ولجوء بني ميكال إلى “مقصرة” ابن دريد في صحار. وبمجرد ذكرنا بجلجامش فإن الأمر بالطبع سيأخذنا إلى ما قبل نشوء البصرة، أو إذا صحَّ ما أقول، إلى “خرابها” الذي سبق نشوءها. إذ يُقال إن بصرة القرن الهجري الأول قامت على أطلال قرية تدعى “الخريبة”. من هذه النقطة فحسب ستتوالد المزيد من الحكايات، يقودها مثل ما زال شعبياً ويركب على ألسنة عديدة: “... بعد خراب البصرة”. ولأن الحياة كالحكايات لا تكف عن التوالد، فلقد صادفت مقالاً لأمبرتو إيكو نشرته جريدة “الاتحاد” أيضاً (2010/2/26). وفي هذا المقال يتحدث ايكو عن “أدلة الكتب النادرة”، منطلقاً من ملاحظة أن الكثير من محبي الكتب اليوم “يقرأون دليل الكتب النادرة، كما يقرأ الأشخاص الآخرون القصص المثيرة”. ويبدو أن إيكو ليس مهتماً جديداً بهذا النوع من الكتب، إذ يذكر أنه علَّق منذ سنوات على أحدها، “لكن المزيد”، كما يكتب، “من هذه الأدلة يستمر في الصدور وبالأخص في فرنسا التي عرفت باحتفائها بالثقافة والوعي”. وبعد هذه الجملة، يكتب إيكو جملة سأنقلها كاملة وأختم بها هذا المقال: “لا يسعني إلا أن أطلب من القراء الانضمام إليَّ في تصفح الدليل الحديث المسمى: كتب نادرة وغريبة، الصادر عن: ليبرير اسويسي، (وأن ينضموا إليّ أيضاً لكي أرتاح قليلاً من كآبة الصحافة وتشاؤمها)، وتضم الأعمال المذكورة في الدليل أطروحة جدية مفصّلة بإسهاب حول أغنية حمامة لكاردينال بيلارمينو (نعم محقق غاليليو)، كما تضم أغنية حول موقع الجنة الأرضية، بحسب بيشوب هويت. ويعتقد هويت خلافاً، للتقليد، أن الجنة تقع في البصرة وليس في الشرق الأدنى، مما قد يتيح لنا أن نفهم بعد جهد جهيد هدف بوش الابن من غزو العراق”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©