الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شروط الإبداع

شروط الإبداع
28 مارس 2018 19:31
طالما شغلني هذا الموضوع في كثير من كتاباتي، وما زلت أراه جديراً بأن يشغلنا. فلا شك لدى كل ذي فطنة أن تدهور حال الأمة العربية هو نتاج مباشر لأفول حضارتها منذ قرابة ثمانية قرون، ولا شك أن تواصل هذا التدهور حتى يومنا هذا، إنما هو نتاج لنضوب معين الإبداع في هذه الحضارة. فعن أي إبداع نتحدث؟ هكذا سوف يُثَار التساؤل على الفور: فهناك فرق بين أن نتحدث عن الإبداع في العلم، والإبداع في الفكر، والإبداع في الفن! فعن أي إبداع نتحدث؟! السؤال مشروع، وله وجاهته، ولكنه غافل عن إمكانية التحدث عن الحالة الإبداعية ذاتها، أعني التحدث عن الحضارة المبدعة. عندما نتحدث عن الإبداع هنا، فإننا نقصد الإبداع في عمومه، أعني أننا نقصد تلك الطاقة أو القدرة على الإبداع بصرف النظر عن مجاله، وبالتالي بصرف النظر عن الشروط الخاصة التي تحكم وتميز الإبداع في كل مجال من مجالاته. إننا باختصار نريد أن نتعرف على الشروط المهيئة للإبداع في حضارة ما. الشرط السياسي لا يمكن لأحد أن يُماري في أن الشرط السياسي (أعني التوجه السياسي للحكم) له أولوية في تهيئة المناخ المحفز على الإبداع في حياة الأمم: فلا يمكننا أن نغفل دور السياسة في إعلاء شأن العلم والمعرفة والفن، فلا يمكننا - على سبيل المثال- أن نغفل دور الخليفة المأمون حينما شجع على حركة الترجمة بأن جعل مكافأة الكتاب المترجم تعادل وزنه ذهباً، وقل مثل هذا في مختلف سياساته وسياسات أشباهه التي كانت تعمل على تهيئة المناخ المحفز على الإبداع في العلم والفلسفة والفنون والآداب. مثل تلك السياسات هي التي جعلت الجامع جامعة، فلم يكن الجامع مجرد مسجد للصلاة أو لدروس في التدين أو التصوف، بل دروس حساب ورياضيات وفلك، ودروس في المعرفة والفكر والأدب. كان الجامع ساحة للمعرفة الواسعة بما في ذلك المعرفة العلمية، جنباً إلى جنب مع المجامع العلمية المتخصصة. هذا هو ما كان يحدث بالضبط في فترة تألق الحضارة الإسلامية في سائر ربوعها، فلقد اتسعت جغرافية هذه الحضارة حتى شملت نطاقاً واسعاً من الأرض، ولقد أنتج هذا نوعاً من الحكم الرشيد الذي يعترف بالحرية الفكرية والعقدية التي تستوعب في باطنها سائر الثقافات المتباينة. ولذلك فإننا لا نندهش حينما نجد أن مصدر الطاقة الإبداعية في هذه الحضارة كان يأتي غالباً من البلدان التي دانت للفتوحات الإسلامية، لأنها بلدان خضعت بسبب ضعفها، ولكنها ظلت تحمل في باطنها إرثاً حضارياً من الثقافة والإبداع. ثقافة الغالب هنا دانت لثقافة المغلوب حينما أتاح الغالب مجال الحرية الواسعة التي تستوعب الثقافات والإبداعات لدى سائر الشعوب، لتصبح هذه الثقافات المتلاقحة جزءاً من نسيجها. هذا المجال الواسع من الحرية هو الذي أتاح ظهور فلسفات وإبداعات علمية وأدبية لا يمكن لأحد أن يبدع مثلها في زماننا هذا من دون أن يتعرض للاستهجان والملاحقات، وربما للسجن والقتل. وإلا فخبرني - أثابك الله- هل يمكن لأحد أن يقول، في يومنا هذا، مثل أشعار أبي نواس أو الخيام أو ابن الرومي من دون أن يُهدَر دمه أو على الأقل يُحكَم عليه بالفسق والكفر؟! فما بالك أن تكفل الدولة نفسها نشر مثل هذه الأشعار! ألا يقتضي ذلك سياسات قوية وتوجهات ثابتة إزاء دعم حريات الفكر والإبداع؟ ولا شك في أن غياب هذا المناخ من الحرية والانفتاح الفكري هو أول عامل هدم للإبداع، ومن ثم للحضارة أو الثقافة بمعناها الواسع. إن محنة ابن رشد التي انتهت بحرق كتبه، تجسد محنة الحضارة الإسلامية حينما غاب عنها تدريجيّاً مناخ حرية الفكر والإبداع. لا يمكن لأحد أن يماري إذن في أولوية الشرط السياسي، ولكني أريد أن أتناول هنا شرطاً آخر لا يقل أهمية هو ما أسميه بالشرط المعرفي المتعلق بحضور التأويل وغيابه في الوعي الثقافي العام. وهذا الشرط مترتب بالتأكيد على الشرط السابق. الشرط المعرفي هذا الشرط يتمثل في العلاقة الضرورية بين الإبداع وعملية تأويل التراث، وهي علاقة غير متحققة في واقع الثقافة العربية، ذلك أن موقفنا من التراث في ثقافتنا الراهنة يتسم بغياب - أو على الأقل بتهميش - عملية تأويل التراث، وهو ما أدى إلى خلق روح مضادة للإبداع في سائر مساراته وأصعدته. فعلى مستوى الإبداع العلمي، يمكن أن نلاحظ بوجه عام أن التفسير السائد بين الناس للعلم هو تفسير يخلط العلم بالدين على نحو يسيء فهم ماهية كل من العلم والدين. والواقع أن شواهد خلط العلم بالدين في واقعنا عديدة، وهي نتاج لتفشي ظاهرة الخلط بين العلم والإيمان، وبين العلم والغيب، حينما لا يعي الناس أن الغيب يكون موضوعاً للإيمان، ولا يمكن أن يكون أبداً منهجاً للعلم أو موضوعاً له، كما أنه لا ينبغي حتى أن يكون نهجاً لنا في حياتنا العملية. بل إن قضية العلم والإيمان ذاتها أصبحت تُوظف بشكل مضلل، بحيث يُستخدم العلم كأداة لتعضيد الدين والإيمان، ويُستخدم الدين كأداة لتعضيد صحة النظرية العلمية وإضفاء الشرعية وصكوك الغفران عليها (وهذا أشبه بما كان يحدث في عصور الظلام الأوروبية). ومما يزيد من خطورة الأمر أن هذه القضية أصبحت مادة إعلامية يتم تسويقها في العديد من الأقطار العربية كمقرر ثقافي ناجع على المواطنين، من خلال برامج علمية مستوردة يتم تسطيحها من خلال منظور ديني لا علاقة له بالمنظور العلمي الذي من أجله وُضعت هذه البرامج في الأصل عند أصحابها بهدف تبسيط الثقافة العلمية. وجوهر الخلط هنا يكمن في الخلط بين منطق الخطاب العلمي ومنطق الخطاب الديني، وهو خلط لا يُسيء فهم العلم فحسب، وإنما يُسيء أيضاً إلى الدين نفسه حينما يحاول أن يلتمس في الدين أصلاً لنظريات العلم، وبذلك فإنه يربط الدين الذي هو ثابت (أعني عقيدة ثابتة) بالعلم الذي هو متغير. وكل هذا من شأنه تغييب روح المعرفة العلمية التي تسعى دوماً للكشف والابتكار. وعلى مستوى الإبداع الفلسفي، فإن الناظر في تراث الفكر الفلسفي الإسلامي يدرك على الفور أن هذا الفكر قد ازدهر حينما كان هناك تقبل لفكر الآخر، عبَّر عن نفسه في ازدهار حركة ترجمة قوية في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وقد أدى هذا إلى استيعاب وتمثل الفكر اليوناني، ثم نقده والإضافة إليه. ومع ذلك، يمكن القول إن الفكر الإسلامي كان مهيأً من داخله لتقبل روح التفلسف، ومن ثم التأويل. ولا شك أن حالة التدهور السياسي التي أصابت الأمة العربية والحضارة الإسلامية في عمومها، وما واكب ذلك من ظهور تيارات دينية وفكرية دوغماطيقية مناهضة لتحرر الفهم ومعادية للتأويل، ومن ثم للفلسفة - هو ما أدى إلى ضرب التيار التأويلي الذي بلغ ذروته مع ابن رشد. ولم يكن هذا إلا نتاجاً طبيعياً لموقف عدائي من الفلسفة التي اعتُبرت شراً، فقد تفشت في بعض بلدان العالم العربي والإسلامي عموماً تيارات التكفير باسم الدين، وبدت الفلسفة كأنها إما كفر وإلحاد أو بحث في الغيبيات: فإن كانت كفراً لزم استبعادها، وإن كانت بحثاً في الغيبيات لم يعد لها ما يبرر وجودها، لأن الغيبيات موضوع من اختصاص الدين. هكذا يفكرون أو هكذا يكفرون. ومما تقدم يمكن أن نخلص هنا إلى أن مشكلة الإبداع الفلسفي ليست منفصلة عن مشكلة الإبداع العلمي. أما على مستوى حالة الإبداع الفني في ثقافتنا الراهنة (التي تتطلب بذاتها دراسة مطولة)، فيمكن القول إن موقفنا من تراثنا الديني يمارس فعله هنا أيضاً: فالملاحظ بوجه عام أن هناك في العالم الإسلامي تياراً دينياً متنامياً معادياً لروح الإبداع في الفن: تيار ديني متجهم عبوس كئيب، لا يفهم من الدين إلا سلطة الزجر والعقاب، والأوامر والنواهي، ويفهم روح الفن الطليقة المتحررة على أنها روح إباحية متحررة من الأخلاق أو مضادة للأخلاق: فالتصوير والنحت تشخيص ووثنية، والموسيقا مزامير الشيطان، والفن في مجمله خلاعة ومجون. ويمكن القول، إن هذا التيار المعادي للفن قد استبعد تأويل التراث، خاصة التراث الديني، واستدعى بعض مواقفه المتصلبة التي تُسيء فهم الدين والفن معاً. وربما يقال، إن هناك فيضاً من الإبداع الفني في واقعنا العربي (خاصة في مجال الأغنية) على الرغم من تواجد التيار الديني المعادي للفن. ولكن الملاحظ أن هذا الفيض من الإنتاج الفني يفتقر في معظمه إلى أوليات الإبداع الفني وشروطه وأخلاقياته، ولا يخضع إلا لمتطلبات الفن التجاري بمعناه الرديء، ويرتبط بعلاقة جدلية مع فساد الذوق العام وانحطاط الوعي الجمالي، حيث إن كلاً منهما يسهم في تكريس فساد الآخر. فليس كل ما يُنتَج باسم الفن يعد إبداعاً فنياً. شرط التعليم والتعلم شروط الإبداع في الحضارات تتضافر معاً. وإذا كان الشرط السياسي له الأولوية باعتباره الشرط المسؤول عن إنتاج الشرط المعرفي أو الثقافي المهيئ للإبداع على صُعُده كافةً، فإن النهوض بالتعليم يظل شرطاً ضرورياً لتحقق المعرفة أو الثقافة المهيئة لإمكان ظهور الإبداع بوصفه ظاهرة حضارية أو لنقل اختصاراً: يشكل شرطاً للحضارة المبدعة. فأنا لا أقصد بالإبداع هنا، ولا فيما تقدم - ظاهرة الإبداع الفردية، وإنما الظاهرة العامة للإبداع. ولا شك أن تدهور حال التعليم في العالم العربي بدرجات متفاوتة يكشف عن حالة الإفلاس الحضاري، رغم وجود حالات فردية إبداعية في كل مجال من مجالات الإبداع. تؤكد التقارير الدولية أنه ليست هناك دولة عربية تحتل مركزاً متقدماً في مقاييس جودة التعليم، وفقاً لمقاييس المؤسسات الدولية وليس وفقاً للمقاييس المحلية التي نخدع بها أنفسنا من خلال هيئات محلية لجودة التعليم، ربما تحتاج هي ذاتها إلى تقييم مدى جودتها. ولا ريب أن بعض البلدان العربية قد قطعت شوطاً لا بأس في مضمار هذا السباق أو القياس، ولكن الحالة العامة تعد دون المستوى المقبول. ولا حاجة بنا إلى تأكيد القول بأن التعليم الذي لا يزال يقوم على ثقافة الحفظ والتلقين، ولا يعظم من شأن التعلم الذاتي والاكتساب الحقيقي للمهارات وتعلم الفنون والتفكير العلمي والتفكير الناقد، هو تعليم لا يمكن أن يخلق مناخاً مهيئاً للإبداع. وهذا ما فصلنا قوله في كثير من كتاباتنا، فليرجع إلى ذلك من يشاء. الجودة الغائبة تؤكد التقارير الدولية أنه ليست هناك دولة عربية تحتل مركزاً متقدماً في مقاييس جودة التعليم، وفقاً لمقاييس المؤسسات الدولية وليس وفقاً للمقاييس المحلية التي نخدع بها أنفسنا من خلال هيئات محلية لجودة التعليم، ربما تحتاج هي ذاتها إلى تقييم مدى جودتها. ولا ريب أن بعض البلدان العربية قد قطعت شوطاً لا بأس في مضمار هذا السباق أو القياس، ولكن الحالة العامة تعد دون المستوى المقبول. محنة حضارية لا شك في أن غياب هذا المناخ من الحرية والانفتاح الفكري هو أول عامل هدم للإبداع، ومن ثم للحضارة أو الثقافة بمعناها الواسع. إن محنة ابن رشد التي انتهت بحرق كتبه، تجسد محنة الحضارة الإسلامية حينما غاب عنها تدريجيّاً مناخ حرية الفكر والإبداع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©