الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هربت من أمي

هربت من أمي
10 مارس 2011 21:37
(القاهرة) - تفتحت عيناي على أب ضعيف الشخصية مغلوب على أمره وأم متسلطة تأمره فيطيع وليس من حقه أن يناقش أو يسأل وما عليه إلا تنفيذ كل ما تريد وتطلب ولا أدري سبباً لقبوله هذه الأوضاع التي كانت بكل المقاييس مقلوبة وعكس الطبيعة والمعتاد لأنني أرى أن الكلمة في كل أسرة للأب وليس للأم وأنه هو صاحب القرارات. ما كان يحدث في بيتنا جعلني في خوف دائم ولا أجرؤ على فعل أي شيء حتى اللعب مع قريناتي وليست لدي ألعاب مثل كل البنات اللاتي عرفتهن أو كن جاراتي في المسكن لأن أمي المتغطرسة لم تكن أحسن حالا معي أنا وإخوتي الأولاد الأربعة وقسوتها طالت الجميع ولم تستثن أحداً ولم تراع أنني فتاة بحاجة إلى معاملة خاصة لذا أجزم بأنني أصبت بعقدة نفسية ما زالت تلازمني حتى الآن. عندما بلغت مرحلة الإدراك وما زلت انكر على أمي تصرفاتها علمت بعض الأسباب التي لم تكن مقنعة لي والتي أدت إلى هذا الصلف والغرور منها واستكانة أبي وخضوعه لها على الرغم من أنها ليست جميلة بل وتعاني مرضاً في إحدى عينيها، أي أنها عوراء، فقد كان أبوها ثرياً يجمع بين الجاه والمال وعرفت منذ صباها بأنها صاحبة لسان أطول منها لا يسلم احد منه حتى من المقربين ومن أسرتها فكان الجميع يتحاشون التعامل معها تجنبا لأذاها الذي كان مثل الشر المستطير وهي صاحبة شعر أشعث لا تمشطه ولا تهتم به كأنها لا علاقة لها بالأنوثة مطلقا، أما أبي فقد كان شابا بسيطا تربطه علاقة قرابة مع جدي «والد أمي»، وهو من أسرة فقيرة ولا مقارنة بين العائلتين وعلي الرغم من ذلك فإنه تقدم لخطبة أمي مع وضوح الفارق الكبير بينهما والذي لم يكن خافيا على احد ولا ينكره ولا يغفل عنه أبي ولا عائلته. ولأن أمي بتلك الأوصاف فقد كانت فتاة غير مرغوب فيها بسبب عجرفتها وتكبرها فلم يطلب احد يدها حتى تجاوزت الثلاثين من عمرها وكاد قطار الزواج أن يفوتها لذلك عندما طلب أبي يدها لم يمانع جدي بل لم يفكر ووافق على الفور وتحمل نفقات الزواج كافة إلا قليلا وعلمت أيضا أن أبي بدأ حياته معها متخوفا من تلك الفوارق الشاسعة أو من جاه وثراء أبيها وربما لأنه لا يريد ان يتسبب في خلاف معها وهي ابنة الأكابر ولا يود أن يتحدث الناس عنه وعن خلافات في حياته الشخصية فكان يمرر كل تصرف منها ويستجيب لكل أوامرها حتى بعدما انجبت خمسة من العيال أنا أكبرهم والأنثى الوحيدة بينهم فعشت أكبر قدر من الأحداث في أسرتنا. أمي تستيقظ دائما متأخرة ولا تبرح السرير إلا قرب الظهيرة ويا ويل أبي إن لم يكن قد رتب الأسرة وقام بتنظيف البيت واحضر الحليب ليكون إفطارها ونحن معها جاهزا فور استيقاظها، وقد تقيم الدنيا ولا تقعدها إذا كان اي شيء على غير مزاجها وتواصل إصدار الأوامر والتوجيهات والتعليمات وكذلك النقد لكل ما فعل وقدم لها، وما أن يفرغ من تلك المهمة الصباحية حتى يخرج لإنجاز بعض أعماله في الخارج فهو يعمل بالزراعة، وبعد أن يعود منهكا من عمله فإنه لا يجد يدا حانية ولا كلمة رقيقة ولا حتى سكوتا إنما المزيد من مهام البيت. وقد تستغربون انه يقوم بالطهو وإعداد الطعام وغسل الأواني وإعداد الشاي وتقديمه لها وكأنه خادم عند ملكة متوجة ما عليه إلا أن يقدم كل فروض الولاء والطاعة. بالطبع حال أبي كان واضحا لي أنا وإخوتي لكننا اضعف منه فلا نملك من امرنا ولا أمره شيئا وإن كنا نستنكر كل ما يحدث غير أننا عاجزون عن التفوه ولو بكلمة واحدة ولا يجوز لنا الاعتراض ولا الكلام فذلك من المحرمات والمحظورات والممنوعات والأهم من هذا كله نخشى بطشها، فهي لا تتورع عن أن تلقن أيا منا درسا قاسيا بالضرب المبرح الممزوج بمنظومة من الشتائم والسباب ولا يفوتها أن ينال أبانا الذي لا دخل له بالموضوع جانب من العقاب. الغريب أن أبي لا يشكو أبدا ولا يطلع أحدا على ما يحدث داخل البيت وان كان ذلك ليس بحاجة لأن يقوله لأنه يصل من خلال صوت أمي الجهوري إلى جميع الجيران الذين كانوا يعرفون ما يدور بيننا بالتفصيل الممل وعلى الهواء مباشرة وهي فوق سطح المنزل أو أمام الباب تمارس هواياتها اليومية، واستشعر أن جدي قد فشل في إصلاحها وتقويمها لكن جدتي أي أمها لم تكن يوما تستنكر شيئا من أفعالها بل كأنها كانت راضية عنها على الرغم من أن كل خالاتي كن غير ذلك فهن خمس أخريات في بيوت أزواجهن مثل كل خلق الله الرجال عندهن قوامون على النساء. تقدم العمر بجدي فأراد أن يقسم تركته في حياته حتى لا يجور الذكور على الإناث وكان لأمي قطعة ارض كبيرة متميزة حصلت عليها وكعادتها كانت مختلفة عن اخواتها فهن قدمن ما حصلن عليه طواعية لأزواجهن، أما هي فقد قامت بتسجيل ملكيتها باسمها وكانت تلك مصيبة اضافية زادت تجبرها عليه فلا تتوقف عن المن عليه وهي تعيره بأنها هي التي تنفق على البيت من عائد أملاكها وهو كالعادة لا يرد ولا يستطيع أن يناقش او يدافع عن نفسه حتى وان كانت ادعاءاتها كلها باطلة ومختلفة. عاش الرجل حياته كلها في هذا القهر، وما زلت أكرر تساؤلي لماذا ارتضى وسكت؟ لماذا لم يعلن العصيان والتمرد؟ لماذا لم يطالب بحقوقه كرجل وزوج وأب؟ وأسئلة كثيرة لا حصر لها من هذا النوع تثور داخلي وتتردد ولا أجد عنها جوابا ومع ذلك لم أتوقف عن ترديدها وتكرارها. كبرت وأصبحت في السادسة عشرة من عمري لكنني كنت دائما كسيرة النفس قليلة الابتسامة مثل الوردة الذابلة كثيرا ما تأتيني همسات السيدات في أذني تمدح جمالي والفارق بيني وبين أمي وفجأة وبلا مقدمات وجدت ابن عمتي يطلب يدي وهو الذي لم يكن من قبل يزورنا ولا أعرفه على الرغم من هذه القرابة والسبب هو أمي لأنها لا تحسن أبدا استقبال الضيوف ولا الأقارب وحتى امه أي عمتي كانت زياراتها متباعدة جدا ربما تمر السنون ولا نراها وهي في الحقيقة طيبة القلب هادئة الطباع، وقد علمت أنها لا تزورنا اشفاقا على أبي ولا تريد أن تكون سببا في المشاكل له ولا تحب أن تراه يضيفها ويعد لها الطعام والشراب عندما تزورنا، ومع عدم ارتياحها لأمي ومع حبها لأبي قررت أن تخطبني لابنها وعلى الرغم من صغر سني فرحت بالخطبة والزواج ليس من اجل الزواج مثل كل الفتيات وليس لأنني أتمنى أن ارتدي فستان الزفاف لكن من اجل الهروب من الجحيم والخروج بسلام من بين يديها ومن تحت سيطرتها لا يهمني أن كان زوجي غنيا او فقيرا، جميلا أو دميما، يحبني او يكرهني، فقط يكفي انه سيكون سببا في إنقاذي. ما ساءني وجعلني اشعر بالانكسار أن أمي نحت أبي جانبا في أمر زواجي كله، وتولت هي الاتفاق مع عمتي وزوجها وخطيبي وفرضت إرادتها وأملت شروطها وأنا غير راضية عن ذلك لأنني أود أن تكون الكلمة لأبي وان يبدو حتى أمام الغرباء انه رب البيت، فيكفي اننا طوال كل هذه السنين نسمع الهمز واللمز والغمز من الجميع وهم يتندرون علينا حتى صرنا مضرب المثل في الغرابة وكان لذلك اثره السيئ على نفوسنا. انتقلت إلى بيت زوجي وكان مختلفا بكل المقاييس وجدت فيه حبا وحنانا ومودة ورحمة وأمانا واستقرارا لكنني ما زلت احمل أثار الماضي واستشعر أحوال أبي وإخوتي فلا يهنأ لي بال، ارفض فيما بعد عروض زوجي بأن أزور أسرتي إلا بعد سنوات طويلة لأن أمي لم تتركني وتسألني عن كل ما يدور في بيتي، والأغرب أنها تدفعني للتمرد تريدني أن أكون نسخة منها، وتضطرني إلى الكذب فأخبرها بأنني مسيطرة على زوجي وبيتي وأنني صاحبة الكلمة والقرار وأحمد الله أنني كنت أقيم في بلاد بعيدة عنها وإلا لا استبعد أن تفسد عليّ حياتي. وجاءني الخبر الذي هزني كان مثل الزلزال العنيف لقد مات أبي بعد أن تجاوز الستين وابيض كل شعره، كان خلالها مظلوما بكل معاني كلمة الظلم، وكما عايشته وعرفته لا استطيع إلا أن اصفه بأنه كان جبلا تحمل القسوة والمعاناة والتجبر والتكبر، توقعت حينها أن يعود لأمي صوابها فتحزن على ما فعلت معه، وتندم على ما قدمت يداها، وتستغفر وتتوب لكنها مع تقدمها هي الأخرى في العمر ما زالت في غيها القديم، وبكيت كما لم أبك في حياتي وأنا أودعه إلى مثواه الأخير، ويكفي انه استراح منها فلم ترحم شيخوخته وظلت على عادتها معه حتى بعدما انحنى ظهره ووهنت قواه. توقعت أن تعلن الحداد وتسكب الدموع لكنها كانت جامدة وهي تتلقى فيه العزاء، لم تذرف عيناها دمعة واحدة كأنها لم يكن بينها وبين الرجل عشرة طويلة فازداد حزني عليه اكثر، وتذكرت كل أحداث الماضي فلم استغرب تصرفها وموقفها فقد فقدت الأمل في إصلاح أمرها، خاصة وهي ما زالت تتغنى وتتباهى وتتفاخر بحسبها ونسبها وأموال وجاه أبيها الذي رحل منذ سنوات وكيف كان مسموع الكلمة نافذ الحكم قوي الشخصية وتأخذها العزة بالإثم ولا تشعر بأنها مرفوضة حتى من أبنائها. تزوج إخوتي واحدا تلو الآخر وهربوا بزوجاتهم بعيدا وهاجروا إلى مدن بعيدة بينهم وبين أمي مئات الأميال، هربوا منها خشية أن تفسد عليهم حياتهم. وهربوا من الماضي ومن عيون الناس التي تستنكر تصرفاتها وتحملها مسؤولية قهر أبينا فلم نشف أنا وإخوتي من عقدة القهر والتسلط والقسوة ولم يكن أمامنا إلا الهروب وهي لا تساعدنا على أن نكون بارين بها فمازالت عندما نلتقي بها تحاول أن تتدخل في شؤون بيوتنا الآمنة المستقرة ونستشعر في عينيها شرا مستطيرا يكاد يصيبنا وهذا كله يجعلنا لا نزورها كثيرا خشية تأثيرها علينا. لا اكره أمي لكنني في الوقت نفسه غير قادرة على أن أحبها وأشعر بالذنب في ذلك وأعاتب نفسي وأوبخها وأجدني عاجزة تماما عن تغيير ما بداخلي فلم يكن أمر قلبي بيدي، فلا أجد لها ما يجعلني أشعر بأمومتها حتى أنني كثيرا ما ساورني الشك في أن نكون أبناءها ومع هذا فإنني مشفقة عليها لأنها الآن وحيدة لا تجد صديقة ولا جارة تؤنس وحدتها، ولا فتاة قريبة تخدمها فلا أحد حتى الآن يطيق التعامل معها، وها هي تعيش كأنها في سجن انفرادي ولا تترك الفرصة لمن يريد أن يمد لها يداً لأن لسانها لم يتوقف وازداد طولاً مع الأيام. ما يؤلمني الآن أنني أشعر بأنني عاقة لها على الرغم من أنفي وأخشى أن تموت ونحن على هذه الحال فلا أسامح نفسي ولا أجد مخرجاً ولا مفراً وأتعذب بالماضي والحاضر وأخاف من المستقبل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©