الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أوروبا.. عودة الفاشيّات

أوروبا.. عودة الفاشيّات
2 يونيو 2016 15:07
شهدت أوروبا إبان العقدين الأخيرين تحولات عميقة في تشكيلاتها الحزبية الناشطة، لا سيما في مكوّنها اليميني المتطرّف. فقد باتت الأحزاب اليمينية ذات التوجهات المغالية حاضرة بقوّة في جلّ بلدان غرب أوروبا، نذكر على سبيل المثال «الحزب الشعبي الدنماركي» و«عصبة الشمال» في إيطاليا، و«حزب الحريات» في هولاندا. وهو ما يشي بتحوّلات سياسية خطيرة على مستوى القارة في قادم السنوات. «الجبهة الوطنية الفرنسية» هي إحدى هذه التشكيلات السياسية الناشطة ضمن هذا التحوّل العام. فقد مرّت تقريباً ثلاثة عقود على طفوها على الساحة الفرنسية، وإنْ كانت في الواقع قد تأسّست قبل ذلك في أكتوبر من العام 1972. وما إنْ أُعلنت نتائج الانتخابات المحلية خلال الفترة (1982-1983)، وما تلاها من نتائج الانتخابات الأوروبية، حتى تسلّطت الأضواء على الجبهة في الداخل والخارج، وباتت محلّ متابعة من عديد الأطراف. تناولت سيرة الزعيم المؤسس للجبهة جون ماري لوبان العديد من الأقلام. فالرجل محارب سابقٌ في حرب الهند الصينية، وضابط في جيش الاستعمار الفرنسي في الجزائر، لا يزال محلّ متابعة جراء ما اقترفه من جرائم تعذيب. حقّق حزبه نقلة نوعية مع ثمانينيات القرن الماضي بدخول خمسة وثلاثين نائباً جبهوياً تحت قبة البرلمان الفرنسي. وخلال التسعينيات، تصدّرت الجبهة الأحزاب العمّالية في فرنسا، مع سيطرة مهمّة على مجالس بعض البلديات. ومع تقدّم السنوات، وتحديداً في الحادي والعشرين من أبريل من عام 2002، حصدت 4,800,000 صوت في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، مكّنتها من إزاحة المرشّح الاشتراكي ليونيل جوسبان. وكان وصول اليمين المتطرف إلى الدورة الثانية في الانتخابات حدثاً بارزاً، عبّرت عنه صحيفة «لوموند» الفرنسية «بحصول 11 سبتمبر سياسي»، ومنذ ذلك العهد طفت الجبهة على ساحة الأحداث. كاريزما مصطنعة كتاب الباحث السياسي الإيطالي نيكولا جينغا «الجبهة الوطنية من جون ماري إلى مارين لوبان» هو أحد المؤلّفات القيّمة التي تناولت هذا التشكيل السياسي اليميني بالدراسة والتحليل. وهو نتاج متابعة متواصلة غطّت عشر سنوات، هدفت لتحليل ظاهرة الشعبوية الحزبية في أوروبا. حيث يعدّ جينغا من أبرز الباحثين الإيطاليين المهتمين بتنوعات الخطابات السياسية، وقد صدرت له في الشأن جملة من الأعمال منها: «خطابات الرؤساء الفرنسيين» (2012) و«الأساطير والواقع في الجمهورية الثانية» (2013). حيث يصنّف الجبهة الوطنية ضمن اليمين المتطرّف، وذلك من خلال تتبّع الأرضية التاريخية-الإيديولوجية، والسياق التأسيسي، والبنية التنظيمية للحركة، فضلاً عن البرنامج السياسي، والديناميكية الانتخابية التي صعّدتها إلى المسرح السياسي. في تناوله لشخصية جون ماري لوبان، يعيد جينغا النظر في خاصيات الصلابة التنظيمية للحزب، من خلال تفحّص مفهوم الكاريزما المضفى على الزعيم المؤسس للجبهة. ومن المعروف أن مفهوم الكاريزما، أو المهابة، يعود استخدامه في الأدبيات السوسيولوجية إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. فالشخصية الكاريزمية كما يحدّد معالمها، هي تلك الشخصية التي تملك بحوزتها مشروعاً انقلابياً ونسقاً خلقياً، وتبشّر بخلاص الأتباع المتأسّس على النقد الضمني للأعراف الشائعة والأوضاع السائدة. ولكن الشخصية الكاريزمية في الجانب السياسي هي شخصية قيادية تبشّر بوعود، وتدفع نحوها الناس. وبالتالي تتضافر في الحالة الكاريزمية فرادة القيادة، ذات القدرات الخارقة، ومجموع الأتباع الذين تهفو أرواحهم إلى بعث اجتماعي مرتقَب. لكن جينغا يتساءل عن مدى تطابق تلك الخاصيات مع شخصية جون ماري لوبان. وإنْ يجاري فيبر في اعتبار الكاريزما عطيّة طبيعية، فهو يذهب إلى أنها تتشكّل في الزمن وتمرّ عبر شروط اجتماعية سياسية. ليخلص إلى أن مفهوم الكاريزما المضفى على جون ماري لوبان مبالَغ فيه. فإنْ يكن الرجل بالفعل كما يُصوَّر، وتنسحِبُ عليه مواصفات الشخصية الكاريزمية، فأين كان طيلة السبعينيات وهو يقود الجبهة؟ فلمْ يطفُ على الساحة الفرنسية سوى مع توافر شروط اجتماعية وسياسية: الأزمة الاقتصادية، وتفاقم آثار الهجرة، وفشل اليسار في السلطة. دور الإعلام نجد جينغا يستعيد بناء المسار الانتخابي الذي خاضته الجبهة بين سنوات 1981 و1984 وما حققته من نتائج باهرة، وهو ما فسّره البعض بتبِعات ما حلّ باليسار من تفكك. لكنّ جينغا يبرز دور الحضور الإعلامي الحاسم للجبهة، لا سيما في تناول موضوعيْ الهجرة والأمن، في تشكيل صورة إعلامية للحركة في المشهد السياسي الفرنسي. وهو ما يؤكّده الباحث بترافق تصاعد شعبية الجبهة مع استفحال تأزمات بنيوية ألمّت بالمجتمع الفرنسي، حيث اغتنمت الجبهة حينها حالة تعكّر الأوضاع السياسية في معالجة قضايا مصيرية لتطرح وعوداً مثّلتْ إغراء للناخب الفرنسي. والجلي أن ما يذهب إليه جينغا بات متقاسَماً بين العديد من المحلّلين في النظر لظاهرة الجبهة الوطنية كعَرَض لأزمة متعددة الأوجه، سياسية واقتصادية واجتماعية، احتدمت تفاعلاتها تحت تأثير فشل سياسة الهجرة. فقد اعتمد الفرنسيون التذويب القسري، المسمى ظاهراً بالاندماج، وطغى على مجمل سياسات الهجرة ضربٌ من اليقين، مفاده أن الوافِد سوف ينصهر ويتلاشى في ذلك المدّ الجارف، وشُبِّه للكثيرين أن الجموع المهاجرة التي غدت في الحقيقة مستوطنة، سائرة في نسق من الذوبان لا مناص منه، وهو ما لم يتحقق. دغدغة المحرومين يتساءل جينغا هل الجبهة الوطنية حالة شعبوية؟ ويركّز في إجابته على التحليل النظري للظاهرة من خلال تبيّن مدى تماثل تلك الظاهرة مع طروحات الجبهة، حيث يسعى لتفكيك الثقافة السياسية للحزب والتمعّن في مقولة «الشعب» لديه بوصفها مقولة محورية في خطابه السياسي. الشعبوية لكونها توظيفاً براغماتياً لتطلّعات الناس من أجل استغلالها حزبياً وأيديولوجياً لغرض سياسي. ويعتمد الباحث أدوات علم الاجتماع السياسي في تحليل الظاهرة الجبهوية في فرنسا، فضلاً عن تحليل الخطاب الاستراتيجي للزعيم المؤسس ولابنته وريثة القيادة في الحزب من بعده، والمقارنة بين نهجيْ قيادة الجبهة. كما يسعى لتفحّص أنواع اليمين بأطيافه، من اليمين المحافظ، مروراً باليمين البراغماتي، وصولاً إلى اليمين المتطرف. فالجبهة الفرنسية تحقق رواجاً في أوساط العمال، على ما يرصد جينغا، جراء تبنّي الجبهة لبرامج مغرية والتلويح بحلّ أزمة البطالة، لا سيما حالة العمّال المؤقَّتين والمسرَّحين التي تؤرق ملايين الشغالين، والتي لا تجد في السياسات الهشة للحكومات المتعاقبة حلاً مُرضياً. اعتمدتْ في ذلك الجبهة خطاباً درامياً عن الأوضاع الاجتماعية، استطاعت من خلاله جذب شريحة واسعة من الناخبين الساخطين على الوضع القائم وإنْ كانوا متنوعي المشارب السياسية. أيديولوجيا فاشية وفي جانب آخر، يتفحّص جينغا الأرضية الأيديولوجية والتاريخ السياسي اللذين يقف عليهما الحزب، وذلك باعتماد منهج المقارنة السياسية بين الجبهة والإرث الفاشي الإيطالي، من خلال تتبّع ذلك في مقولات الحركة الفكرية لليمين الجديد الفرنسي ومقولات الفاشية الإيطالية. فالجبهة الوطنية الفرنسية تتماثل من حيث موقفها من اليسار واليمين مع موقف الزعيم الإيطالي موسوليني، باعتبار كلاهما يزعم خيانة التوجّهين، اليساري واليميني، للمشروع الوطني، سواء الفرنسي أو الإيطالي. لِيصلَ الكاتب إلى معالجة كيف تتنزّل ظاهرة لوبان داخل بانوراما الديمقراطية الأوروبية اليوم التي بدأت تشكو ترهّلاً. فالظاهرة اليمينية الفرنسية ليست ظاهرة محصورة بفرنسا، بل هي ظاهرة أوروبية تتشابه مولداتها وتتماثل خطاباتها. تقابِل ذلك وعود من الجبهة الوطنية بتحقيق «دولة رفاه شوفينية» ترفع شعارَيْ «الأولوية والأفضلية للفرنسيين» و«فرنسا للفرنسيين»، وهو ما يجعل فرنسا من منظور الجبهة «جمهورية حكراً على الفرنسيين» وليست تلك الجمهورية المنفتحة المتولّدة عن مبادئ الثورة الفرنسية. وحتى مفهوم اللائكية الذي تلوّح به الجبهة فهو مفهوم حصْري، ولا يُحيل إلى حياد الدولة في مقابل سائر الأديان، بل هو عبارة عن صراع بين مختلف الأنماط الحضارية، حيث نجد من جانب الغرب المسيحي المعلمَن، ومن جانب آخر يظهر بارزاً العالم الإسلامي، أين الفصل بين الدين والسياسة، فيه باهت. ثمة خاصيات فاشية في الخطاب السياسي للجبهة يسعى جينغا لإبرازها، سواء من حيث الإلحاح على أولوية الفرنسي أو من حيث إلقاء التهمة على الآخر الدخيل. الجبهة بين الأب والابنة في ثنايا بحثه يُجري الكاتب مقارنة بين النشاط السياسي لقيادتيْ الجبهة، الأب والابنة، لمعاينة الاتصال والانفصال بين الزعامتين. لا سيما مع اقتراب الجبهة من الرئاسة الفرنسية وتشكّلِ خطاب حول مراجعة الإرث الجمهوري من خلال الاستحضار الدائم لموضوعي العلْمنة والأسْلمة لفرنسا. مبرزاً ما يتميز به خطاب الجبهة من وصاية على العلمانية واللائكية أمام ادعاء زحف الأسلمة. إذ يرصد جينغا رؤية مفارقة للهوية الوطنية لدى الجبهة بوصفها هوية متعالية، وهو ما يتناقض مع الواقع الفعلي لكون الهوية متحركة وخاضعة للتشكّل الدائم. وهذا التصور الجامد للهوية هو ما يميّز التيارات اليمينية في قراءتها للمسألة لكونها خارج التغيّر التاريخي، وبالتالي من السهل توجيه إصبع الاتهام للمهاجرين باعتبارهم نقيضاً لتلك التصورات المفارقة. فقد شكّلت الأزمة المركّبة، الديمقراطية والسياسية والاقتصادية، التي تمر بها «الجمهورية الخامسة» دافعاً لفوز الجبهة في الانتخابات الأوروبية 2014، وكذلك في الانتخابات البلدية الداخلية. ويعتبر جينغا التحول من جون ماري لوبان إلى مارين لوبان هو تحوّلٌ على مستوى المشهد والصورة، وليس على مستوى الجوهر، حتى وإنْ لاح مع مارين لوبان انفتاحٌ على نسجِ تحالفات مع اليمين الجمهوري ومع الليبراليين المحافظين. يبقى هناك تواصلٌ في خطاب القيادتين في المعاداة الصريحة لليسار، يتمحور بالأساس حول رفض الجبهة مفهوم «المساواة والعدالة للجميع» مع «التنكر للبعد الكوني لمبادئ الثورة الفرنسية». وهو ما يجعل الجبهة أقرب للمقولات الطاردة للأجانب في معالجة القضايا الوطنية. يتغذى ذلك بالأساس من انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا التي وجدت في خطابات الجبهة سنداً سياسياً فاعلاً، تعضدها وطأة الأوضاع الاقتصادية المستفحلة مع توالي السنين، حيث يسود مناخ سياسي عام في أوروبا، الإسلام فيه مدان، وليس من الهين تحويله إلى الطرف المقابل أو الحديث فيه عن مظلومية، يمتدّ من التغاضي عن ظاهرة الإسلاموفوبيا إلى التبخيس من شأنها. لكن لربما الهنة في رؤية جينغا، وهي التغاضي عن إيلاء الأوضاع الاجتماعية اهتماماً، وهي التي تدفع الجبهة إلى سطح المسرح السياسي الفرنسي. والحال أن الجبهة هي نتاج أزمة اجتماعية مستفحلة في المجتمع تتقاطع مع البطالة ومع سياسة الهجرة التي وصلت إلى طريق مسدود. فهناك فشلٌ في استيعاب شرائح واسعة من المهاجرين خلّفت طروحات سياسية أحياناً تقليدية ومحافظة وأخرى ديماغوجية، دون طرح حلول اندماجية واقعية. لكن رغم الطابع السياسوي لرؤية جينغا، يبقى عمله من الأبحاث الجريئة والدقيقة التي تستشرف مستقبل أوروبا على ضوء التحولات الراهنة. تنكُّر ورفض شكّلت الأزمة المركّبة، الديمقراطية والسياسية والاقتصادية، التي تمر بها «الجمهورية الخامسة» دافعاً لفوز الجبهة في الانتخابات الأوروبية 2014، وكذلك في الانتخابات البلدية الداخلية. ويعتبر جينغا التحول من جون ماري لوبان إلى مارين لوبان هو تحوّلٌ على مستوى المشهد والصورة، وليس على مستوى الجوهر، حتى وإن لاح مع مارين لوبان انفتاحٌ على نسجِ تحالفات مع اليمين الجمهوري ومع الليبراليين المحافظين. يبقى هناك تواصلٌ في خطاب القيادتين في المعاداة الصريحة لليسار، يتمحور بالأساس حول رفض الجبهة مفهوم «المساواة والعدالة للجميع» مع «التنكر للبعد الكوني لمبادئ الثورة الفرنسية». غرباء وأعداء تقول الإيطالية أنّا ماريا ريفيرا في مؤلفها: «غرباء وأعداء.. التمييز والعنف العنصري في إيطاليا» (2003): «لا تشكّل مسائل كره الأجانب ولا العنصرية مواضيع ذات شأن في الخطاب العمومي في إيطاليا. وهي عادة مواضيع خاضعة للرقابة الضمنية من قِبل وسائل الإعلام والمؤسسات؛ بل حتى في فضاء الدراسات المتخصصة فهي تُعَدّ غير ملائمة وغير لائقة».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©