الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محفل الرؤى والولادات الجديدة··

محفل الرؤى والولادات الجديدة··
28 مايو 2008 02:51
في الدورة الواحدة والستين من عمر مهرجان كان العتيد، يمكن للمراقب أن يتحدث وبثقة عن مهرجان قادر وفي كل سنة أن يتخلص من صفة الشيخوخة التنظيمية والضمور الأدائي، وأن يحول غبار السنوات الفائتة إلى مسيرة حافلة بالضوء والإنجازات الفنية، ففي ربيع السينما الدائم لهذا الحدث الفني والثقافي الأبرز على مستوى العالم، يمكن لنا أن نضفي على المهرجان صفة الشباب والحيوية والديناميكية والانفتاح على شاشات الدنيا، كيف لا وهو يضم طيفا كوزموبوليتيا واسعا من المشاركات التي تسعى وتحلم بالتواجد على أرض الفرص، وفي محفل الرؤى والشهرة والولادات الجديدة· كان كمنطقة سينمائية خضراء ومحايدة، ستظل هي الساحة السينمائية الأكثر جذبا للممسوسين بالتعبير البصري المتخلص من الخوف والرقابة والهاجس السياسي والعنف الأيديولوجي، وعندما يقول جيل جاكوب الذي يتولى رئاسة المهرجان منذ ثلاثة عقود بأن ''كان'': ''عاد ليستعيد بريقه من جديد''، فإن هذه النبرة المتفائلة تصيب هدفها تماما، فمن جهة هي تزيح الشكوك حول مستقبل المهرجان والترهل الفني الذي يمكن أن يصيبه، ومن جهة أخرى فإن نبرة التفاؤل هذه تؤكد على ميزة المهرجان، وعلى بصمته الخاصة مقارنة بالمهرجانات الأخرى التي لا تملك تاريخا متراكما وفاعلا، وإن ملكته فهي لا تتوفر على صفة التنوع الهائل تنظيميا وفنيا، ومن هنا يأتي المهرجان سنويا وفي موسمه المنتظر كي يزيد غلته من الإنجازات والفتوحات السينمائية دون أن يحرم المهرجانات الأخرى من بدائل واقتراحات وحلول تنقذها من ورطة التقليد والمزاحمة! سينمات مجهولة إن وعود وآمال ومنطلقات مهرجان ''كان'' لا تنتهي عند حد أو سقف معين، فإذا قارنا المهرجان بالأوسكار مثلا فإن البون الشاسع بين المهرجانيين يتمثل في المعنى الثقافي الذي يشتمل عليه ''كان''، على عكس ''الأوسكار'' المتمسك بفكرة الإغواء الاستهلاكي وتفرعاته المتمثلة في آليات الإبهار والدعاية والتسويق، والمعنى الثقافي هنا لصيق بالذوق والهوى الفرنسي، فـ''كان'' ـ والحال هذه ـ هو الفردوس المتاح لصناع السينما الفنية والمستقلة المطاردين لهواء سينمائي نقي، يطلقون فيه جنونهم الوديع، وصهيل أرواحهم الملونة! ورغم الحضور الهوليوودي التجاري والجماهيري في بعض فعاليات المهرجان ـ فيلم ''إنديانا جونز'' على سبيل المثال ـ إلا أن هذا الحضور يدخل في سياق التنويع والحرية وإرضاء الأذواق والمشارب السينمائية المتعددة· والملاحظ لمسيرة مهرجان ''كان'' يجد أن بعث السينمات الوليدة والناهضة لدول الهامش، أصبح أحد الطموحات الثابتة لدى منظمي المهرجان، والدليل على ذلك ظهور سينمات كانت لفترة طويلة مجهولة ومغيبة قسرا أو طوعا مثل السينما الصينية التي أزهرت بعد جفاف إعلامي طويل، والتي لولا مهرجان ''كان'' المصرّ على خرق التابوهات السياسية والفكرية ـ ومن دون إدعاء بطولات وهمية هنا ـ لما تعرف عشاق السينما على هواجس وعذابات وإلهامات صناع السينما في الصين، الأمر ذاته ينطبق وبمضامين وتفاسير مختلفة على السينما الإيرانية والكورية والتايلندية والأفريقية· نتمنى طبعا أن يشمل هذا التصنيف السينما العربية يوما ما! في الدورة الحالية للمهرجان حضرت السينما اللاتينية وفرضت حضورها ونكهتها بقوة، ليس لأنها سينما ضعيفة ومقطوعة الجذور، ولكن لأن المواضيع والقصص والشخصيات اللاتينية التي تم صياغتها على شريط السينما أتت بشكل مختلف وجامح هذه المرة· المخرج البرازيلي فيرناندو ميراليس صاحب الفيلم الشهير ''مدينة الله'' حضر بفيلم الافتتاح ''العماء'' المقتبس عن رواية البرتغالي خوزيه ساراماغو صاحب نوبل الآداب للعام ،1998 الرواية يمكن وصفها بالمستحيلة والشائكة إذا تعلق الأمر بتحويلها إلى وسيط آخر هو السينما، ولكن ميراليس استطاع وبذكاء إخراجي أن يلتقط خيوط الأفكار الهائجة والعدمية في الرواية وأن يروضها سينمائيا كي يعبر عن الجشع الإنساني والهاجس التدميري والفوضوي لسياسات الدول في المستقبل، وهي سياسات تبدو قاتمة وعمياء كما هي شخصيات الرواية· ومن الأرجنتين أيضا تأتي حكاية أسطورة كرة القدم الحية مارادونا في فيلم تسجيلي بعنوان ''يد الله'' للمخرج البوسني الشهير أمير كوستاريكا، ولك أن تتخيل نتيجة هذه الشراكة بين اثنين من الشخصيات المجنونة والإشكالية في حقلين مختلفين ولكنهما يجتمعان على الإبداع الحركي: (كرة قدم وسينما) !، لا بد وأن نتيجة هذه الشراكة ستنتهي بشريط غرائبي وبامتياز!· من المكسيك حضر فيلم ''تشي'' عن حياة ونضال الثائر الأرجنتيني الأشهر أرنيستو غيفارا بأداء مميز للممثل المكسيكي بينيشيو دل تورو في شريط درامي مدته أربع ساعات مقسم على جزأين، وتم إدارة الفيلم على يد المخرج الأمريكي ستيفن سوديربيرج صاحب الفيلم المميز ''تهريب''· وتنافست هذا العام على السعفة الذهبية داخل المسابقة الرسمية ثلاثة أفلام من أميركا اللاتينية، بالإضافة إلى ثلاثة أفلام أخرى في قسم (نظرة ما)، فضلا عن عدد غير قليل من الأعمال الأخرى المشاركة في أقسام المهرجان المختلفة سواء من الأفلام الروائية أو الأفلام الوثائقية، فعالية نصف شهر المخرجين على سبيل المثال· والأفلام اللاتينية التي شاركت في المسابقة الرسمية هي ''خط العبور'' للمخرج البرازيلي والتر ساليس الذي أخرج ''يوميات دراجة نارية'' عام 2004 مقتبسة عن مذكرات جيفارا الشخصية، ومن الأرجنتين ''امرأة بدون رأس'' للمخرجة لوكريثيا مارتيل، ومن الأرجنتين أيضا شارك فيلم ''ليونيرا'' لبابلو ترابيرو · ومن بين الأفلام القصيرة التي شاركت في المسابقة الرسمية يبرز فيلم ''رحلة سعيدة'' من الأورغواي للمخرج خافيير بالييرو والفيلم المكسيكي ''الرغبة'' لماري بنيتو· ومن بين الأفلام الـ17 التي اختيرت للعرض في قسم مؤسسة السينما، الفيلم الأرجنتيني ''الساعة'' لماركو بيرجير، إنتاج جامعة السينما في بوينس آيرس، والفيلم البرازيلي ''بعضا من كل'' من إنتاج مدرسة دارسي ريبيرو للسينما· وكما يقول رئيس مهرجان ''كان'' فإن سر الاحتفاء بالسينما اللاتينية يرجع إلى أنها تلقي الضوء على جانب هام من ثقافة مغايرة نحبها ونشتاق إليها، ونتمنى استمرار مشاركتها في المهرجان''· السينما العربية·· طموحات مؤجلة أما حال السينما العربية في المهرجان فيبدو أفضل قليلا مقارنة بالأعوام الجحاف السابقة، ولكنه حضور لا يطرق أبواب التغيير، ونقصد بالتغيير هنا إيقاظ الأمل بظهور فيلم عربي خالص ومتخلص من شروط الإنتاج المشترك، أو من هيمنة المنتج الواحد على طبيعة وفحوى الفيلم، وبالتالي التأثير على الخيارات الفنية للمخرج وكاتب النص· ولا يمكن للتغيير أن يطرأ في ظل غياب الاستراتيجيات والشروط والأساسات المكونة لمفهوم صناعة السينما، فكل ما نراه من تميز لأفلام عربية هو نتيجة جهود واجتهادات فردية متناثرة، لا يمكن لها أن تصنع معجزات في حقل يتطلب التضحية والاستمرار، وتكوين قاعدة أو شريحة مثقفة عريضة تتعاطى مع هذا الفن الاستثنائي والمختلف والمتشعب· يبقى الحلم بظهور فيلم عربي ناضج ومكتمل أشبه بطموح مؤجل، ولا ندري إلى متى يستمر هذا التأجيل، خصوصا مع غياب هيئات حكومية ممولة وغير ربحية، تؤمن ـ وهذا الأهم ـ أن السينما خطاب إنساني يصل إلى الآخر من خلال الفن وليس من خلال منصات دعائية وترويجية أو من خلال قنوات ترفيهية ضحلة ومتبخرة، هي في النهاية قنوات تفتقر للوعي السينمائي على مستويات الطرح والتعبير والحوار مع متفرج عالمي يؤم مهرجانات مهمة مثل ''كان''، ومتعطش في ذات الوقت لفهمنا والتواصل معنا فكريا وبصريا وروحيا· من لبنان وفلسطين الحضور العربي الرسمي في المهرجان تمثل في الفيلم اللبناني ''بدي شوف'' للمخرجين خليل جريج، وجوانا حاجي توما، وهو فيلم تم اختياره للمنافسة على جائزة الكاميرا الذهبية ضمن مسابقة (نظرة ما)، الفيلم يعبر وبأسلوب يمزج بين التوثيق والدراما عن رغبة الفنانة الفرنسية الشهيرة كاترين دينوف في الذهاب إلى الجنوب اللبناني للتعرف عن قرب على آثار العدوان الإسرائيلي في حرب تموز الأخيرة، يرافق دينوف في الفيلم شاب لبناني يقوم بدوره الممثل (ربيع مروة)، وترصد رحلتهما إلى الضاحية الجنوبية الكثير من الحوارات والتأملات واصطياد لحظات الرعب وأشكال الدمار التي شوهت المعالم الداخلية للإنسان اللبناني قبل أن تتشوه المعالم الخارجية للبلد، الفيلم ملئ بأسئلة تتأرجح بين التوهان والأمل كما بالخوف والخلاص، وهو فيلم يريد أن يعرض على العالم واقع الحروب، ورغم أنه واقع يبدو عاريا وبشعا، إلا أن الحقيقة يجب أن تروى كما هي، فصدمة المشاهدة تختلف عن صدمة التخيل! الأفلام العربية الأخرى جاءت متفاوتة في نواياها، فالبعض أتى كي يعرض بضاعته السينمائية، كما يفعل أي تاجر في السوق ـ ينطبق الأمر على الفيلم المصري ''ليلة البيبي دول'' للمخرج عادل أديب والذي تاه فيلمه في حشد من المواضيع والقصص والشخصيات من أجل المباهاة بالميزانية الهائلة التي بلعها الفيلم حتى غص بها، وبالتالي لم يصرح الفيلم بشيء ذي قيمة! لا فنيا ولا موضوعيا! وفي المقابل هناك أفلام عربية أتت كي تستعيد واقعا معذبا ومغيبا وبأسلوب يبتعد عن الوعظ والمباشرة، مثل فيلم ''ملح هذا البحر'' للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، المنافس على جوائز (نظرة ما)، وهو فيلم يبدو مخلصا لفكرته ورسائله الضمنية، حيث يصور حالة القهر والإذلال التي تصيب العابرين للحدود في الأراضي المحتلة، وهو واقع يدفع شخصيات الفيلم للكذب والتزوير وحتى السرقة للقفز ولو معنويا على هذه الحواجز الرابضة على التراب، والتي تقطع صلة الإنسان بإنسانيته وحنينه وأرض طفولته الأولى· فيديو وانترنت رغم التحديات الثانوية التي يجابهها مهرجان كان والمتمثلة في هجوم التقنيات الرقمية الجديدة المهددة لتقاليد وإرث السينما الكلاسيكية، إلا أن مهرجان كان ما زال يتمسك بمقاومته الداخلية والتنظيمية لدحر هذا التهديد، ولكن، ومع انتشار الإشاعات المحيطة بتأثير العوامل الدخيلة على مستقبل السينما، فإن أدخنة الخوف لم تعد تصدر عن فراغ، وفي هذا السياق يقول جيل جاكوب رئيس المهرجان: ''إن محترفي السينما ليسوا مبالين بما يحدث من تحولات في مجال الفيديو الرقمية وتكنولوجية الأقراص المدمجة والقرصنة عبر الانترنت، وهي التحولات التي تخلق مشاكل معقدة لصناعة الفن السابع، والتي يمكن لها وفي زمن قادم أن تدفع محترفي القطاع إلى مواكبة هذه التطورات و إهمال الجوانب الفنية والجمالية''· خوف مبرر وصادر من قمة الهرم التنظيمي للمهرجان، ولكن سينمائيين كبار ومخضرمين حضروا وشاركوا في لجان تحكيم والمسابقات الرسمية الدورة الحالية أمثال أتوم إيغويان، وكلينت ايستوود، والأخوة داردين، وفيم فيندرز، وشون بن، ورشيد بوشارب، وسيرجيو كاستيلو، وفاتح أكين، وألفونسو كوارون، هم في النهاية سينمائيون يعملون باتجاه المحافظة على الوهج الحقيقي للفن السابع، ولا يمكن مع هذه الكوكبة من الأسماء أن يخفت رصيد هذا الوهج، فالميزانيات الهائلة التي يتكلفها الإنتاج السينمائي والتي يتحجج بها أصحاب الفيديو الرقمي، ما زالت قادرة على أن تهيمن بسحرها على مرتدي الصالات، وهذا السحر البصري هو كلمة السر في بقاء السينما وتجددها وسط المهرجانات الكبرى، وفي قلوب عشاقها المتكاثرين كل يوم·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©