الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كريستيان بوبان: لا أحلم.. ولكن الأحلام تأتي إليّ

كريستيان بوبان: لا أحلم.. ولكن الأحلام تأتي إليّ
29 مارس 2018 01:17
كريستيان بوبان CHRISTIAN BOBIN شاعر فرنسي، يتلمس البُعد الروحي في أضعف الأشياء، وفي ما يشبه الأشياء، بل وحتى من دون أن يغادر كروزو، مسقط رأسه. فهو الكاتب المنعزل العاشق للحظة، الغرق فيها إلى الأبد لأن لا وجود للزمن غير الحاضر. في رأيه أن كل شيء موجود هنا والآن. فلا حاجة للبحث عنه في مكان آخر. «نسيج الحياة نسيجٌ ملموس بعمق. وما يمكن أن نسمّيه بـ«العالم الآخر» ممزوج بعالمنا، مثلما القش مضفورٌ بالكرسي الذي صُنِع منه». في هذا الحوار الذي أجرته معه المجلة الثقافية الفرنسية «كليه نوفيل» يُشعرنا بوبان بالكمال والسمو الكامنين حتى في الأشياء التي تبدو فارغة وبلا معنى. يُشعرنا بها ببراعة تجعل أجسادنا تقشعرّ حتى بعد أن نراها. * أراك تقدم لنا تناقضات ظاهرية سامية: أزواجٌ من ألفاظٍ متناقضة جعلتَها متعايشة فيما بينها، كأن تجد على سبيل المثال، «فيضاً من الحياة في غياب الحياة نفسها». ** كل شيء هواءٌ وتنفّسٌ. الزحامُ هو الذي يجعلنا نعيش في الضيق والتوتر. ويجعلنا نختنق أحيانا. نحن بحاجة إلى معرفة أشياء كثيرة، مثل الملل، والنقص، والغياب، حتى نعرف الوجود، ونعرف الفرح والاهتمام النقي. نحن بحاجة إلى شيءٍ، أي شيء، لننطلق به نحو شيء آخر. أنا، على سبيل المثال، أحب الكتب، ولكني لاحظت أني أجد أكثر الكتب إثارةً للاهتمام في المكتبات الصغيرة المنعزلة التي لا تبيع سوى القليل جداً. وكأن في هذه المكتبات بالذات تنتظرني بعضُ الكتب منذ زمن طويل. كتبٌ ما كنتُ لأراها من بين ألف كتابٍ آخر في المحلات الكبرى. هذه الفكرة تذهب في الاتجاه المعاكس تماماً للفكرة التي خَلقتْها شبكة الإنترنت. والحال أني أعتقد أنه من الألم أن تجد كل شيء في متناول اليد وبلا انقطاع. ففي هذه الحالة نصبح وكأننا صرنا شيئاً عادياً بين جميع الأشياء. لذلك نحن بحاجة لأْن تُكسَر بعضُ نوافذ المنزل. حتى ينفُذ الريح! نحتاج إلى بعض العيوب، وإلى بعض الثغرات، وبعض الكُسر، حتى ننعم بالتنفس العليل. التأمل معرفة * ما الذي يقودك إلى مكتبة صغيرة حيث تجد كتاباً نادراً ومُهِماً؟ أهي الصدفة؟ أم النعمة؟ ** كيف لي أن أوضح ذلك دون خيانة؟ (لأني أريد أن أبقى في داخل لغتي وأتكلم بكلماتي). أمامك طرقٌ عديدة لرؤية الشمس. الطريقة العلمية تضع بين يديك عدداً كبيراً جداً من الوثائق الدقيقة التي تستغرق منك عملاً كاملا حتى تقرأها. في أصغر الأشياء تجد أعظم الأشياء. التأمل يمنحك ما لا تمنحك إياه المعلومات أبداً. يحتاج التأمل إلى الاعتماد على ما هو قليلٌ جداً، وبسيطٌ جداً. * هناك تعايش آخر بين الأضداد، إذ تقول يجب «الكتابة، لإصلاح ما لا يمكن إصلاحه».. ** نعم، أوّلا لا بد من قبول ما لا يمكن إصلاحُه. والنظرُ إليه. وتأمّلُه كما هو. وعدمُ البحث عن تعازٍ وهمية. ثم عدمُ العجلة في تقديم المساعدة. ولكنْ، أوّلا، يجب النظر إليه، فإذا كنا بجانب حائط فلننظرْ إليه. وإذا كان هذا الحائط يصل إلى السماء فلنتعرّف عليه ونَعْترِف به. إنه لشيءٌ يجلب تغييراً داخلياً عميقاً. فهذا «القبول» ليس استسلاما أو استقالة، ولكنه رؤية. الرؤية هي التي تُشفِي، الرؤية الحقيقية. وليس الوهْم، حتى وإن كانت الحقيقة في بعض الأحيان أننا لا نملك حلا. ولكنّ الاعتراف بها، والتعبير عنها هو الذي يغيّر كل شيء. وللكتابة، بطبيعة الحال، صلة بكل هذا. الكتبُ، كنتُ دوماً أحبّها وسأظل أحبّها إلى الأبد. إنّ الجميل في الكتب أنها بُنيت على مقاسِ اليَدين. الكتابُ مثل بابٍ ليس حجمُه أكبر من حجم اليد. وعلى الجانب الآخر من هذا الباب هناك الملائكة. هذه هي الكتب، إجمالا، وهذا هو ما أدركُته عنها في وقت مبكر جداً. ولكن هذا ليس هو حال جميع الكتب، لا، طبعاً! بعض الكتب، ولنصفْها بالكتب «الحقيقية» تأتي لتُنقذ وتساعد القارئ. فهي تأتي إليه، وميزتُها الاستماعُ إليه. لماذا؟ لأن هناك في صفحة بعينِها شيئاً يفكُّ رموزي ويكشف عن ذاتي. أخال أني أنا من يقرأ هذه الصفحة، ولكن هذه الصفحة هي التي تقرؤني! الكتب «الحقيقية» هي في الأساس كتبٌ «طبيّة» في كل الأحوال. فهي تعالج أمراضنا. لأن ما يصيبنا بالمرض هي الكلمات في غالب الأحيان. فإمّا أنّ هذه الكلمات تنقصنا، وإمّا كانت قاسية علينا فلم نطِقها. ولكنْ ما فعلتْه الكلمات فينا يمكن لكلمات أخرى أن تُصلحه. فاللغة هي التي تعاني فينا، وهي التي تجعلنا نعاني فيها. ومواد الكتب لغة يجب أن تكون دائمًا هي التي تصلح ما اعتلَى أو فسد. الكتب المتسكعة * ما هي الكتب التي تضع معالم مسارك في الحياة؟ ** يمكنني أن أذكر هنا بعض المؤلفين. على سبيل المثال، أندريه دوتيل Andre Dhotel، وجان غروجان Jean Grojean. هذان الكاتبان بينهما قواسم مشتركة كثيرة. لقد فارقا عالمنا، وكان كل منهما يعرف الآخر. دوتيل، مثلا، كان رائعاً وغير عادي. كُتبه كانت مثل غابات كثيفة لا يمكن اختراقها. قد نشعر ونحن نقرؤها بالخوف من أن لا نرغب في العودة إلى ديارنا، لفرط طولِها وما تحتويه من أمور مستبعدة لا يصدقها العقل. ثم فجأة، نجد أنفسنا أمام فرجةٍ كلها جمال، أمام صورة، أو كلمة لا تفارقنا أبداً. إنها «كُتب تجارب». فهي في الظاهر قصص تلتقط سحرَ الحياة ذاته، وما تحمله الحياة من أشياء ماكرة وغير منتظرة مقارنة بمشاريعنا وإراداتنا. ظني، على ما أذكر، أن جياكوميتي Giacometti هو الذي قال: «المؤسف، عندما نسعى لشيء أننا لا نجد ما نسعى إليه». في كتب دوتيل كما في الحياة، الناس يسعون في البحث عن شيء، ثم ينسون في لحظة ما، ما يبحثون عنه، وهنا تحديداً يجدون العجائب. إنها كُتب المتشرّدين التي تحمل كثافةَ الغيوم. أشكالُها تتغير، كلما قرأناها وعدنا لقراءتها المرة تلو المرة. هذه هي الكتب المتسكعة الضالة. يقول دوتيل «لا أحب أن أحلم. أحب أن تأتي إليّ الأحلام!». * قلتََ في مكانٍ ما إنه يجب العثور على الممر الضيق بين قناعات أماكن العبادة التي تُغلق «العالم الآخر» في داخل عقائدها، وبين تشكك الذين ينكرون هذا العالم، ويصفون بالغباء والحمق كل من يؤمنون به. ** الطريق يمر بين الدغلين الشائكين معاً، دغل البلاهة ودغل المعرفة التي لا يمكن للضوء اختراقه. ولكنْ مع قليل من المكر يصبح ذلك ممكناً. إنه لشيء جميل أن نتصرف بِمَكْرٍ أحياناً. في الأساس أعتقد أن ما من شيء حقيقي وعميق يمكن الإحساس به من دون نوع من البهجة الجوانية. من دون بهجة حقيقية. رأيي أن هناك بهجة حقًا. * البهجة والفرح هل هما شيء واحد؟ ** البهجةُ أحبُّ إلى قلبي أكثر، من حيث جانبها «المدنس». أحب كلمة فرح أيضاً. الفرح كلمة استخدُمها في كثير من الأحيان. فهي تُلح عليّ كثيرا في كتبي. ولكن أعتقد أن لكلمة بهجة سحراً أكبر وأعمق. تجارب ومِحن * في كتابك «سيادة الفراغ» نراك تكشف لنا قليلا عن الكيفية التي تعمل بها. لقد كتبتَ: «الأمور تتقدم نحوي. كل أنواع الأشياء، بِصَمْتِها وبهُدوئها تدخل في أعماقي. ثم يتشكل ضوءها في داخلي، خفياً، صغيراً، وبأعجوبة. وأخيرا يحدث الاحتراق، والبرق، والحرق، والإشعاع. ثم بعد ذلك تأتي الكتابة. أجل بعد ذلك فقط تأتي الكتابة. وهذا كل شيء». ** ليس عندي ما أقوله أفضل من ذلك. * باختصار، تظل أنتَ ثابتاً بلا حراك، والأشياء تأتي إليك. ** تماماً كما يمكن أن تأتي الأشياء لأي شخص. بهذا المعنى، ليس هنالك يومٌ سيئٌ بتاتاً. يمكن أن أمرّ بتجارب ومِحن، مثل أي شخص آخر، ولكن حتى في مثل هذا اليوم، أعرف أن شيئاً ما سوف يُزهِر. عاجلا أم آجلا. الأيام السيئة، يجب أن نُحبّها أكثر مما نحب غيرها، لأنها أيام فقدت كثيرا من حظوتها. تماماً مثل المطر الذي نرغي ضدّه ونستاء منه. الاختبارات المباركة * في حديثك عن الآخرين تقول: «إن التقدم نحو الوحدة (العزلة) لا يرسم سياجاً، وإنما يفتح الطريق الوحيد، والمستدام والفعال الذي يوصل إلى الآخرين». فعند وصفِك، مثلا، لعزلة تلك المرأة التي تعني الكثير بالنسبة إليك، تقول لها: «لقد كشفتِ لي عنها في قربان عاطفي. لقد كشفتِ لي عن الوحدة، وأنت تفكرين في إلغائها». أشعر أن حياتك كلها تكمن في هذا التأرجح. ** التأرجُح كلمة جميلة، لأنني أرى فجأة أرجوحة طفل. كما لو كانت روحُنا طفلا صغيرا على أرجوحة. من حين إلى حين تلمسُ قدماهُ السماء، ومن وقت لآخر تلامِس قدماه الأرض. ما هي اليد التي تدفعنا، لتعطينا زخماً، وتدْعم هذا الزخم؟ فلعلها يدُ المحنة والبلاء والاختبار. يدُ الاختبارات المباركة، التي تُرسلنا فجأة إلى السماء، والتي تحمينا أحيانا من السقوط. ما الذي يجعل الحياة لا تبقى في وضعٍ مستقر. فلهذا السبب أجد الكثير من الأشياء التي تعمل بطريقة أزواج من الأضداد في ذهني. لأنه لا توجد نقطة ثابتة. من يدري، فلعل أرواحنا أطفالٌ تلعب لعبة الأرجوحة. ولعل من لا يتحدث إلا عن السماء فقط مخطئ، ولعل من لا يتحدث إلا عن الأرض فقط مخطئ أيضًا، لأن هذا وذلك ينسيان الوقت الآخر. فالدقة تقتضي العودة للشيئن معاً، حتى تستمر الحركة بلا نهاية. الأشياء البسيطة * الغجر لهم تقاليد شفهية. تدوينُ هذه التقاليد ألا يجمّدها؟ ** لا، لأن لهذه التقاليد ما تقوله لنا، عن أنفسنا وعن الحياة. فهي تنقله إلينا. ولا تشوّه شيئاً. فهي لا تتحدث عن حالها هي بقدر ما تتحدث عن أمور أبدية. أي عن الأشياء البسيطة. كالعناية نحو الآخر. تتحدث عن الوقت الذي يمر. ندبة الطفولة هي التي لا تتلاشى أبدا، وتبقى محفورة على وجوهنا، حتى ما بعد الموت. هكذا هي تتحدث عن الأشياء. إن ما أتعلمه أيضاً وأنا أقرأ كرويش Kerwich أو دوتيل Dhôtel أو غروجان Grojean هو أنه ليس هناك تقنية روحية، على عكس ما يُلقَّن لنا في بعض الأحيان اليوم. هناك بالتأكيد أطعمة جيدة، وإيماءات جيدة، وأشياء يمكن تعلّمها. ولكن قلب الحياة نفسها قد لا تجد مفتاحاً آخر لفتحه غير مفتاحك أنت. المفتاح الذي تصهره في مصهر حدادة مِحَنِك واختباراتك. لا توجد قاعدة ثابتة لذلك. فالحياة مُربكة جدا! تأخذك خارج الطريق الذي تتطلع دائما إلى العودة إليه. نحن بحاجة إلى ما يطمئن نفوسنا. نحن بحاجة إلى اليقين، وبحاجة إلى المعرفة. إنه مطلب إنساني. ولكن يحدث أن يكون الجزء الأهم في مكانٍ خفي، أو جانباً، أو في الغيوم التي نسِيتَ أن تنظر إليها. الأشياء المهمة تحوم من حولنا. والوصول إليها ربما يتطلب منا أن نحُوم حولها بدورنا. وطالما ظللنا على الطريق، فما الذي سنراه؟ فقط أنفسنا. السويداء قصةٌ طويلة. لا أعتقد أني كذلك. من يدري، فلعل ظلال الأشجار التي كانت أمام بيت طفولتي ما زالت تؤثر في قلبي، وستظل لمدى الحياة. ولكن السويداء لا تمنحني مفاتيح جيدة. لذلك فعندما أسمعها تقترب مني أراني أتجنّبها. مركز المركز، بالنسبة لي، فقيرٌ بالكلمات. على سبيل المثال، قبل بضعة أيام رأيتُ لَيْمُونَتين فوق صحنٍ مزيّن بلون الذهب على الطاولة. فإذا بالصراحة، والوقاحة، والبراءة التي في هذا اللون الأصفر تُذهلني وتستفزني وتُحفزني طوال اليوم. لم أتمكن بعدُ من كتابة ما رأيت. لأن مهنة الكتابة بالنسبة لي مهنة أطفال. مهنة غريبة. أنظر إلى الأشياء التي حُرِمَتْ من النّطق، فأحاول أن أصغي إليها وأعبّر عما تقوله، وأنقله إلى الآخرين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©