الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإلياذة.. فتنة السرد

الإلياذة.. فتنة السرد
28 مارس 2018 19:36
قد يتاح لك أن تزور قلعة قديمة من قلاع الإقطاع في أوروبا، ولا بد أن تمرّ بزاوية مظلمة من زواياها، وترى بيتاً من العنكبوت. حاول أن تزيله بكفك العارية، فتراه بعد أن يلتف عليها، يلتصق بها، فتحاول إزالته بقطعه فلا تستطيع، فتلجأ إلى إزالته كشطاً، فيتهاوى في ذهنك ما يقال عن ضعف خيوط العنكبوت. في الأسطورة اليونانية سمحت منيرفا لأراخني أن تحتفظ بمهارتها بعد أن حوّلتها إلى عنكبوت. فالإلياذة تبدو بسيطة ضعيفة مثل خيوط أراخني، ولكن أثراً آخر لم ينافسها روعة وقوة. وليس عبثاً أن في الإنجليزية وحدها لها عشرات الترجمات، بعد زوال عصور الظلام، وقد ترجمها كبار الشعراء والكتاب، ويكفي أن يكون بوب وبطلر في رأس قائمة الذين ترجموها، بالإضافة إلى أعلام من رجال الدين، إلى جانب كبار المترجمين، الذين امتهنوا الترجمة وبرعوا فيها. وترجماتها الكثيرة جداً تثير الدهشة قبل قراءتها، فما الذي يجعل ملحمة أو قل رواية قديمة جداً، تأخذ بمجامع القلوب، بينما موضوعها الحرب والسلب والنهب وأدواتها مقتصرة على السيف والرمح والدرع والترس؟ أكرم العالم هومر على أتمّ ما يكون الإكرام، فبنى له الإغريق المعابد، واعتبره أرسطو من سلالة إلهية، وطار صيته في العالم الحديث على الرغم من «المشكلة الهومرية» التي طرحها علماء الألمان، ويكفي أن يكون الشاعر الوحيد الذي تكون له قضيته الخاصة، حتى يلفت النظر ويحقق الشهرة البعيدة. مرت القرون العديدة وستمر القرون العديدة وهومر يبتسم كأنما يقول ما كل قديم بالياً، وما كل حديث باقياً. العراقة والتحدي يبدو أن كُتّاب الليجندات اليونانيين ماهرون فكراً وأسلوباً، فقد روَوا أن جاسون بعد أن أنهى رحلته على سفينة الأرغو، أركن سفينته إلى خليج هادئ الموج، لا تصله العواصف ولا تؤثر فيه الأعاصير، فلما جرى ما جرى بينه وبين الساحرة البارعة ميديا، ركبه الهمّ، فأخذ طريقه إلى سفينته القديمة، واستظل بصاريتها الضخمة، وبعد حين أو بعض الحين سقطت خشبة أكلها العث من الصارية وأصابت مقتلاً في رأسه، فسقط ميتاً في الحال. وهذه إشارة من كاتب الليجندة إلى أن التمسك بالقديم قاتل، فشابه بذلك امرأة لوط التي التفتت إلى الخلف فتحوّلت إلى عمود ملح، وشابه أيضاً الفنان العظيم أورفيوس الذي ذهب إلى الجحيم وعاد بزوجته، ولكنه خالف الشرط بألا يلتفت إلى الخلف، فتحوّلت الحبيبة إلى ضباب وعادت من الطريق الذي جاءت منه. أما «الإلياذة» فليست كذلك، لم يمت صاحبها لقدمه، بل نراه يزداد شباباً، ويبعث في كل يوم تقريباً. وكلما تقادم الزمن ازدادت شهرتها وشهرته وتكاثر عدد قرائها والمعجبين بها وبه. فما سبب ذلك، وهي القديمة جداً، ولمَ كل هذا الاهتمام، حتى إنه لا يكاد يمرّ عام إلا ظهرت ترجمة جديدة لها؟ على أن الإلياذة لا تتحداك بعراقتها وإيغالها في القدم، بل هناك ناحية أخرى غير العراقة وغير القدم، وهو التحدي الأدبي، لا من حيث الأسلوب، ولا من حيث الظروف والملابسات، ولا من حيث المعارك التي تبدو خفيفة جداً لو قورنت بحروب هذه الأيام، بل من حيث أنها تفصح عن غايتها منذ الأبيات الأولى. قال هومر (من ترجمتنا التي نشرت قبل خمس عشرة سنة): [1] أنشدينا، ربة الشعر الجميل، عن غضب أخيل بن بيليوس، الغضبَ الذي أوقع الأوبئة الكثيرة في جيش الآخيين. فكم وكم من نفوس المقاتلين الشجعان أسرعت هابطة إلى هاديس، بيت الموتى، وكم من بطل صار جثمانه فريسة للكلاب [5] والنسور، وهكذا تحققت إرادة ربّ أرباب الأوليمب زيوس، من اليوم الذي نشب فيه النزاع بين ملك الجيوش أغاممنون بن أتريوس، والبطل العظيم أخيل. ولكن مَنْ مِنَ الآلهة دفعهما إلى هذا النزاع؟ إنه أبوللو بن زيوس وليتو؛ لأنه غضب من الملك... عدة أبيات كانت كافية لإنهاء القصة: عندما غضب أخيل بسبب استئثار أغاممنون بسبيّته، انتصر الطرواديون، ولما قتل صديقه عاد إلى الحرب وقتل هكتور، وهنا تنتهي القصة، فلا يعود القارئ بحاجة إلى أي شيء آخر، من حيث القصة. أما السرد فإنه فتنة، فأنت تعرف القصة من أولها إلى آخرها، ومع ذلك لا تستطيع إلا أن توغل في الإلياذة، كأنك تدخل الحديقة لأول مرة. إنه أكبر تحد أمام القارئ. يعرف القصة ولكن السرد الأخاذ يجذبه، وأي سرد؟ سر العراك والقتال والدماء، بأسلحة باتت اليوم مضحكة جداً. تخيّل أن معركة تدور حول جثة حتى لا يؤخذ الدرع ولا يبقى الجسد بلا دفن، فيسقط العديد من الأبطال إلى أن يستطيع أجاكس أن ينقل جثة باتروكلوس إلى معسكر اليونانيين. وليقارن القارئ بين الإلياذة والرواية الحديثة كـ «شيفرة دافنشي» أو سواها من الروايات الرائجة، ليجد أن تلك الروايات إنما تقوم على الأسرار، فيدخل القارئ منذ البداية في عالم الخفاء، ويخرج من الرواية من دون أن يحظى بما يفسر له الأحداث أو بعضها، وهذا فن من دون شك، ولكنه ليس فناً متحدياً، بل إنه فن تشويقي، يعتمد على عالم من الأسرار ودينا من الألغاز. الإلياذة عالم آخر ودنيا أخرى، إنها تتحدى القارئ بالسرد وليس بالأسرار، ولا ببهلوانية الدهاليز في متاهة ديدالوس الكريتية. عشرات الأفلام ومئات الكتب المبسطة حدثتنا عن حرب طروادة، وجسدت ما جاء في الإلياذة تماماً، ولكن على الرغم من كل هذا، ولو شاهدنا كل الأفلام وقرأنا كل الكتب، لما قدرنا أن نملك أنفسنا، ونأبى قراءة هذه الملحمة المعجزة. لكن بعضهم لا يقرّ بهذا الجانب الفني العظيم، بل يفسر ظاهرة الانكباب على الإلياذة بأنه عائد إلى العراقة التي تتمتع بها، بحيث باتت معلماً إنسانياً مثل عجائب الدنيا السبع، يندفع المرء نحوها من دون وعي، وينكب على قراءتها بشغف كأنه أمام هيكل جليل مهيب. ولو كان الأمر على هذا النحو لبرزت إلى المقدمة كل آثار الإغريق القدامى، وانكببنا على قراءة الملاحم الأخرى، انكبابنا على الإلياذة، فمن منا اليوم ينكب على «الأرغونوتيكا» التي كتبها أبولونيوس الروديسي، أو غيرها من اللاحم الإغريقية أو غير الإغريقية، فلا نظن أن العراقة تحيي العظام وهي رميم، لا بد أن تكون هناك حياة في هذه الآثار الباقية حتى تستمر في التاريخ كل هذه المدة. إن الآثار العريقة ليست «زومبي» يقوم بمهمته ويعود إلى قبره، بل كائن له مفاعيله، مثل أي كائن جديد، وفي بعض الأحيان، إن لم يكن في معظمها، يتفوق على المولودين الجدد بما لا يقارن. فالتحدي ليس في العراقة، بل في الفن الرائع والقواعد التي توطدت بعد آلاف التجارب والاختبارات. وكل أثر لا تغذيه القوانين الخاصة بفنه، لن يكتب له أن يعيش ولو بطول حلم قصير قبل إطلالة الصباح. نموذج الحرب البرّية الإلياذة ملحمة برّية، اكتفى مؤلفها بمشهد إقلاع السفن بعد تقديم أغاممنون ابنته قرباناً للربة ديانا، وبمشهد النزول إلى برّ طروادة، ولم يذكر عن البحر شيئاً سوى ذلك، إلا عندما اخترق هكتور صفوف الإغريق ووصل إلى السفن وأشعل فيها الحرائق، فسارعوا وتداركوا الأمر... الخ. وتدور حول الحرب البرّية، وهي الحرب التي لا تزال قواعدها قائمة حتى أيامنا هذه، ومع احترامنا لكلاوتزفيتز، فإن الإلياذة سبقته إلى الكثير من قواعد الحرب البرية: الاستيلاء على الريف، قرية قرية، وبلدة بلدة، ثم الاقتراب من المدن، بعد بث الجواسيس وإدخالهم من القرى إلى قلب المدينة (وربما كان هذا سبباً من أسباب ازدراء ابن المدينة لابن الريف) وبعد خلق طابور خامس في قلب المدينة، إلى أن يتم تطويق هذه المدينة والقيام بتدميرها، لا يستثنى من ذلك أحد. وقد سار الإسكندر المقدوني على هذه الخطة وكذلك هانيبال والرومان ونابليون، وحتى الحرب الأسبانية، بل حتى هذه الأيام حيث باتت المدن هدفاً سهلاً للطيران وبراميل الديناميت والغازات السامة...الخ. التحدي الفني دع عنك كل شيء وانظر في الناحية الفنية تجد أن ما قدمته الإلياذة لا يزال أقوى من تقادم الأزمان، كالمشاهد الإنسانية العميقة: وداع هكتور لأندروماك، وخطابه في الوطن والوطنية، والعمق النفسي في حوار أغاممنون وأخيل، وشخصية أجاكس، وشخصية منيلاوس، وهرب باريس من المعركة واللجوء إلى زوجته هيلين، وجنازة هكتور، إلى جانب تاريخي يعكس عادات الإغريق في الحروب، كضرب القرعة والتشاور والاختيار والتطوّع... ومن أعظم التحديات الفنية حسن استخدامه الشخصيات الوسط، القابعة بين طرفين كبيرين، ومن أبرز هذه الشخوص أندروماك وهيلين وهيكوبا وابن هكتور وتيرسيتيس، الجندي القبيح الذي تصدى لأغاممنون بكلام لا نظن أن من الممكن لأكبر ممثلي السياسة اليوم أن يأتوا بأفضل منه في شرح الشراهة العسكرية وأخلاق العسكر... الخ لا تزال الإلياذة محافظة على أسبقيتها في الترجمة والنشر، ولا نظن لغة من لغات الأمم تخلو من هذه الملحمة العظيمة. قلدها الكثيرون، و»الحرب والسلم» لتولستوي نالت من النقاد لقب «إلياذة العصر الحديث» لأنها عبارة عن حرب برّية، وفيها الكثير من الأبطال والشخصيات الوسيطة، ولكنها لم تحظ - حتى الآن - بمكانة كمكانة الإلياذة، وهي من حيث الانتشار أبعد من أن تكون منافسة لها. إذا قلّ - فرضاً- عدد القراء فلنبحث عن السبب في تدني مستوى التذوق الفني في الأدب، وليس في تغيّر الظروف والحالات، ولا في «النوستالجيا». حنين البشرية إلى طفولتها فسّر كارل ماركس بقاء الآثار الكلاسيكية على الرغم من تغير كل أساليب الإنتاج، بأن هناك حنيناً إلى الطفولة الإنسانية، فالفكر اليوناني في رأيه يمثل طفولة الإنسانية، ولكن الواقع أن هذه القاعدة لا تنطبق على الآثار القديمة كلها، بل على بعضها، ومنها الإلياذة، فلا نظن أن النوستالجيا ظاهرة كافية تجعلنا نتخلى عن كل تحليل أدبي لأسلوب الكاتب وفنه الذي لا تزال قواعده سارية المفعول حتى هذه الأيام. ولم يكن هومر، أو لنقل صاحب هذه الإلياذة، أو أصحابها على رأي بعض النقاد، وحيداً في الساحة الإغريقية، بل كان هناك الكثير من الشعراء الجوالين، لم يبق منهم إلا هومر والقليل القليل غيره.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©