الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فاتسلاف هافل.. سيرة مفكّر منشقّ

فاتسلاف هافل.. سيرة مفكّر منشقّ
8 يناير 2014 21:26
أبرزت الأحداث، التي هزّت البلدان الشيوعية في أوروبا الشرقية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، للوجود مثقفين من طراز جديد لعبوا دورا أساسيا وجوهريا في بلورة مطالب الجماهير الشعبية، وفي توجيه انتفاضتها وثوراتها العارمة التي عرفتها برلين الشرقية، وبراغ، وصوفيا، والتي خلت من كل مظاهر العنف والفوضى والتخريب، مؤدّية في ظرف قصير للغاية الى انهيار الشيوعية وجدار برلين. من غير الممكن، في تقديري، أن نقارن هذا الطراز من المثقفين بأولئك المثقفين «العضويين» التي سعت الاحزاب الشيوعية والتوتاليتارية الى خلقهم، ولا بأولئك المثقفين المُسيّسين الذين نعثر عليهم في هذا البلد او ذاك من العالم الرأسمالي مثل غونتر غراس في ألمانيا، أو ريجيس دوبرييه في فرنسا على سبيل المثال لا الحصر. نظرة الماركسية كان كارل ماركس أوّل من حدّد مفهوم «المثقف العضوي» إذ وصفه بأنه ذلك الذي يتخلّى عن مصالحه الطبقية الضّيقة لينحاز الى البروليتاريا التي ولّدها واقع الرأسمالية الجديد، والتي تجسد في نظره المستقبل الحقيقي للبشرية جمعاء. غير أن مواصفات ماركس للمثقف «العضوي» كانت قريبة إلى حد ما من مواصفات الفيلسوف أو المفكر المستنير التي حدّدها لنا كبار فلاسفة الأنوار من أمثال فولتير وروسو وديدرو، وغيرهم من أولئك الذين مهّدوا بأفكارهم لاندلاع الثورة الفرنسية عام 1789م، ولتفجير اغلب الثورات التي أعقبتها مطيحة بالأنظمة الاستبدادية والاوتوقراطية في أوروبا، وواضعة اللبنات الأولى لعصر الديمقراطية والبرجوازية. بالإضافة الى ذلك نحن لا نفهم من خلال تلك المواصفات أن ماركس يرى أنّ على المثقف العضوي أن يكون تابعا للبروليتاريا ومنخرطا في أحزابها ومنظماتها، ويتخلى بالتالي عن دوره النقدي والتوجيهي ليصبح مجرد منفّذ مطيع لجميع القرارات والمواقف التي يتبناها زعماء الأحزاب البروليتارية وقادتها. أما بالنسبة للينين وستالين وماوتسي تونج وأنور خوجة، فإنه يمكن القول إنهم شوهوا مفهوم المثقف العضوي. وبسبب هذا التشويه ارتكبت أخطاء فادحة، وجرائم فظيعة أطفأت ذلك البريق الساحر الوهاج الذي كانت تتميز به الماركسية في صفوف البروليتاريا، ولدى الطبقات العمالية بصفة عامة، وأيضا لدى أوساط المثقفين المستنيرين والتقدميين المناهضين للبرجوازية والرأسمالية. وكان لينين أوّل من رفع الدوغمائية الى حدودها القصوى في هذا المجال، مجال تشويه مفهوم المثقف العضوي، وأوّل من أباح لنفسه تقسيم العالم الى أبيض وأسود، والمثقفين إلى فئتين: فئة مناصرة للبروليتاريا، وفئة معادية لها. وعلى هذه الفئة الاخيرة شنّ حروباً ضارية. وذلك بالرغم من أن أغلب المكونين لهذه الفئة معروفون بمواقفهم المناصرة للعدالة والتقدم والحرية. ولكن بسبب رفضهم أطروحات البلاشفة بخصوص الصراع الطبقي وديكتاتورية البروليتاريا، وضعهم لينين ضمن الفئة المعادية للبروليتاريا، وبالتالي هم ينتمون الى تلك الفئات المحكوم عليها بأن تلقى في «مزبلة التاريخ». ومدفوعا بما عرف به من مكر سياسي، راح لينين ينقب في مؤلفات كبار المبدعين الروس من أمثال غوغول وتورغينيف وبوشكين وتولستوي وديستويفسكي وغيرهم، عن كل ما يمكن أن يبرّر أطروحاته، ويدعم الحزب البلشفي على المستوى النظري. وكان الروائي الكبير ماكسيم غوركي (1868-1936م) الذي ظل وفيا للفقراء والمعدمين حتى اللحظة الأخيرة من حياته أوّل من واجه هذا الاسلوب المتحجر، وهذا التفكير الايديولوجي الإقصائي وضيق الأفق. ففي المحادثة التي أجراها مع لينين بخصوص مسألة المثقفين، وصفه هذا الأخير «بالمثقف البرجوازي الصغير»، مؤكداً أن بروز «منظّرين أكفاء للطبقة البرجوازية الصغيرة يتطلب وقتاً طويلًا، ومؤلما ، وغير مضمون النتائج». القمع الستاليني قد تكون أطروحات لينين بشأن العلاقة بين المثقفين والطبقة العاملة، هي التي حرضت ستالين فيما بعد على شن حملات اعتقال واسعة ضد المثقفين الذين لم يكونوا منسجمين بحسب ظنّه مع المواصفات اللينينية. وعلى مدى سنوات طويلة ظلت معسكرات سيبيريا ومحتشداتها الرهيبة تعجّ بأفضل ما أنتجته العبقرية الروسية من مثقفين وكتاب وشعراء ومفكرين... وثمة من فضّل الانتحار عندما وجد نفسه أمام هاوية اليأس والقنوط. وهذا ما فعله كل من مايكوفسكي، شاعر الثورة الروسية وآيسنين وآخرون. أما الذين قضوا بردا وجوعا في المعتقلات والمحتشدات فيعدون بالمئات. يكفي أن نذكر منهم القاص البديع اسحاق بابل والشاعر أوسيب ماندلشتام. واستناداً الى المواصفات التي بلورها لينين للمثقف العضوي، صاغ الزعيم الصيني ماوتسي تونج مواصفات لهذا الأخير سمحت له خلال الحرب التحريرية، وبعدها بأن يقوم بتصفية كل من عارض خطه الايديولوجي والفكري والسياسي. غير أن الجريمة ا بلغت أوجها حين أطلق ماوتسي تونغ الحرس الأحمر في المدن والقرى والأرياف لتنفيذ تعاليم ما سماه بـ«الثورة الثقافية». وخلال تلك السنوات الكالحة التي عاشتها الصين في الستينيات من القرن الماضي، قام الحرس الأحمر، وجلهم من الطلبة محدودي التكوين والمعرفة بالاعتداء بالضّرب على آلاف المثقفين. ورافعين «الكتاب الأحمر» الذي يحتوي على تعاليم زعيمهم ماوتسي تونغ، نفذوا الإعدام في العديد ممن اعتبروهم حثالة البرجوازية. ومن تبقى منهم سيقوا الى الأرياف والمصانع بهدف «إعادة تربيتهم ايديولوجيا». غرامشي.. الاستثناء يمكن القول إن المفكّر، والمنظر الشيوعي الإيطالي انطونيو غرامشي (1891-1937) كان يمثل استثناء في التفكير الماركسي بخصوص مسألة المثقف العضوي ودوره ومكانته في المجتمع. فقد عمّق هذا المفهوم، وخصّص له العديد من الأبحاث والدراسات التي لا تزال مرجعا أساسيا لكلّ من يتطرق سلبا أو إيجابا الى الموضوع المذكور. ويرى انطونيو غرامشي أنّ على المثقف العضوي أن يكون نقيضا للمثقف القديم، والتقليدي، وأن يكون في قطيعة دائمة معه. وقد كتب في ذلك يقول: «إذا ما اعتقد المثقفون الجدد أنهم على علاقة مباشرة مع الانتلجنسيا السابقة لهم، فإنه يتحتم عليهم أن يقرّوا بأن لا جديد عندهم ذلك انهم ليسوا على صلة بالمجموعة الاجتماعية الجديدة، ولا بالتعبير العضوي للوضع التاريخي الجديد، وهم ليسوا غير بقايا الوضع القديم، المحافظ والمتحجر، ومجموعة اجتماعية تجاوزها التاريخ». والمثقف العضوي بالنسبة لغرامشي هو ذلك الذي تكون علاقته بالطبقة الثورية مصدر فكر يتناسب مع فكرها، انه ذلك الذي لم يعد نرجسيا، أنانيا، طائشا، مترددا، حائرا، محلقا بأجنحة الفكر الحر، مقيما مع الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها دائما علاقة تتسم بالخداع والثورية والاخفاء. إن العلاقة العضوية كما يرى إليها غرامشي، علاقة معترف بها ومعلن عنها... وسياسيا مرغوب فيها، بهدف دفاع أفضل عن المفهوم الجديد للعالم الذي تحمله الطبقة الثورية الصّاعدة. وأمّا مهمة المثقف العضوي فتتمثل بالنسبة لغرامشي في إعداد وتشجيع الإصلاح الثقافي والأخلاقي الذي يتيح لجماهير بأسرها بلوغ الوضع الذي يتمتع به هو، وذلك بتفويض خضوع الشعب للثقافة التقليدية، وإصلاح علاقته مع الثقافة الخاصة به. ان فلسفة (البراكسيس) بحسب غرامشي ترتفع انطلاقاً من الحسّ المشترك إلى مستوى الناس العاديين باتجاه مفهوم أسمى للحياة وللوجود (بعكس الكاثوليكية)، وتقيم وحدة جديدة بين المثقفين والجماهير. وداخل هذه الوحدة تمثل السياسة شكل التبادل الثقافي الأكثر تبلورا. ومن المؤكد أن فشل الأحزاب الماركسية في إيجاد المثقف العضوي الذي كانت تبتغيه وتدعو له في أدبياتها، وأطروحاتها، وممارساتها، هي التي أبرزت صنفا آخر من المثقف العضوي المناهض لها. فانطلاقا من مطلع السبعينيات، أي عقب مرور 15 عاما على الأقل على أول انفجار معاد للشيوعية (شهدته العاصمة الهنغارية بودابست)، وعامين على انتفاضة براغ التي أسكتتها الدبابات السوفييتية، ظهر في بلدان أوروبا الشرقية ما يمكن أن نسميهم بالمثقفين العضويين من طراز جديد. وجميع هؤلاء بمختلف مشاربهم رفضوا أن يكونوا أبواق دعاية لخدمة مصالح الأحزاب الشيوعية النظرية والسياسية والأيديولوجية، وأن يلعبوا دور المنفذين الطيعين لقرارات اللجان المركزية للأحزاب المذكورة، مفضلين الانحياز التام وغير المشروط لقضية الديمقراطية والحريات العامة. ولعلّ أشهر هؤلاء جميعا، الكاتب المسرحي والمفكر التشيكي فاتسلاف هافل الذي اختارته الجماهير الشعبية رئيسا لأوّل جمهورية ولدت بعد سقوط النظام الشيوعي فيما كان يسمى بـ تشيكوسلوفاكيا في شتاء 1989م، وظل في كرسي الرئاسة حتى عام 1992م. وعي مبكر ولد فاتسلاف هافل عام 1936م، أي في العام الذي توقف فيه التاريخ «بحسب تعبير الكاتب البريطاني المرموق جورج اورويل مُرْمزا بذلك إلى الحرب الأهلية الإسبانية، والى إعادة احتلال »الريناني« من قبل القوات النازية، والى غزو جيوش موسوليني لأثيوبيا، والى المحاكمات التي أعدها ستالين لخصومه السياسيين والأيديولوجيين، والى التحجر الستاليني الذي سوف يهيمن على الحزب الشيوعي السوفييتي على مدى سنوات طويلة. ومبكّرا، اكتسب فاتسلاف هافل وعيا سياسيا سوف يساعده فيما بعد على مواجهة آلة القمع الرهيبة التي كانت بيد النظام الشيوعي في بلاده. وفي نصّ كتبه عام 1984 تحت عنوان «السياسة والوعي» كتب يقول : «أمضيت جزءا من طفولتي في الريف، ولا زلت أتذكر بوضوح تام واحدة من تجارىبي الأولى...فقد كنت أذهب الى المدرسة الموجودة في القرية المجاورة قاطعا طريقا خلال الحقول، وكنت أرى كل يوم في الأفق المدخنة العالية لأحد المعامل، بُني على عجل، وقد يكون واحدا من تلك المعامل التي أنشئت لأغراض حربية خلال الحرب الكونية الثانية، وكان هناك دخان داكن اللون يتصاعد من المدفأة، ثم يتلاشى في السماء الزرقاء. وفي كل مرة أرى فيها هذا الدّخان، كان ينتابني إحساس حادّ بأن هناك شيئا غير مناسب في ذلك المشهد الذي كان يتجلّى أمامي إذ إن الناس لا يجنون شيئاً آخر من خلال ذلك غير تشويه بهاء السماء. وكنت أجهل اذا ما كان الدفاع عن البيئة وحمايتها أمرا موجودا في ذلك الوقت أم غير موجود. الشيء المؤكد أنه حتى ولوكان موجودا، فإني لم أكن على علم به. مع ذلك أحسست تلقائيا أن ذلك الدخان الذي يشوّه زرقة السماء ، يؤلمني ويحزّ في نفسي. وكان يبدو لي أن الإنسان بعمله هذا يقترف خطأ، وأنه يدمّر شيئاً مهماً، ويعتدي بطريقة فظّة وتسلطية على النظام الطبيعي للأشياء، وأنه عليه بالضرورة أن يدفع الثمن غالياً بسبب ذلك السلوك». هذا الوعي المبكر جنّب فاتسلاف هافل مسايرة الستالينية، وذلك خلافا لعدد كبير من المثقفين التشيكيين من مجايليه، أو من الذين ينتسبون الى الجيل السابق لجيله، او اللاحق له، ليدفع به وهو في الخامسة عشر من عمره الى الانضمام الى حلقة سرية مناهضة للنظام الشيوعي. ومن خلال هذه الحلقة، اكتشف فاتسلاف هافل أنه الى جانب الثقافة الرسمية المفروضة في المدرسة، والتي يروّج لها عبر وسائل الإعلام التي تملكها الدولة ومؤسساتها، توجد ثقافة أخرى، مختلفة وليست رسمية. وبالرغم من أنها مرفوضة ومحاربة من قبل أهل السلطة، أعني بذلك الشيوعيين، فإنها تتمتع بتقدير كبير من قبل الجماهير العريضة، ولها حيوية لا تتمتع بها الثقافة الرسمية. بالإضافة الى ذلك، هي قريبة منه، ومن همومه الذاتية. وهي تعكس بحق العالم الذي يرى فيه صورته. ومع رفاقه الذين كانوا معه في نفس الحلقة المذكورة، شرع فاتسلاف هافل يحتكّ بالمثقفين والكتاب والشعراء والمفكرين غير الرسميين. وهكذا ارتبط بعلاقات وثيقة مع بعض المشاهير منهم مثل: الروائي القدير بوهوميل هرابال، والكاتب جوزيف سكفوريسكي اللذين كانا يتمتعان بحظوة كبيرة لدى القراء، وبشعراء من أمثال ياروسلاف شايفرت الحائز جائزة نوبل للآداب عام 1984م، وفلاديمير هولان، ويري كولار. وبفضل كلّ الذي ذكرنا، أصبح فاتسلاف هافل واحدا من أبرز الناطقين باسم المناهضين للنظام الشيوعي لا في بلاده فحسب، بل في جميع بلدان اوروبا الشرقية. وللتعبير عن أفكاره، اختار المسرح. وفي مقدمة مسرحيته التي حملت عنوان: LARGO DE SOLATO كتب يقول: «في كلّ ما أكتب، هناك دائما شيء أعرفه، ألا وهو تجربتي في هذا العالم الذي أعيشه. باختصار، اخترت دائما كمصدر لكتاباتي مكوّنات حياتي وما يحدث فيها، وما يطرأ عليها، ما أنا أراه، وما يهمني، ويشغلني، وأعتقد أنه ليس باستطاعتي أن أستند الى شيء آخر غير الذي ذكرت، قبل حين. في كلّ ما أكتب، كنت دائما أعمل عبر ما تمنحه لنا التجربة الملموسة والواقعية، ملامسة شيء يكون له مدى معين. وكنت آمل ألا يكون هذا المحسوس وهذا الملموس غير وسيلة، وطريقة للتعبير عن شيء يعكس الوضع البشري بصفة عامة ويظهره. كما يعكس وضع الإنسان في عالم اليوم، وأزمة الإنسانية في الوقت الراهن، أي كل ما يهمّ الجميع بطريقة أوبأخرى«. رسالة عن الخوف إلى جانب التجربة الشخصية، يرى فاتسلاف هافل أن التاريخ واحد من مصادره الأساسية في الكتابة. وقد كتب في ذلك يقول: «مهما اختلف اهتمامات الكاتب ومقاصده ونواياه، وسواء كتب عن الحب، وعن الغيرة، وعن الفشل أوالنجاح في الحياة، أو عن الدناءة والخبث، أوعن الطبيعة، أوعن طفولته، أوعن الله، أوعن الأمراض النفسية كانفصام الشخصية، وسواء كانت أعماله متصلة بعلم النفس أوبالفلسفة، وسواء كان عليه أن يتقيّد بالوقائع أو أن يبتكر استعارات، أو أنه كان مهووسا بالمواضيع الجمالية الأشد غرابة ومهارة، فإنه ليس باستطاعته، إذا ما كان أصيلا بالمعنى الحقيقي للكلمة أن يتجنب التاريخ، ووضعه الاجتماعي، وعصره، أي السياسة. وعاجلا أم آجلا، نحن نكتشف أن العمل الفني الكبير يمنحنا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، معقدة ومخفية، عناصر تتصل بالتاريخ، والثقافة، والحضارة ، والمصير الروحي والاجتماعي للمجموعة البشرية. أنا لا أرى عملا فنيا أوأدبيا أصيلا وحقيقيا من دون هذه الأبعاد». وسوف تنعكس هذه الأفكار التي بلورها حول مفهومه للكتابة المسرحية والأدبية، على المقالات، والدراسات الفكرية والسياسية التي كتبها عن الأوضاع في بلاده في ظلّ النظام الشيوعي، والتي بسببها حوكم ومنع من السفر أكثر من مرة. وأوّل ما نلاحظه في تلك الدراسات والمقالات هو الاهتمام الكبير الذي يوليه فاتسلاف هافل لـ «المسؤولية» التي ترقى بالنسبة إليه الى مستوى المصير. وهو يربط الصّلة بينهما وبين المعنى العام والعميق لـ »الانشقاق« : »لكن في الحقيقة، من هم المثقفون المنشقون؟ إنهم ليسواغير أناس قادهم مصيرهم، أو المصادفة، أو منطق الأشياء، أو منطق عملهم، وسلوكهم إلى أن يقولوا عاليا ما لا يجهله الآخرون بالتأكيد غير أنهم لا يجرؤون على الإصداع به. وهم يخاطرون بحياتهم عندما لا يجرؤ الآخرون على القيام بعمل ما، أو هم بكل بساطة لا يستطيعون ذلك شاؤوا ذلك أم أبوا... يخاطر المنشقون بحياتهم من أجل الاخرين». رسالة عن الخوف وتعتبر الرسالة المفتوحة التي بعث بها هافل الى غوستاف هوزاك السكرتير العام للحزب السيوعي التشيكوسلوفاكي بتا ريخ 8 ابريل/نيسان عام 1976م من أهم الوثائق السياسية التي كتبها، وفيها يقوم بمحاكمة النظام الشيوعي بسبب هيمنته الكاملة على الحياة في البلاد، ومنعه لأيّ شكل من أشكال الحريات العامة، الشيء الذي أدّى بحسب رأيه الى تدهور الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية، والى استفحال الكذب والفساد والاستغلال، واللامبالاة، والى ضمور الأخلاق على المستوى الثقافي والفكري والفني والأدبي. وفي هذه الرسالة، كتب فاتسلاف هافل يقول مخاطبا غوستاف هوزاك: «إن السؤال الأساسي الذي يجب طرحه هو التالي: لماذا يسلك الناس مثل هذا السلوك؟ لماذا يقومون بكلّ ما يوحي إجمالا بأن المجتمع موحّد ومتماسك، ومساند لحكومته؟ وأعتقد أن الجواب الواضح لكلّ ملاحظ محايد هو: لأنهم خائفون. فخشية أن يفقد منصبه، يدرّس المعلم التلاميذ أشياء لا يؤمن بها. وخوفا على مستقبلهم، يكرّر التلاميذ ما يقول. وخشية من أن لا يتمكنوا من مواصلة تعليمهم، ينخرط الشبان في اتحاد الشباب، ويقومون بما يطالبون بالقيام به (...) وتجنبا لما يمكن أن ينجم عن ذلك، يذهب الناخبون الى صناديق الاقتراع موهمين أنفسهم أن الانتخابات حقيقية ولا غبار عليها. وهم يذهبون الى الاجتماعات العامة التي يعقدها الحزب حتى لا يفقدوا وظائفهم. وبسبب الخوف أيضا هم يقومون بما يسمى بـ «النقد الذاتي» بشكل مُعدّل. وحتى لا يتعرّضوا للمضايقات من أي نوع كان، وهم لا يجاهرون بآرائهم أمام الملأ...». ويواصل فاتسلاف كلامه عن الخوف قائلا : «لا يمكن أن نأخذ كلمة خوف هنا بالمعنى السيكولوجي المتعارف عليه، أي كنوع من الإحساس الملموس. فعلى العموم، نحن لا نرى من حولنا أناساً يرجفون خوفاً، وإنما نراهم منصرفين الى شؤونهم، وهم مطمئنّون، وواثقون من أنفسهم. إنّ ما أعنيه هو خوف عميق، أعمق من الخوف العادي السيكولوجي، وله معنى ايتيقي (أخلاقي) ومساهمة واعية في الوعي الجماعي لخطر دائم الحضور ، وقلق بالنسبة لما يمكن أن يهدّد، وتعوّد على التهديد كمكوّن أساسي للعالم الطبيعي، واستيعاب يزداد اكتمالا يوما بعد آخر، استيعاب واضح وحاذق لمختلف أشكال التكيف بالنسبة للعالم الخارجي كنظام وحيد لدفاع ناجع. غير ان الخوف ليس المادة الوحيدة المستعملة لإقامة البنية الاجتماعية الراهنة. مع ذلك هو يظل المادة الأساسية من دونه، ربما لن يكون النظام، والاجتماع والوحدة الظاهرية، وكل هذا الذي تروّج له وسائل الدعاية الرسمية، وما تعتبره رهاناً على الوحدة الوطنية في الوثائق الرسمية، ليس غير وهم». ويرى فاتسلاف أن نظاما كهذا يرتكز في تعامله مع الشعب الذي يحكمه على التخويف والترهيب، لا يمكن إلا أن يشجع على ظهور أمراض اجتماعية لعل الفساد أبرزها وأهمّها. وإ ذا كان الخوف يتراءى لنا خلف كل وسيلة من وسائل الدفاع الذاتي ضدّ هذا النظام الذي بسط نفوذا على كامل المجتمع شبيها بخيوط العنكبوت، فإننا نلاحظ أن الانتهازية والأنانية تصبحان المحرك الأساسي للتوجهات العدوانية التي يلجأ إليها الفرد للحصول على ما لم يستطع الحصول عليه حتى ذلك الوقت. لذا ليس من قبيل الصدفة كما يقول فلاتسلاف هافل أن يستفحل الفساد بشكل مخيف ليشمل كامل أجهزة ومؤسسات الدولة، وليتحول الى جرثومة خطيرة تنخر قلب المجتمع، وتفسد العلاقة بين أفراده، وبين الحاكم والمحكوم. لذا فإن عدد الذين يثقون في الدعاية الرسمية للنظام، والذين يساندون السلطة من دون أن تكون لهم مطامع، أو مطامح يظلّ في تضاؤل مستمر. أما عدد الانتهازيين والمرتشين، فإنه يظل في تصاعد دائم. وعندما تكون الهيمنة كاملة على المجتمع وكابحة لكل حركة تطور تنجم في داخله، فان الثقافة تكون المتضرر الأكبر. لماذا؟ عن هذا السؤال، يجيب فاتسلاف قائلا : »لأن الثقافة تمثل الوسيلة المضادة للتلاعبات الاجتماعية. سمات المثقفين المنشقين من هم المثقفون «المنشقون» الذين ظهروا في البلدان التي تحكمها أنظمة شيوعية، والذين تمكنوا من أن يملؤوا الفراغ الذي نشأ عن غياب المثقف «العضوي» بحسب المفهوم الماركسي؟ إنهم برأي فاتسلاف هافل أولئك الذين: ? يقومون بالتعريف بمواقفهم وآرائهم لدى الجماهير بقدر ما تسمح به الظروف والوسائل. وهم لا يغفلون عن أية فرصة تتيح لهم القيام بعملهم هذا. ? وهم الذين تمكنوا بفضل مواقفهم الجريئة والحازمة من اكتساب ود وتعاطف عدد كبير من الذين يرغبون في التخلّص من خيوط العنكبوت التي نسجها النظام داخل مجتمعهم. ورغم أنهم يواجهون جهاز الرقابة الرهيب، وممنوعون من نشر أدبياتهم، فإنهم يمتلكون وسائل تعبير مباشرة للتعريف بأنفسهم وبأفكارهم. وهم يتمتعون بـ «روح معنوية» عالية تجعلهم في مأمن من أفظع أشكال القمع والملاحقات. ? وهم بالأحرى مثقفون، تتجاوز أفكارهم ومواقفهم المجالات الضيقة، لتصل الى خارج البلدان التي ينتمون إليها. وهم يعتقدون أن الكتابة من أنجع الوسائل للتعريف بأنفسهم وأفكارهم داخل بلدانهم وخارجها. ? يرتكز نشاطهم وعملهم على مبدأ الشرعية: فهم لا يعبّرون فقط علَنا عن أفكارهم وعن مواقفهم، بل يؤكدون أيضا على أنّ كلّ ما يقومون به لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتعدّى القوانين العامة ، وأن يتلاعب بها. ? هم الذين يؤمنون بـ «السياسة المضادة للسياسة»، أي بالسياسة التي تأتي من الأسفل، من الإنسان وليس من الجهاز: السياسة التي تنبع من القلب، وليس من النظرية الجامدة والمتحجرة. السياسة التي تحفّزنا على النزول الى أعماق البئر لكي نتمكن من رؤية النجوم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©