الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعراء الإماراتيون والليل.. كل يغني على (ليْـلِهِ)

الشعراء الإماراتيون والليل.. كل يغني على (ليْـلِهِ)
28 ابريل 2010 20:50
باستثناء تلك الصورة التي رسمها أبو العلاء المعري لليل (ربّ ليل كأنه الصبح في الحسن / وإن كان أسود الطيلسان)، والمديح العالي الذي رفعه بدر شاكر السياب لليل حين وجد له حسنة فارقة جعلته أجمل لأنه “يحتضن العراق” – وهي في الحقيقة من الصور الفارقة في علاقة الشاعر بالليل – لا يكاد المرء يعثر على صورة تتعاطى مع الليل بهذا الجمال على مستوى المضمون، بل إن المرء يستطيع القول وهو مطمئن النفس ومن دون أي وخزة ضمير أن الشعراء أسبغوا على الليل من صفات السواد ما يفوقه سواداً، وألبسوه من الثياب ما يبزّه حلكة، يستوي في ذلك قدامى الشعراء وحديثهم. فالليل ظل بالنسبة إلى الشعراء بؤرة جحيمية تتفجر فيها أحزانهم وعذاباتهم، وخزّاناً أبدياً للألم واللوعة، ما أن يفرش عباءته على الكون حتى تصحو الأوجاع المنقرضة والمهملة والمتروكة في غمرة الجري وراء الحياة وأخواتها. وربما لا يتفق مع صورتي المعري والسياب في الفرادة – والفرادة لا تعني الحسن باستمرار – سوى تلك الصورة التي قدمها الرحابنة في واحدة من مسرحياتهم التي ساوَتْ بين الليل وعنترة بن شداد في “سواد البشرة”، وصدحت بها فيروز: “ع البوابة في عبْدين/ الليل وعنتر بن شداد”. وإذا كانت الذاكرة الشعبية تختزن لليل صورة جميلة: “أبو الغلابة” الذي يسبل ستره على العشاق والموجوعين والمشردين والثائرين والفارين من أي شيء يستحق الفرار، فإن الشعراء لم يكونوا “غلابة” بالمرة مع الليل.. بل إن من يتتبع صورة الليل في الشعر العربي يجد الليل مظلوماً على كل المذاهب.. فهذا امرؤ القيس يرى فيه ابتلاء نزل به كموج البحر وجاءه بكل أنواع الهموم، وهذا النابغة الذبياني يستعيره ليرمز الى موته المحتم المتمثل في سطوة النعمان بن المنذر المطلقة التي لا بد أن تطاله تماماً كما الليل لا بد أن يدركه... إلخ. ورغم ما يقدمه الليل للشعراء من فضيلة الإنصات إلى بوحهم وهذياناتهم، ظل بالنسبة إليهم طويلاً ومملاً، إلا في حالات السرور والمرح والمتعة وهي ليست كثيرة على كل حال، وعدواً مخيفاً مهولاً إلى الحد الذي جعل المتنبي يستعين عليه بالخيل فقدمها عليه مستمداً منها الشجاعة في مواجهة هذا الأسود الهائل في حضوره. وازداد الليل طولاً، وثقلَ وطأةً مع الشعراء الذين ذاقوا مرارة الأسر وعذابه مثل الأمير الأسير أبو فراس الحمداني الذي وجد فيه مساحة واسعة للشكوى والتأمل وربما للبكاء تفريجاً عن كروب النفس وحزنها ومكابداتها المضنية. الليل.. وأسماؤه الحركية يبدو أن الليل يطول ويقصر على هوى الشعراء وعلى قدر معاناتهم، قد تختصره جملة شعرية وقد تضيق عنه قصيدة، وربما تعددت صوره لكن مضمونه يظل واحداً، وسواء كان ليلاً أو ظلاماً أو ظلمة أو عتمة أو حلكة، وما هذه الاسماء إلا أسماء حركية لليل، فإنه يحبل بأفعال غير مرغوبة لأسباب عديدة لا مجال للتفصيل فيها، أقلها الظلم والغربة والقهر والتلاشي والألم والضياع والحزن والفقد وكل ما يخطر أو لا يخطر على بالك من الحالات الانفعالية المشابهة التي لا تتسع المساحة لإيراد شواهد عليها.. ورغم أنه طويل على العشاق وعلى الثوريين في آن إلا أن لكل منهم في التعاطي معه مذهب، فالعشاق ينتظرون بزوغ شمسه بفارغ الصبر ليقصِّروا أمد الفراق، والثوريون يشاركونهم انتظارهم على اعتبار أن أشد حالات الحلكة هي التي تسبق الفجر.. عشاق ينتظرون مصافحة وجه الحبيبة الوضاح.. وثوريون ينتظرون معانقة وجه الحرية الوضاء، ولليل في مريديه شؤون!. تلك باختصار (أعترف أنه مُخِلّ) صورة الليل لدى شعراء العروبة أياً كان تصنيفهم، فكيف هي صورته لدى بعض شعراء الإمارات؟ كيف تعاطى شعراء هذه المجموعات موضوع القراءة مع الليل؟ يلاحظ القارئ المتفحص أن صورة الليل في الشكل العام، بوصفه مصدراً للبوح والشكوى، لم تتغير، بل الأسباب هي التي تغيرت، أعني أسباب الهموم التي يأتي بها الليل كاملة وافرة... كما تغيرت صورته الفنية أيضاً عن الصورة التقليدية خلافاً لما يذهب إليه الكثير من النقاد الكلاسيكيين الذين يرون في صورة امرؤ القيس والنابغة الذبياني أعلى ما وصل إليه تصوير الليل جمالياً. ولقد اتسع مدى الصورة في قصيدة النثر لتشمل ظلال الأسئلة الوجودية التي تنغل في عقل الشاعر حيث لم تعد تباريح الجوى السبب الوحيد الذي يجعل ليل الصبِّ طويلاً، بل تكفلت الحياة المعاصرة بكرم لا مثيل له بتزويد نيران الشاعر بحطب دائم، ومنحته من المآسي والهموم والنوازل الكبرى ما يقصم ظهر القصيدة وظهر الليل نفسه، وهكذا، وجد الشاعر بين يديه نهراً من أسباب الحزن ودواعيه “يرصع” بها ليله الكابي، ويفرغ عليه من خسرانه الذي يستشعره تجاه فداحة ما يجري حوله. لم تعد النظرة الى الليل رومانسية بالمعنى الفني والعاطفي للكلمة، بل صار في مساحة الهموم هموم عامة يكابدها الشاعر لتتوالد عنها هموم نفسية وشخصية تعبر عن نفسها في صورة متعددة تحمل مدلولاتها ورموزها التي جاءت متباينة تباين الشعراء أنفسهم في نظرتهم الى الحياة والوجود والكون والليل. ومن هنا، اختلف ليل كل شاعر عن ليل الآخر، تبعاً لوعيه وثقافته ومحصوله الفني والجمالي واللغوي الذي يهيئ له نسجه الفني وهو يطرح على الليل أسئلته، أو يقوده إلى القصيدة ليقوِّله مشاعره ومواقفه. ليل وجودي يمنح الشاعر خالد البدور لليل ديواناً كاملاً حيث أطلق اسم “ليل” على مجموعته الشعرية الأولى، مضمناً إياه صوراً عديدة بليغة الدلالات، ناضجة فنياً، ومسنودة بعمق فكري وفلسفي تساؤلي يجعل منها حالة شعرية متميزة مع هذا الكائن الذي رافق وما يزال يرافق الشعراء في الكتابة، وكان وما يزال ملاذهم الذي يلجأون إليه لتفريغ شحناتهم الروحية، وربما لا يحلو حالهم إلا في هدأته وسكونه الذي يأتي معادلاً لضجيج النهار وفوضاه. لكن الليل مع ذلك لا يسير في هذا السياق باستمرار وقد نلمح هنا أو هناك ضجيجاً ليلياً غالباً ما يغلف روح الشاعر نفسه، إنه ضجيج الداخل الذي يعلو ويهدر فيما الصمت يخيم على كل شيء.. وهذا مألوف ومنطقي فالنقيض يظهر نقيضه والضد يجلي ضده في العادة. يطول ليل خالد البدور أكثر مما ينبغي حتى إنه يفقد إحساسه بالزمن، ويصبح الليل/ الشاهد على غياب الناس والأشياء، بلا تاريخ.. وتصبح الكتابة هي المؤرخ الحقيقي لتلك الخطوات التي تذهب ويغادر أصحابها حتى آخر منديل، فيما تذبل القناديل تباعاً.. لكن الكتابة تعجز هي الأخرى عن تصوير حدة الغياب واستمراريته فتتوسل بالليل/ المعادل الفني، ممثلاً في الظلام الذي يجوس العالم، ليجسد جزع الشاعر على ما يذهب ويندثر وفزعه مما ينتظر حتى الصغار حين يكبرون. ويرافق الليلُ الشاعرَ إلى قصيدة “البهو” ليصوغ كل وحشته ووحدته وتوحده مع ذاته، ومع الصورة الغاربة والخطوات المترددة التي لا تأتي، في صورة الليل، الذي صار (بلا أحبة) وترك البهو مثله أيضاً (فارغ ووحيد). وذات وجع يفري القلب، وذات ليلة أينع فيها الألم، يكشف البدور أحلامه للكلمات ويقول لها: اقرأي، ثم يعدد “وقائع ليلة الأربعاء” تلك الليلة الطويلة التي لكثرة ما حملت من الألم والصمت مارست على روحه عذاباً ساحقاً وأدخلته في حالة السكون المطلق او الوحدة الكاملة، إلى حد أن: الليل لا صوت له الصوت بسهاده الوحيد بلا ليل. لا يبدو الليل عند خالد البدور صورة صماء واحدة، بل تتنوع طرائق التعبير لديه وهو يصور الليل الذي يلقي بظلاله على الأمكنة، فتارة يستخدم اللون: (ذات مساء/ حين ترك الليل لونه يتكدس في الزوايا)، وتارة ينزاح الى مرافقات الليل وصويحباته التي تؤثث حقله الدلالي كالقمر (أين ذهبوا/ الأسرّة بلا أحبة/ والقمر يتلاشى/ كغريب لا يقوى على البقاء).. هنا يصبح الليل رمزا للغياب الذي يتمظهر في كل ما حول الشاعر: مقاعد الساحات الفارغة/ الأشجار/ وباقي الأمكنة. القمر نفسه سيظهر في قصيدة تالية “قمر آب” بوصفه رمزاً للحزن الهائل، الحزن الذي يجعله (لا يقوى على النوم) متماهياً مع حال الشاعر الذي يعيش حزناً وجودياً غامراً منبعه هذا التكرار الممل، الممض، الذي تمارسه الحياة لظواهرها وأشيائها وموجوداتها فيما الموجات تتدافع بلا نهاية... بيد أن الليل الذي يأتي في حمولات فنية متصاعدة طوال القصائد سوف يبلغ مداه أو أقصى تماثله الوجداني وتوتره الفني ونضجه الإبداعي وهو يرسم النهاية في قصيدة “أقول لكم” التي ستعلن لنا بالفم الملآن أننا لا نعرف الليل: الليل هو الماء حيث مجرات الكون العظيمة تدور في موكب سماوي، دوائر أبدية ألهذا علينا أن لا نسأل يأي خطيئة نبقى مشدودين إلى الحياة المحرقة والأرض تتدلى كمعصية معلقة في السديم يا لصورتنا في الليل نحن الأحياء نستعير ثياب الموتى في النوم كما في الموت أرضنا خالية وحدها النجوم تتساقط في الآفاق تنطفئ في القطب النيازك نقول نعرف الليل لكننا لا نعرف أبداً. صباح الليل في علاقته بالليل يقع الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم على دلالات بوحية يفصح فيها عن حمولات الليل وأحماله. وفي ليل هذا الشاعر البارع مساحة للمحن التي عاشتها وتعيشها الأمة، وفيه ما يدمي القلب ويفتح الذات الشاعرة ليس فقط على ألمها الخاص بل على ألم الآخرين، وحين يبكي الشاعر في “ليل المحن” فإنما يأتي بكاؤه على الأحلام القتلى والأوطان الممزقة والكرامة المستباحة. وفي مناخ كهذا يصبح الليل في نظر الشاعر محلاً للكآبة ويغدو (شريط النور كمشنقة تتسلل من ثقب الباب الموصود). ولكي يقول أحزانه العميمة يحتاج إبراهيم محمد إبراهيم إلى “وصلة ليل” تكون أطول من الليل العادي، إنه يحتاج ليلاً طويلاً ومختلفاً يكفي لما سيسرده زواره الليليون من ظلم النهار وما يجري فيه، يقوله بجمال فني يملأ الروح بالدهشة، ويأخذ المتلقي إلى تخوم الصورة المجنحة: هذه الشمسُ تشربُ أطرافَ ليلي .. فلم يبقَ لي منهُ غيرُ القليلِ. ولم ترتوِ النفسُ من فيضِهِ بعدُ، هل لي بِوصلةِ ليلٍ طويلِ؟ أُحدّثُ فيهِ الذينَ يزورونني حينَ تغفو الخليقةُ عن ظُلُماتِ النّهارِ وعن قاتِلي وقتيلي. هذه الصور التي تترى تباعاً في القصيدة، تتوالد أو تتناسل كما تتناسل الأحداث في أفعال متواترة ترسم صورة الرؤية (بما هي فكر وموقف) والرؤيا (بما هي حلم أو منام)، ولأن الرؤيتين تحتاجان إلى تفكيك العلاقة بين القتيل وقاتله، والليل وتمائمه، والناس وموتهم، والشاعر وأحلامه، لا بد من ليل إضافي يتسع لكل ذلك. وتتواصل التقاطات الشاعر الفنية والجمالية في “عزلة” مؤنسناً الليل الذي يكتسب صفات الكائن الحي، ويجري معه حواراً يتوفر على لغة أدبية عالية مشغولة بدأب إبداعي، ناقلاً لنا حاله مع ليل ثرثار. في “الطريق إلى رأس التل” يرتّل الشاعر في نفَس ملحميّ وجع الذكرى على أذن الليل، يسكبها على حواف صورة مارقة منشئاً حالة من العشق الصوفي للبلاد والعباد، كانساً في طريقه كل ما يعطل الوصول والوصال. ها هنا، تنتقل العلاقة مع الليل إلى مستوى دلالي آخر، بحيث لا يبقى الليل شاهداً على مكابدات الشاعر وغربته فقط، أو وعاء فكرياً يحمله رؤاه وقناعاته التي تبلور موقفه الفكري، بل وسيلة وأداة تثوير يجري خلالها استعادة الذات وإعدادها وانبعاثها، ذلك الانبعاث الذي يجري غالباً في الليل بعيداً عن العيون، وعندما ينضج الموقف (ينبت الجناح) وتحين ساعة الفصل لا يبقى سوى الاسترشاد بالقوة (حد السيف) لكي يأتي الصباح: وجعُ الذّكرى وتراتيلُ الليل ِ تُحرّضُ فيَّ الشّعرَ فأكتُبُهُ بالخطِّ المهزوزِ على كُلّ جدارْ. وحدي حينَ ينامُ الليلُ ، أفُكُّ رِباطَ الخيل ِ وأُطلِقُها .. ورِباطَ الفِكرِ ، ليسرَحَ في دُنيا الأحرارْ . أستدعي كُلَّ طيورِ الغاب ِ المفجوعةِ في الأحبابِ، أُسامِرُها، حتى ينبُتَ قبلَ الفجرِ جناحي .. تقِف الساعةُ ، عند الحدّ الفاصِلِ بينَ الموتينِ: العودةُ ، واللاعودةُ ، فاسْتَرْشَدْتُ بِحَدِّ السّيفِ ، وأسرجْتُ من الليل ِصباحي ورغم هموم الشاعر الجليلة لا تنحصر صورة الليل في هذا الإطار، بل تتسع لحبه وأحلامه الشخصية، وهنا، يتقمص الشاعر الليل الواسع الممتد الذي يحتضن الكائنات كلها، يصبح هو الليل لكي يحتفظ بحبيبته نائمة فيه، وهكذا يستفيد من سمة الليل ويسخرها لإبعاد شبح الفراق مجترحاً في الوقت نفسه صورة شعرية ضافية الجمال وفيها قدر غير قليل من الجِدَّة: أنا الليلُ، يا نجمتي فارحلي حيثُما شِئتِ فِيَّ ونامي .. ليل المريض.. لوعته ليس المرض شراً كله، ففي بعض الأوقات يصبح المرض دافعاً لقول الشعر الجيد حتى إن بعض النقاد يذهبون الى القول بـ “شعرية المرض” مستشهدين بقصائد السياب وأمل دنقل وغيرهما من الشعراء الذي صوروا مرضهم في قصائد جميلة. ولعل المرض يدفع الشاعر الى ابتكار قيم فنية جديدة لصورة الليل، خاصة إذا توفرت له ضروب المهارة الفنية والقدرة على توليد الأخيلة والوصف الفني. يقول الشاعر أحمد العسم في “الفائض من الرف”: مثل أحدب لا تنطفئ لوعته صدى الغياب على المصابيح ومثل جلاد صمت الغرفة يقلب قميص النوم يدفع بكآبته إلى سريري بينما، قلقاً، يذهب الليل إلى حوض الزهر. في نسقه النهائي يظهر الليل لدى الشاعر منفعلاً وليس محايداً، إنه قلق على نحو يتسق مع حالة القصيدة كلها ومع المناخ السيكولوجي للشاعر الذي يعيش حالة من الكآبة المعلنة، وهو الكائن الوحيد الذي سينفعل – ولو انفعالاً سلبياً – او يتعاطف مع الشاعر فيما كل أشياء الغرفة الأخرى لا تحرك ساكناً، بل إنها تتحول الى توصيف للكآبة التي تصبغ كل ما حوله، وتدخل الفزع الى فراشه. في محنته ومرضه يبدو ليل الشاعر مؤثثاً بسكان جدد؛ الأطباء والممرضات الذين لا يحضرون في قصائد الشعراء إلا لماما، يتسع ليل الشاعر لهم بل إنهم يصبحون حراس الحياة او الأمل وربما الأصدقاء الوحيدون الذين يحملون الهواء والسعادة في غيبة الزائرين الذين يبدون (مثل حلم/ لا أحد يطرق الباب/ يفتح الروح بمودة). إن الليل بكل ما فيه من آلام وجراح نفسية وجسدية، بات بالنسبة للشاعر “مشروع مؤجل”؛ فالموت يتربص به ويقبع في كل زاوية، إنه امتحان لصلابته وصبره لكنه في الوقت نفسه أداة استبصار للذات تعينه على قطع المسافة في داخله و”نسف ألمه”. بقعة على قميص يفرش الليل/ السيد المهيب حضوه على الكون والكائنات كما لا يفعل أي مظهر آخر من مظاهر الطبيعة، معلياً سكوناً حاداً وخالصاً يدفع الشاعر هاشم المعلم لكتابة نص بوْحيّ على ساحل عجمان. النص يولد في منتصف الليل (بين موت يوم وميلاد آخر) لكنه لا يحمل سوى نكهة الموت.. يعلن وحشة الشاعر وخرابه في مديح طويل للفشل والخسارات التي يبدو الليل قميناً بأن يكون شاهداً عليها: ماتت بائعة الزهور قديسة الأيام التالفة فتعطل القلب عن النمو ... الوقت منتصف الليل أراني قادراً على النطق كمن يحمل نجمة مطفأة في فمه... في هذا النص الطويل الذي يغطي اربع صفحات في ديوان “المدفون في الهواء” يقول هاشم المعلم لليل كل ما يعذبه: خيباته، اساطيره، خرافاته، الذئاب التي تحشو رأسه، ضجره الذي لا لون له، فشله، ملله، وحدته، وإذ يزداد الليل حلكة يزداد حزنه. ولما يمعن الليل في السكون يتجلى الصمت، وتتجوهر العزلة الباذخة، حتى إن الشاعر يسمع (طقطقة أصابع الصمت في صدره).. وحين يتفجر الشعور بالموات ويبدو الليل أكثر سكوناً مما ينبغي لا يجد الشاعر سوى الأمل بأن يحدث شيء ما يعيده الى الحياة، حتى ولو كانت (رغبة مرقطة بالخيبة) تشده من ثيابه. في قصيدة “ضجر” لا يكتفي الشاعر من الليل بالبوح أو القيام بمهمة الاستماع له ولشجونه بل يخلع عليه صفات بشرية فهو: (حافي القدمين) و(طويل القامة).. وذات “يقين ابيض” يقرر الشاعر وهو في عزلته أن يتخلص من كل أحزانه وهمومه بأن يشعل البكاء في الليل الذي (دلف إلى غرفته، وترك معطفه على الطاولة). والبكاء واحدة من الحالات المتكررة في علاقة الشعراء بالليل يمكن أن يعثر المرء على شبيهات لها في الشعر العربي بكثرة، لكن الجديد في صورة الليل التي يحيكها المعلم تلك التي يصور فيها الليل متحققاً عبر موجود آخر حيث إنه (يتنزه في عيون مصابيح مطفأة على امتداد الساحل)، وما دامت المصابيح مطفأة فإن الليل يمارس سلطة مطلقة، ويبتلع الكائنات، رغم ذلك يعلن الشاعر بأن الليل مجرد بقعة صغيرة على قميصه، لا يحتاجها في شيء وهو يعبر مختاراً إلى موته. وفي لمحة، يتغير إيقاع الشاعر، رغم أن الليل يصبح أطول قامة وأكثر سلطة، ويقرر أن يحارب الظلام ويقهره: حملق في السقف طويلاً.. وتنهد: الروح بحاجة للتضميد قليل من التأني وشمعة واحدة.. كفيلة كي يفقد الظلام بصره. هكذا يؤول الشاعر الليل ويسبغ عليه دلالة فكرته الفلسفية عن الموت والحياة، وهو إذ ينقلنا من فكرة الليل وسكونها إلى فكرة الظلام ودلالاتها، لا ينسى أهمية التعبير الفني الجمالي فيقتنص صورة شعرية متماسكة وموحية محققاً شيئاً من التوازن الإبداعي بين جمال الفكرة العميقة وجمال الصورة الشعرية. ورم في الحنجرة في متاهة الليل يغرق الشاعر عبد الله عبد الوهاب مرة تلو مرة، فالليل الذي يراه (مظلة الغريب) الباحث عن هدأة ما في أحضانه، سرعان ما يصبح أشبه بـ (ورم في الحنجرة) عندما يحضر الشتاء بإيقاعه الجنائزي معلناً غياب الحبيبة وموت النهار، وهو، الليل، في مرات أخرى لا يعدو أن يكون وسيلة يتكئ عليها الراحلون. في ديوان “لا أحد” تتكرر هذه اللفظة عشرات المرات، في إلحاح مستمر على الفراغ واللاجدوى ومع اختتام أكثر من قصيدة بها تتجلى العزلة الفائضة التي تغمر الشاعر، وفي مناخ كهذا يلعب الليل لعبته مع باقي الكائنات: تبدو الصحراء اكثر امتداداً واتساعاً ووحشة، والوقت أكثر شراسة في مروره، والألم أكثر علواً في تسلقه للروح فيما الليل: الليل هو هو النجوم لم تعد حيث كانت والقمر يلعب وحيداً فوق الصفحات البيضاء الأكثر وحشة. هذه المحاولة لفكفكة الليل عن كائناته، وترك ملازماته (القمر والنجوم) تمارس استقلاليتها عنه، تأتي لقول حالة الشاعر نفسه الذي تفككت أجزاؤه، ومضى كل منها إلى مكان ما من جهة، ومضى عنه أصدقاؤه وأحباؤه وظل وحيداً متوحداً يصرخ كل ما فيه وما حوله (لا أحد). إنه بمعنى ما إعلان عالي الصوت للتفكك الداخلي والخارجي: الداخلي أصاب روح الشاعر وجسده، والخارجي أصاب علاقته مع الآخرين.. وفي غيبة الحب والأصدقاء يبدو الليل (أشبه بشاي أسود)، وتفقد الكائنات وظائفها أو مبررات وجودها.. تشتعل وحدة الشاعر في أبهى صورة، ويخيل إليه أن الليل بعيون وأجفان يستيطع أن يشدها: هناك حيث اللامكان أيضاً أجلس وحيداً لا أنتظر أحداً ومثل رجل مجنون من نافذتي الصغيرة أمدّ رقبتي اشد الليل من جفونه وأطعن القمر بسكين وأحتفل لأنني عشت طويلاً. هكذا تأتي صورة الليل ملآى بالحمولات الفكرية والانفعالية، تعكس آراء الشعراء ورؤاهم، كلٌّ يخلع عليه ما شاءت له العبارة وأرادت الصورة.. كلٌّ يغني على (ليله) الخاص الذي يظل، وإن تشابه في هذا المضمون أو ذاك مع الآخر، ليله هو.. يحمل قسمات همومه وشجوه وشجونه، وفق ما تمليه لحظة الكتابة ولحظة التوتر النفسي الذي ينتج صوراً شعرية مفتوحة حيناً، مغلقة آخر، لكنها في اتساعها تشبه الليل في اتساعه اللامحدود ورهافته الكونية المتفردة. الليل الذي جعل منه الشعراء مسرحاً لأحلامهم وهواجسهم وآمالهم وآلامهم وملاذا أخيراً لهم، لم يخيب آمالهم بل كان واسع الصدر ولم يضق بهم ذرعاً رغم أنهم حملوه أوزاراً ربما كان بريئاً منها، لكنه الشعر الذي يجيز للشاعر ما لا يجيز لغيره.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©