الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شهادة عن جيل اليسار

شهادة عن جيل اليسار
9 مارس 2011 19:36
هذا الكاتب من مواليد حقبة وعد أهلها بالسعادة والسلام، وكان حصادها مذهلاً. فعلى مشارف نهاية القرن العشرين، انهار البنيان الاشتراكي، خاتمة منظومة أنجبتها حربان كونيتان بفاصل عقدين، وأنهكتها حرب باردة على مدى عقود أربعة. وبالتزامن مع هذا الحدث المدوّي، طويت صفحة نزاع أهلي مرير في لبنان، ولاحت بشائر استقرار لن يعمّر طويلاً أمام التحولات. فما أن أطفئت شمعة الألفية الثانية، وتم دحر الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان، حتى أطاحت غزوة نيويورك بالرجاء المعقود، مخلّفة العنف الدموي والإرهاب والحملات العسكرية في بؤر شرق أوسطية تجتاحها الأصوليات المذهبية، وتتناسل حاقدة على الأغيار. إنها ليست سوى دورة تاريخ، زائلة لا محال، لكن المعاش شأن لحظة لا يعوض عنه قادم مسرات. حول تلك التحولات التي عصفت بالعالم والمنطقة يقدم نسيم ضاهر، شهادة عن جيل لبناني شغلته تجربة الانتماءات اليسارية، ووعودها، قبل أن تسقط في نقيضها. يقول مؤلف كتاب “جيل اليسار”: “ليس في وسع الأحياء إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والتعويل على عامل الزمن، لأنهم أسرى يومهم، مقيدون بجدول الفصول بين ربيع وشتاء. إنني أحاذر توصيف محتويات هذه الصفحات بالسيرة، وهي حقيقة تبخل في مقدار الحميمي الخاص المشوق وتحاكي الأمكنة والأحداث بعد حين”. إن علاقة المروي بالراوي، في هذا الكتاب، أحادية الجانب، صامت يسمعه المنادي ما يشاء، حبذا لو بادله بالمثل وغامر بالنطق. إن الشهادة لا تستقيم دون تدقيق في صحتها، ومطاردة بالأسئلة والبينات. ويعترف المؤلف: “أخالني فاقد صفة الشاهد، وجلّ محمول جعبتي لقطات من تجوال..”. غير أنه يعود ويقول انه ليس يدري لماذا تنتصب الأمكنة حيث جالت الذاكرة، ويتقدم الحجر على البشر في حافظة ذكرياته. قد يرى كثر في ذلك ضرباً من الاعوجاج، وله من المعذرة وقوع الأمر خارج دائرة الإرادي الذاتي ونزعة الانتقاء”. كانت بلدته تعيش من حقولها، تنتظم الحياة وفق المواسم والغلال ولقد درجت المبادلات على المقايضة، أو معاييرها في الغالب، ولقد غاب عن طبائع الناس مفهوم التجارة، كما انخفضت أسهمها في أسفل درجات سلم المعيارية الاجتماعية، مقارنة بالملّاك والمتعلمين، ولقد أفاده عالمه الصغير، أن البيع والشراء لهما عنوان واحد ومكان أوحد اسمه الدكان، يجلس صاحبه وراء الستار، ويرتدي السروال معظم الأحيان. وفي تفاوت دخول الحياة العصرية لحق التغيير سريعاً بالأماكن العامة، من السراي الحكومي إلى الكنائس القديمة والمدارس طبعاً. ويعرض أيضاً كيف الناس انتقلت من القرفصة في أطراف الساحات العامة إلى الجلوس في المقاهي وعلى الأرصفة أمام المحال. أطاحت الفرنجة بقسمات من الموروث عن غير تبصّر وعناية، معتبراً لقد جرف الأصيل تجويف الذاكرة بالقضاء على أماكن تعاقبت أجيال عليها. تألفت البلدة من حارتين: الفوقا منزل المشايخ والتحتا في طور التوسع والامتداد، وبينهما كنيسة السيدة، التي رسمت الفاصل بين بيئتين، لكل لهجتها وروابطها وعوائدها. ولقد اشتق اسم البلدة من الآرامية والمرجح أنه عنى المعقل والحصن، سيّجته الطبيعة بدفاعات منيعة، والتف السكان حول برج شيّد في وسطه، يشرف على السهل المنبسط أمامه، مصدر الرزق الرخو للقاطنين في الملاذ. وعلى جانبي الهضبة القلعة الواقفة بالمرصاد للطامعين والغزاة. يقول المؤلف عندما شارفت قصته على النهاية، وكأنه لم يبدأ بعد، ترنّ أصداء في أذنه ويفشل في إيصالها الورق. كتابته فعل ناقص وجملة مطولة تأخرت حيال الماضي واستعجلت إزاء الحاضر قبل أن يتغير ويسرع خطاه. فلقد سجّل مضمار لبنان أرقاماً قياسية في غضون بضعة عقود، أبرزها في الألعاب النارية من قنص وقصف ووقف إطلاق النار وتصفية واغتيال واجتياح، كما استحدث وأضاف في مجالات الخطف والاحتجاز والتهجير، وكل ما يعود للمليشيات من تمارين بالذخيرة الحيّة ومناورات. قضى من غدر سوء الطالع به ومن حكم عليه بالموت لاشتباه في سلوكه السياسي ضمن لائحة سوداء جرى تداولها في الإعلام أحياناً. حروب صغيرة نافست حروباً كبيرة تكفل بها العدو والجار، ودمار ثم إعمار تلاه المزيد من التخريب وزرع الألغام. على هذا النحو، تعبت أرجلهم وتفتحت أعين الصغار، يستبقون هدنة ويسابقون الرصاص. عوارض بالجملة انتابت بلداً وأهله، جارفة ادعاءات بعطر الزهر صاحبت وداعبت مخيلة مجموعات سكانية تمادت في تأصيل خصائصها وإسباغ مسحة ملحمية على استيطانها بقعة معينة من الجبل أو الساحل، ودورها عبر التاريخ، تمثل قاسمها المشترك بنفي العورات والتلطي بنقاوة موروثة. فكل سوء غريب عن عادات وتقاليد مرتكبه، والفاعل مجهول، إن فضح وبانت فعلته عوقب بعبارات لفظية أخرجته من الجماعة، شكلاً، عدّت صك براءة لحاضنته وعشيرته. إن خصائل المكونات اللبنانية، كما يقول الكاتب، حسب زعم حرّاس هياكلها، أكثر من أن تحصى، وهي جميعاً تتنازع الأمجاد والنسب والعراقة، بينما يفخر كل فريق، على حدة، بأبطاله وآبائه، ومآثر أجداده وصناعته. وإمعاناً في قسمة المقسم وفق المقاربة الرومانسية، على صعيد المرجعية والتكاوين البلدية، تتناسل الفروع روافد ووحدات محلية، فيضحّي مجموع فضائلها بحجم مفاخر الكون أجمعه، وقياس إشعاعها شمساً تنير الأمم، وتهتز من إغاظتها العروش والعواصم. يعرض كيف إن فرز الذاكرات الجمعية لا يمهد نجاح الضم في انتظام تعاقد سياسي يبنى على جامع الجغرافيا ومشتركات معقمة ومنقحة خالية من الشوائب والسلبيات. الحال إن منحة الطبيعة أخرت بواكير الاندماج، بينما أدى الاضطهاد الشرقي ما قبل الكولونيالي من جهة، والانتداب الأجنبي على خلفية تقاسم النفوذ وتدمير البنى الاجتماعية القديمة من جهة أخرى، إلى بلورة إرادة وطنية ومطلب استقلال لا على أساس التوحّد القومي وشحناته الرومانسية، المؤرخ القرن التاسع عشر، بل على رسالة النهضة المدنية التنويرية، وتشرّب النخب أفكار القرن العشرين. من محاسن الديمقراطية أنها رضائية في المقام الأول، غايتها النهج وليس صاحبه بالذات، ترحب بالخسارة كما تحتفي بالربح، يسهل على أتباعها البقاء خارج السلطة، ولا يشعرون بالذلة والانتقاص من قناعاتهم إذا خذلهم امتحان شعبي أم نالت معوقات من سعيهم السياسي. فالديمقراطية تؤتي ثمارها في غير مجال، بدءاً من أسلوب العيش وكيفية مقاربة الأزمات. من هنا يعزى الفشل في المفهوم الديمقراطي إلى أسباب ذاتية، مردّها الخطأ في الأداء والخيار، لا حياء من كشفها، ولا مفرّ من إخضاعها للمحاسبة والتصحيح. تلك خلاصات تجارب حيّة خضعت للمراجعة وتداول السلطة، واغتنت بمكاسب دستورية عميقة، وبتقديمات اجتماعية ما زالت في طور النموّ والإصلاح، يريدها معياراً لسلوكه، ودواءً يساعد على شفاء وطنه، ويسره أن تكون نابعة من ثقافة إنسانية كونية، وتجد بذوراً وروافد لها أيضاً في بيئته. يقينه إنها أداة سياسات راشدة وحكيمة تضمن سلامة المجتمع، وإن حماية اليابسة من غضب الأنواء تبدأ بحائط كاسر للأمواج. من سلة الإيديولوجيات، تسلل العقرب الفاشي العنصري، ومنها خرج مولود اشتراكي واعد، كتبت له حياة مديدة، فأذبلته الشمولية وخارت قواه إلى أن انهار. ولقد اقتبس المحيطون بهم من هذا وذاك، وأضافوا عليه، عدوّاً وأشقاءً، مخالب وآفات بذرائع إرسالية وإحيائية، التهمت مبدأ المساواة وزرعت الكراهية ونوازع الحروب والعدوان. إلى هذه العوالم دنت ساعة القول وداعاً، ولربما جسّدت الديمقراطية معنى الوداع، وعبدت طريق السلام. الكتاب: جيل اليسار المؤلف: نسيم ضاهر الناشر: دار الفارابي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©