الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سجود الأباريق

سجود الأباريق
22 يوليو 2009 23:24
شغلت الأباريـق حيزا واضحا في فضاء الخمريات بشكلها الطريف وحركاتها الظريفة، فيقول عنها الخليخ مثلا: يا طيبها قهوة حمراء صافية كدمع مفجوعة بالإلف معنار كأن إبريقنا والخمر في فمه طير تناول ياقوتا بمنقار ومن الغريب أن تلاحظ تراوح البيتين بين حالات وجدانية متضادة، فالشاعر يبدأ بإيقاع هادي يتغزل في طيب القهوة الحمراء الصافية، ثم يتنزل الى شيء من الحزن الكليم في التشبيه الأول الذي يقارن الخمر بدمع امرأة مفجوعة بخيانة إلفها. وكأن في الخمر شيئا من سر هذه الخيانة التي تخرج بالناس عن المألوف عن عاداتهم لتلقي بهم في مهب المغامرات الشائقة الوجعة معا، لكنه في التشبيه الثاني يكاد بضرب صفحا عن هذا العالم الشجي ليخلص الى وصف طريف لشكل الإبريق والخمر في فمه كأنه طير يمسك بمنقاره قطعة ياقوت، وطالما لاحظنا أن مادية العصور القديمة ـ على عكس الشائع عنها ـ كانت تقيس قيمة الأشخاص، بل والأشخاص أيضا بحكم شيوع الرق حينئذ، بالجواهر الثمينة التي تمثل مرجعية القيمة المطلقة، فالياقوت في لونه وتناسقه معادل رفيع للخمر في أهميتها وبريقها، وهذا الطائر الذي تتدلى الياقوتة من منقاره يكاد يمثل لوحة في جداريات الشعرية العربية محفورة في أذهان القراء. لكن والبة بن الحباب يقارب نقطة التماس بين المقدس والمدنس إذ يقول: إبريقنا مُصلٍّ يضحك في صلاته يكب ثم يُقْعي كالظبي في فلاته يَمُجُّ كل شيء يمر في لهاته فهو لا يكتفي بالمشهد الحركي للإبريق كأنه مصل يركع، بل يضيف إليه ذنبا آخر بالضحك في الصلاة، المعادل للكركرة في سكب سلافته، ثم لا يكتفي بهذه الصورة الساخرة بل يشبه بالظبي الذي ينكفئ ويجلس مقعيا وهو يمج ما في لهاته، مما تستنكره الأذواق كما تستنكر الصورة السابقة. ويشير المصنف للكتاب، وهو السري الرفاء، إلى أن أبو نواس قد أخذ هذه الصورة للظبي وهو يمج الخمر من لهاته عندما قال: من ماثل فُدِّمت مكاحله يَقْْلس في الكأس بيننا الذهبا فهذا الإبريق الذي غطيت فوهته بالفدام وهو اللثام الذي يصفي الشراب يضع الذهب من ريقه في الكأس، ونلاحظ أن الفعل يقلس بمعنى يمج يتفادى الكلمات الأخرى الكريهة في هذا السياق. أما البسامي فيقول أيضا في صفة الإبريق النزق: إبريقهم بينهم ضاحك باكٍ كإنسان حزين فرح منتصب كالخشف من ربوة مُلثَّم بالقز أو مُتَّشخ فيقدم له صورتين بديعيتين، إحداهما إنسانية تجمع بين الضحك في الصوت والبكاء في الدمع، فهو هذا الكائن الذي تتلخص فيه حالات البشر من حزن ومسرة، أو هو ظبي صغير منتصب فوق ربوة قد تلثم بالحرير أو اتشح به، وكلا الأمرين شائق في تمثيله لخيال الشاعر وهو يجسد المرئيات ويسكب عليها ألوان الحياة والجمال والمعنى في صور بديعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©