الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مارتن سكورسيزي.. عاشق متدفق للسينما

مارتن سكورسيزي.. عاشق متدفق للسينما
22 يوليو 2009 23:20
من الخيالات الراعشة للصورة السينمائية التي تقول شعرا ومناحات كتومة وتمنح ظلالها السمراء لبياض الشاشة، من عمق تلك التجربة البصرية الموغلة في أسرار هذا الفن الجديد المكتنز بأطياف المسرح والرواية والتشكيل والميثولوجيا وسيرة الأبطال وتدفق الأساطير. من معطف هذه السينما الأليفة والفاتنة التي قدمها المخرج الهندي الاستثنائي ساتيا جيت راي، انطلق مخرج أمريكي شاب منتم بقوة لجذوره الإيطالية كي يؤسس لسينما مختلفة وسط غابات الإسمنت والقسوة الروحية وجنون الحياة الضارية لمدينة نيويورك. هذا الشاب الذي ما أن تعرف على أفلام المخرج الهندي العبقري الذي يوقع قصائده البصرية المذهلة ببساطة وتلقائية حتى تحولت السينما بالنسبة له إلى هوس وعشق وخيار إبداعي لا يمكن التنازل عن شروطه الكبرى المتمثلة في الإخلاص والإتقان والابتكار. تحول هذا الشاب فجأة من الدراسة الدينية والانتماء إلى الكنيسة إلى شخص آخر مشحون بطاقة رؤيوية تتخذ من السينما وسيلة للتعبير عن الذاكرة الشخصية والحنين الديني ونقد الواقع وتحليل الجريمة وتقييم الانعطافات النفسية والروحية للمهاجرين القدامى والجدد إلى أمريكا: أرض الفرص والأحلام والخيبات أيضا. إنه مارتن سكورسيزي المولود بمدينة نيويورك في العام 1942 والذي قدم في أولى تجاربه السينمائية شريطا قصيرا اعتبر بمثابة توصيف مؤلم للحيرة الوجودية والشتات الروحي للإنسان الأمريكي، حمل الفيلم الذي نفذه في العام 1967 عنوان: «الحلاقة الكبيرة» وعبر فيه عن ملامح تجربته وموهبته السينمائية ومواضيعه القوية المستندة على الكوميديا السوداء والرعب الاجتماعي والتأمل والعنف والواقعية الصادمة والتحليل النفسي. تأثر أسلوب سكورسيزي السينمائي أيضا بكلاسيكيات السينما الإيطالية التي أبانت عن خصوصية فنية وموضوعية في التعامل مع الواقع بلا مكياج صارخ أو مديح مفتعل أو حتى نقد مباشر ووعظي، هذا الأسلوب الذي طرحه فيتوريو دي سيكا مثلا في فيلمه الرائع «سارق الدراجة» (1948) وروبرتو روسيليني في فيلميه «روما مدينة مفتوحة» (1945) و«بايسا» (1946) حيث استطاعت هذه الاكتشافات البصرية المبكرة لسكورسيزي والمرتبطة مباشرة بجذوره الصقلية أن تفتح مسارات ومنافذ مهمة لتحقيق مختبره السينمائي الخاص، والبعيد عن التنازلات والخنوع للشروط التجارية الصرفة، مختبر أشبه بالخلاص الإبداعي والحرية الجامحة في طرح الأفكار والمواضيع دون شروط وإملاءات مرهقة وضاغطة. هذا الملمح المتفرد عند سكورسيزي بدا واضحا بقوة في فيلمه الروائي الطويل: «بعد الدوام» الذي قدمه في العام 1985 وصور فيه الحالة الكابوسية التي تعتري شخصا يتأخر عن الخروج من مؤسسته بعد انتهاء الدوام، ويجد نفسه فجأة وسط متاهة نفسية حارقة يختلط فيها الواقع بالوهم وتتداعى فيها الجدران الهشة بين الاتصال والانفصال عن العالم، كما تتداخل فيها قيم الانتماء ورغبات التمرد على المؤسسة التي يعمل لديها والتي تحاول أن تفترسه في دهاليزها وممراتها الصامتة والخالية تماما من الموظفين، هذه المؤسسة التي تحولت فجأة إلى ما يشبه أرضا محروقة أو مقبرة إسمنتية هائلة تسترجع جحيم دانتي والأطياف الحائرة والمعذبة في روايات كافكا. حروب وعصابات تتسم أفلام سكورسيزي أيضا بتقديم شحنة فنية عالية ومواضيع مقلقة للسائد السينمائي في أمريكا، ما أجل فوزه بجوائز الأوسكار لسنوات طويلة كان هو الأجدر باستحقاقاتها قبل أن يفوز فيلمه «الراحلون» بجائزة الإخراج في العام 2006 ويصف سكورسيزي تجربته في هذا السياق بأنها: «خارجة من قلب الظلمات»، أي من قلب المعاناة الداكنة والغربة الروحية وتداخل المقاييس وتشوشها فيما يخص السياسة الأمريكية بشقيها الداخلي والخارجي، ولعل هاجس فيتنام كان من أكبر الهواجس التي لاحقت سكورسيزي في معظم أفلامه: «سائق التاكسي» كأبرز نموذج هنا، والحائز على السعفة الذهبية لمهرجان كان في العام 1976 حيث قدم سكورسيزي في هذا الشريط المروع عريضة سينمائية تدين الحرب بشكل ضمني وجارح من خلال شخصية (ترافس بيكل) المجند القادم من فيتنام بتشوهات وآلام داخلية غائرة ـ قام بدوره روبرت دي نيرو ـ والذي دفعته التجربة الجهنمية تلك إلى الانتقام من مجتمعه الفاسد الذي لا يستحق العذابات والتضحيات من أجل حروب عبثية واستعراضية، هذه الحروب التي أفرزت كوارث نفسية وأطلقت وحوشا بشرية كامنة داخل المجتمع الأمريكي الممزق أصلا بالأعراق والإثنيات والمرجعيات الثقافية المتباينة القائمة على التعصب والحنين المرضى وصعوبة التأقلم وغيرها من الأمراض الاجتماعية التي لم تشف منها أمريكا حتى الآن. هذه الأمراض التي استعاد سكورسيزي جذورها القديمة في العام 2002 من خلال فيلم «عصابات نيويورك» التهكمي والعنيف والذي يصف مدينة نيويورك في العام 1863 حيث غياب القانون وسيادة منطق القوة وانتشار الفساد والفقر والعنصرية ونبذ الغريب، وحيث الفوضى الاجتماعية تصنع من الجزار المعتوه (وليم كاتنج) ـ قام بدوره وبتألق دانييل داي لويس ـ قائدا لعصابة دموية تتحكم بكل شؤون المدينة، في هذا الفيلم يعيد سكورسيزي البحث عن منابع العنف البشري، والتواصل مع عنصر الشر من خلال الدوافع والخلفيات العائلية والدينية والاجتماعية التي تعمل على إنتاجه ومن دون توقف في الأزمنة المختلفة للوجود الإنساني على هذا الكوكب. هذه القراءات المختلفة لعنصر الشر قدمها سكورسيزي في أفلام أخرى مثل «شوارع خلفية» و«رفقة طيبة» و«الإغراء الأخير للمسيح» و«قمة الخوف»، حيث نجد أن التصادمات الدموية بين عصابات المافيا في أمريكا هي تصادمات تنشأ أحيانا من أسباب عبثية قائمة على المصادفة وسوء الفهم، وأحيانا أخرى لأسباب تتعلق بقيم أخلاقية متوارثة ومنقولة من بيئاتها الأصلية ولا يمكن التنازل عنها رغم القوانين المختلفة في البلد الجديد. ترميم الأفلام أطلق سكورسيزي قبل سنتين مشروعه الكبير الذي حمل اسم (مجمع الأفلام العالمي) world film foundation لحفظ التراث السينمائي في بلدان العالم المختلفة، وهو مشروع فني نبيل يهدف إلى صون وحفظ وترميم الأفلام القديمة والنادرة المهددة بالضياع والتلف بسبب ظروف تتعلق بقلة الإمكانيات وسوء التخزين وغياب الأرشيف وانتهاء العمر الافتراضي للنسخ الأصلية، المشروع يعود أصلا إلى العام 1990 وأطلقه سكورسيزي مع مخرجين آخرين تحت اسم (مجمع الأفلام) أو film foundation من أجل ترميم كلاسيكيات السينما الأمريكية المهددة بالتلف والاندثار، ولكن تعميم التجربة والترويج لها في البلدان الفقيرة والمجهولة هو الذي منحها هذا البعد العالمي، فبعد أن كانت هذه البلدان بعيدة عن دائرة الضوء رغم أهمية ما قدمته من أفلام رسمية وخاصة، أصبح هناك من يهتم بنتاجها السينمائي الذي يثري الحوار الجمالي والثقافي بين الشعوب، ويعيد للأجيال الشابة الذاكرة الذهبية للسينما وللمحاولات الأولى والمبكرة التي لم تخل من إبداع وتضحيات وتجارب متفوقة. وكان من أولى نتائج هذا المشروع الأفلام الأربعة التي أعلن عنها سكورسيزي في الدورة الأخيرة من مهرجان كان، هذه الأفلام التي بعثت حية من جديد هي: «ناس الغيوان» وهو فيلم وثائقي للمخرج المغربي أحمد المعنوني أنتجه في العام 1981 عن الفرقة المغربية الشهيرة التي تتصدر عنوان الفيلم، الفيلم الثاني هو: «صيف جاف» الذي أخرجه في العام 1964 التركي ميتين إيركاسان، و«توكي بوكي» الذي أخرجه السنغالي جبريل ديوب مامبيتي في العام 1973، وأخيرا الفيلم الكوري الجنوبي «الخادمة» الذي نفذه المخرج كي يونغ كيم في العام 1960. وقام مجمع الأفلام مؤخرا بترميم الفيلم المصري الشهير «المومياء» للمخرج الراحل شادي عبدالسلام كونه أحد الأفلام المنتمية لكلاسيكيات السينما المهددة بالتلف والنسيان. يذكر أن المجمع يضم مخرجين لامعين من أنحاء العالم أمثال كلينت إيستوود وستيفن سبيلبيرج وجورج لوكاس وفرانسيس فورد كوبولا وفاتح آكين وسليمان سيسي، وعباس كياروستامي وديبا ميهتا، ووالتر سالاس وعبد الرحمن سيساكو، وإيليا سليمان وفيم فيندرز، وونج كار واي، وغيرهم من صانعي الأفلام الغيورين على الأعمال الفنية والمستقلة، والطامحين للحفاظ على الكنوز السينمائية وإنقاذها من جهل المؤسسات وقسوة الزمن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©