الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصة السجين الذي ركب البحر.. ودوّنه

قصة السجين الذي ركب البحر.. ودوّنه
16 يوليو 2009 01:20
تشاء الأقدار أن يسجن بدر بن أحمد الكسادي في سجن المنورة بالمكلا كمعتقل في زنزانة رقم 11 ومن حسن حظه أن هذه الزنزانة كانت قد ضمت باحثاً معروفاً يدعى محمد عبدالقادر بامطرف، وتعرف عليه وظلا معاً زمناً طويلاً. تجاذب السجينان أطراف الحديث في ليالي السجن المظلمة داخل زنزانة بائسة وكانا ينتقلان بحديثهما بين البر والبحر والأساطير والعوايد «العادات» ورحلات السفن الشراعية وأوقات رحلاتها.. فمن الصدف الغريبة أن كلا الشخصين السجينين كان لهما ولع بالبحر والترحال وركوب المصاعب. في ليلة من ليالي السجن الموحشة، ودفعاً للملل والرتابة كان لابد لأحدهما أن يفكر في مشروع طويل ينقذهما معاً من هذه الساعات المملة الطويلة، والليالي القاتمة الجاثمة بثقلها على صدور السجناء، فيقترح بامطرف تدوين ما هو مسجل في ذاكرة بدر بن أحمد الكسادي من معلومات عن شؤون البحر وما يتعلق بهذا الموضوع من تراث وعادات تمت إلى اللغة والمصطلحات المتداولة عند أهل الخليج بشأن البحر وما يجري فيه وحوله. تردد بدر بن أحمد الكسادي أول الأمر، وعلى مرور الأيام الثقيلة داخل الزنزانة بدأ شيء ما يتحرك داخل أعماقه المتلاطمة كلجة البحر حيث طالت جلساته مع بامطرف، وبالضرورة كان الأخير يلح عليه بشدّة من أجل تدوين وتأليف كتاب عن عادات أهل البحر وألفاظهم. زادت ظروف المعتقل قساوة ولابد من كسر رتابتها، لذا كان من الضروري أن يفكر الكسادي بكيفية الحصول على الورق وأدوات الكتابة. الرائد والدليل والمكفوف الخليجيون بل والعرب جميعهم يرون في شخصية ابن ماجد حين روض عباب البحر وركب الموجة تلو الأخرى نموذجاً للمغامر البحري الذي جاب بحار العالم قبل قرون عديدة وفي الجنوب العربي من الجزيرة العربية يفتخر أهلها بقبطانهم الشهير سعيد سالم صاحب المنظومتين الشهيرتين في الملاحة البحرية، اللتين تعتبران مرجعين مهمين إلى يومنا هذا لأرباب السفن في المعالم البحرية للمسافرين في الخط البحري المبتدئ من مسقط والمنتهي بالمخا باليمن الشمالية والخط الثاني المبتدئ من سيحون والمنتهي بجزيرة زنجبار شرق أفريقيا. أما القبطان الثاني فهو عوض أحمد بن عروة الذي استطاع في آخر أيامه أن يتولى قيادة السفن وهو مكفوف البصر، وبواسطة حاسة الشم لمياه البحر ورماله كان يعرف من ذلك المواقع التي تمر عليها السفينة فيعطي ارشاداته وتوجيهاته إلى البحارة والمسؤولين بالقيادة، يعطيهم ارشاداته بخطوة السير والاتجاه ويرشدهم إلى خطوط السير الصحيحة على البوصلة البحرية وإلى كشف معالم الطريق. ذاكرة الكتاب أنجز بدر الكسادي كتابه في سبعة فصول تحتوي على 351 مادة تناولت السفينة الشراعية بالتشريح والتفكيك، ابتدأ بالسفينة مع أول قطعة خشبية في بنائها حتى استوت سفينة كاملة بأجزائها الثابتة والمنقولة. ومن الغرابة حقاً أننا يمكن أن نطلق على هذا الكتاب سفينة رسمت من الكلمات إذ إن الكسادي لم يشرح الألفاظ بل كونها لتصبح سفينة شراعية داخل كتاب، أعمدتها فصوله، ومساندها الفاظة وساريتها ذكرياته عن تاريخها وشكلها وغاياتها من الابحار والتنقل في مياه الخليج الدافئة. يقول بامطرف في مقدمته للكتاب: المهم أنه اتبع سيرة السفينة بشرح نظام سعيها والعلاقات التي كانت قائمة حينذاك بين البحار والقبطان ومالك السفينة والتاجر والمسافر والعوائد والتقاليد والقوانين التي تحكمت في جوانب مهمة من الملاحة البحرية قديماً وحديثاً. الأساطير والمعتقدات كتب بدر الكسادي ما أنتجه الترحال في البحر على ظهر السفن الشراعية من أساطير ومعتقدات خيمت طيلة الوقت على عقول رجال البحر وذويهم الذين كان من شأنهم شأن رجال البحر في أرجاء مختلفة من العالم. اكتسبت تلك الأساطير حقيقتها بحكم تداولها الطويل، وربما كانت الزاد الروحي الذي يغذي ذهن البحارة ويشده إلى واقع البحر والانتماء إليه. وليس بغريب على رجل خليجي أن يضع كتاباً عن البحر ومصطلحاته من الذاكرة إذ هو جزء من البنية الاجتماعية التي كانت تعتمد في سرد مروياتها شفاهاً معتمدة على الذاكرة، الخزين المعرفي المنقول لفظاً حيث يقول بامطرف: لقد وضع المؤلف كتابه هذا من الذاكرة، وتلك ظاهرة جديرة بالاعجاب، وقد كنت رفيقاً له طوال الفترة من 1967 حتى 1969، نقوم بمناقشة مادة الكتاب إلى ساعة متأخرة من الليل، ثم يقوم المؤلف بتدوين ملاحظاته في الصباح التالي، وقد شاركت ابنتي صفية برسم البوصلة الواردة بصفحة 295. كتب في البحر يشير الكتاب إلى عدد من الكتب التي تناولت السفينة، منها ما هو مجهول المؤلف وآخر شهير بمؤلفه، أما الأول فمنه كتاب «الرحماني» وهو اسم كتاب مخطوط مجهول المؤلف وربما نسبه بعض البحارة إلى «ابن قطامي الكويتي» وهو كتاب عظيم الفائدة تجده في صناديق معظم المعالمة والربابين الذين يرتادون البحار. يقول عبدالله مدي البحار المشهور على هامش نسخة من كتاب الرحماني لا تزال عند ابنه عمر عبدالله مدي: إن صاحب الكتاب وضعه رحمة «بالمسافرين ولذا أسماه «الرحماني» وهذا تخريج في حد ذاته لطيف لأن الرحماني يذكر المجاري البحرية على درجات الطول والعرض، ويصف المعالم الساحلية والخلجان والموانئ والبواغيز والجزائر والشعاب البحرية والتيارات والرياح على ساحات من البحر واسعة تمتد من خليج البنغال إلى خليج السويس ومحتوياً أيضاً الساحل الغربي للقارة الهندية والساحل الشرقي للقارة الأفريقية إضافة إلى ساحلي الخليج العربي والبحر الأحمر. الكتاب الآخر «بحث عن المستعمرة البريطانية بعدن» من تأليف ف. ن. هنتر عام 1877، وفي هذا الكتاب أورد المؤلف بياناً بأسماء السفن الشراعية التي كانت تتردد في الخليج وذكر شيئاً عن أشكالها وعن الجهات التي تُصنع منها. والكتاب الثالث «الملاحة الهندية من تأليف الدكتور موكرجي عام 1912 وهو كتاب يذكر المصطلحات الملاحية المتداولة في حوض المحيط الهندي وفيه بعض الكلمات التي يستعملها العرب في تسمية أجزاء وآلات حركات سفنهم. والكتاب الرابع «أسماء ما في السفينة الشراعية» لجاسم الدجيلي العراقي الصادر عام 1913 وقد وصف بأنه لم يستوعب كل أجزاء السفينة. وأخيراً كتاب «الأيام الأخيرة للدقل والشراع، لمؤلفه مور عام 1925 وكتاب «أصول الكلمات الشرقية المستعملة في اللغة السواحلية» لكروم عام 1940. كذلك كتاب «السفن العربية في مشرق البلاد العربية» لمؤلفه بارون الذي أورد أسماء بعض السفن الشراعية حيث جاءت بعض مسمياته مشوهة لأسماء سفن معروفة في الخليج العربي. وفي مقدمة كتاب «القاموس البحري» تشير إلى انقراض السفن الشراعية وهي في حد ذاتها حركة سلبية من حركات الحضارة الحتمية، إزاء السفينة البخارية التي هي مقضي عليها بالزوال لتحل محلها السفينة النووية، بيد أن السفينة النووية في مجال المواصلات البحرية لن تكون الأخيرة على أية حال. ركب البحارة الخليجيون أمواج الرياح الموسمية إلى البصرة، وعاشوا مع البروج الشمسية في هدنة مستديمة، كما أنهم جابوا بسفنهم البدائية الصغيرة كل أرجاء المحيط الهندي والبحار المجاورة في دائرة ـ كما يذكر المؤلف ـ من ميناء الشحر إلى كراتشي وبمبي وكاليكوت، و»كولومبو»، ومدراس»، و»كلكتا»، و»رنجون»، و»موانئ أفريقيا الجنوبية فالشرقية فشواطئ البحر الأحمر الغربية ثم شواطئه الشرقية ثم إلى ميناء الشحر عن طريق ميناء عدن. جابوا مع الرياح التجارية مسقط وخليج عمان باكمله ثم الخليج العربي متخذين من الساحل المواجه «الإيراني» طريقاً لهم إلى البصرة ثم يعودون لدى تحرك ريح الأزيب. المغامرون الأوائل لم تكن أسفار رجال البحر الخليجيين الأوائل سهلة وميسورة كلها، كان الأسلاف يغامرون في وجه أخطار محققة، ويعتقدون أنهم كانوا يملكون وسائل تفاديها، ولعل أسوأ فترة تعرضوا لها كان إبان عهد القرصنة البرتغالية في المحيط الهندي في القرن السادس عشر الميلادي، كانوا يجادلون قوة تفوق قوتهم، ولكنهم لم يكونوا يحجمون بل كانوا يركبون العباب ولذا تكون النتيجة إما كاسرين أو مكسورين، هؤلاء تماهوا مع السفينة، فأعطوا كل جزء منها اسماً تعارفوا عليه وأصبح جزءاً منهم. في كتاب القاموس البحري، يحدد تلك الأجزاء ويفصلها ويكشف عن معانيها جزءاً جزءاً حيث جاء الفصل الأول في أجزاء السفينة وأدواتها غير المنقولة وجاء الفصل الثاني في أدوات السفينة المنقولة، أما الفصل الثالث فيشرح المصطلحات المتعلقة بعمال السفينة وألقابهم واختصاصاتهم وطرق استئجار العمال وإدارة شؤون السفينة وعوائد «عادات» وقوانين الابحار والمخالفات المدنية والجنائية وتوزيع دخل السفينة والشحن والتفريغ، بينما يتطرق الفصل الرابع إلى سفر السفينة وقواعد سفرها في عرض البحر وتوزيع الأعمال داخل السفينة في أثناء السفر والسنجار ودخول الموانئ ونهاية السنة البحرية. التجلوبة «جابها التجلوب» .. كلمة تتردد حين يظهر الناس إلى البحر ليرددوا الابتهالات والأدعية بالعودة للمسافر من أهل السفن المتأخرة التي طالت غيبتهم في أعالي البحار وفي رحلات طويلة. تقوم نساء الساحل من أقارب وعوائل البحارة بتحديد مكان داخل الحارة يتجمعن فيه ليلاً قرابة الساعة التاسعة ومعهن الطبول ويجلسن يغنين بأصوات شجية ويضربن الطبول ويستمر الغناء بأصوات محزنة ويأتين بابيات من الشعر وأغلب الشعر ابتهال إلى الله بعودة الغائب وأن يجلب لهم السفن أو السفينة ومن فيها بسرعة، ويستمر هذا الغناء إلى (التجلوب) كما يسمونه عدة ليالٍ يبتدئ من الساعة التاسعة إلى الساعة 12 ليلاً وهكذا حتى تصل السفينة أو السفن المتأخرة، وفي أغلب الأحيان تصدق الرؤية وتصل السفينة بعد ليلة أو ليلتين من القيام بمثل هذا التجلوب وتسمعهم يقولون: السفينة وصلت «جابها التجلوب». يا الله مع الصاري... يا جليبوه يا الله مع الصاري يسرع ولا يبطي... يا جليبوه وكلمة «جليبوه» أصبحت قافية هنا لكل بيت وربما قصد من هذه الكلمة «أجلبه» لنا يا الله، أي أحضره أو أحضر السفينة وأجلبها لنا وهو دعاء بالسلامة. الكتاب: القاموس البحري لجزيرة العرب المؤلف: بدر بن أحمد الكسادي الناشر: هيئة أبوظبي للثقافة والتراث
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©