الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هاني هياجنة: التراث جَنى الروح

هاني هياجنة: التراث جَنى الروح
21 ابريل 2010 20:29
لا تملك وأنت تستمع إلى آراء الباحث والخبير التراثي هاني هياجنة، عميد كلية الآثار والانثروبولوجيا في جامعة اليرموك، ممثل الأردن في اللجنة الدولية الحكومية للدول الأطراف المصادقة على اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي، سوى استشعار أهمية التراث غير المادي وضرورته للجماعات والمجتمعات المختلفة. فهو يتعامل مع التراث على أنه جُماع أو خلاصة ممارسات الروح البشرية غير الملموسة، ووسيطاً غير عادي جرت وتجري به أكبر عملية نقل عابرة للأجيال. بهذا، يصح القول إن التراث هو جَنى الروح الإنسانية وزبدتها وعطاءاتها في شتى المجالات، وما دامت خلاصة الخبرات وتاريخ البشري على أرض ما ومختصر علاقته بالزمان والمكان، فإنها تستحق منا العناية الفائقة، والتفكير المنظم، والإدارة السليمة، والتخطيط الصحيح وغيرها مما يحفظها من الذبول أو النسيان أو ... الاندراس الكامل... وهنا نص الحوار: في المصطلح ? بداية دعنا نؤصل الأمر لأن هناك خلطاً شديداً فيما يخص مصطلح التراث، هل الحديث عن التراث الثقافي غير المادي يختص بالتراث الشعبي أي الفولكلور وأشكاله المختلفة، أم أنه يضم أيضاً التراث الفكري؟ ? في بادئ الأمر اقتصر تعريف التراث الثقافي على بُعْد مُحدَّد يتصل بالبقايا الأثرية أو المادية التي خلَّفَها الإنسان عَبْر العصور، إلا أن معانيه ومدلولاته تطورت تدريجياً وتشعبت لتشمل التراث غير المادي الذي يشمل المخزون الذهني للشعوب والمجتمعات الحية، وما أنتجته من تراث يُتَنَاقَل بالتواتر من جيل إلى جيل عبر شبكة الشفاهة وغيرها، بما في ذلك الثقافات البائدة والحية على السواء؛ فالحفاظ على هذا التراث ونشره، واستكناه مغازيه وأبعاده لدى شعب أو مجتمع، نظراً لأهمية “الذاتية الثقافية” الماثلة فيه، وما لها من أثر في ازدهار المجتمعات، وحرية الشعوب، والتقائها، يعني بالتالي إمكانية بناء قُدُرات تُمَكِّنُ من الحوار بين الثقافات المختلفة؛ فالتراث الثقافي والحوار صنوان لا يفترقان، ومن الحِكْمَة أن نقوم نحن بدورنا في صون هذا التراث الثقافي بأبعاده المختلفة ليتسنى لنا نقله إلى الأجيال اللاحقة وتحقيق التنمية. إن التراث الثقافي غير المادي ينطوي على أبعاد ثقافية إنسانية لا متناهية، لأنها تَتَناول الروحَ الثقافية غير الملموسة للإنسان، وليس ما ينتجه كمادة، وقد جاء تعريف اليونسكو لهذا النمط من التراث شاملاً في ميثاق “صون التراث غير المادي” الصادر سنة 2003 بقوله إن التراث غير المادي هو “الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات ـ وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية ـ التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثهم الثقافي. وهذا التراث الثقافي غير المادي، تُبْدِعُه الجماعات من جديد بصورة مستمرة بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها، وهو يُنَمِّي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ويُعَزِّزُ من ثمَّ احترامَ التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية. ويتجلى هذا النمط بأنواع مختلفة من التراث، فمنها “التراث الشفاهي”. والأعياد والمناسبات والطقوس والمعتقدات والموسيقى والغناء والفنون الأدائية والطب الشعبي والأدب الشعبي والتقاليد الطََّهَوِيَّة (أو المطبخية) والألعاب والرياضات التقليدية وغيرها. مَتْحَفَةُ التراث ? تحدثت في الملتقى الرابع للتراث الذي عقد في العاصمة أبوظبي مؤخراً عن دور المتاحف في صون التراث الثقافي غير المادي، والمتحف يحمل مفهوماً اصطلاحياً محدداً ينتمي إلى الثقافة الأوروبية، ويحيلنا الى اللقى الأثرية أو البقايا الحجرية وغيرها من عناصر التراث المادي، هل يمكن توسيع هذا المفهوم ليشمل التراث غير المادي؟ وهل يمكن للتراث غير المادي أن يضيف فضاءات إبداعية جديدة للمتحف؟ ? أعتقد أن إضافة التراث الحي إلى المجموعات المادية المتنوعة في المتحف سيضيف أثراً تفسيرياً وبعداً ديناميكياً على كليهما، أي المادي وغير المادي، فعملية جعل غير المادي أو الممارسات الحية مرئية مهم بكل معنى الكلمة، وسيعمل على بث الوعي بمستويات مختلفة، فأي تسجيل أو عرض لأي من من مناحي التراث الحي الذي يمكن أن يٌمارس خارج المتحف، الذي يمكن أن يوظف عروضاً حية أيضاً، قد يسهم فعلًا في نشر الوعي بأهمية التراث الثقافي غير المادي في المجتمع وبين الأفراد المنتمين إليه. وكنقطة بداية، يجب أن يدرك المرء بأن المتحف بتعريفه التقليدي يهتم باللقى المادية للإنسان ويخدم مجتمعاً بعينه، بحيث تكون هوية ذلك المجتمع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمجموعات المتحفية التي يحويها ذلك المتحف، وفي هذه الحالة، وبما أن التراث الثقافي غير المادي يربط هوية الجماعات والمجتمعات واستمراريتها، فإنه يعوزنا إضافة التراث الثقافي غير المادي إلى المجموعات المادية بغرض بث المعرفة والتوعية بها، أي أنه يمكن دراسة إمكانية ربط بعض عناصر التراث الثقافي غير المادي باللقى الأثرية والقطع التراثية وغيرها من الأدوات والمعروضات الملموسة، مما يقود إلى الإسهام في تفسير هذه المجموعات للناس الذين يخدمهم ذلك المتحف. وقد ينطبق هذا بشكل مباشر على متاحف التراث التي تمثل استمرارية للثقافة المادية لمجتمعات بعينها. إن سرد الحكايات الشخصية واحد من الأشكال المهمة التي تستحق الاهتمام في هذا المجال، حيث يمكن أن ترتبط حكاية معينة بقطعة معينة في المتحف، كما أن توظيف الذاكرة الحية ودلالاتها في فهم القطع المحفوظة في المتحف قد يلقي الضوء على الناحيتين، المادية وغير المادية، مما يقودنا بالتالي إلى فهم أفضل. ثقافة غائبة ? ربما يقول قائل إن ثقافة زيارة المتحف لا تزال غائبة عن الشريحة الكبرى من المجتمعات العربية، وهي تكاد تقتصر على المتخصصين والباحثين وطلبة المدارس، كيف يتسق هذا الأمر مع واقع الحال؟ وما هو المطلوب لتعميم ثقافة ارتياد المتاحف وجعلها تقليداً جماهيرياً وشعبياً؟ ? هذا كلام صحيح جداً، فالمتاحف بالنسبة لنا ليست إلا “مخازن” للقطع المادية، لا اتصال لها بالمجتمع المحيط بها، ولا كينونة لها في نفوسنا، إذ إنه لم تترب في نفوسنا فكرة اندماجنا النفسي بتاريخنا وحضاراتنا وتراثنا التي تمثل المتاحف الدليل عليها، وكثيراً ما لاحظت الأطفال وطلبة المدارس “يساقون” لزيارة المتحف دون إدراك منهم بأن هذه القطع التي يرونها ويتمتعون بها، ما هي إلا نتاج مادي لأجدادهم. فالتركيز على العامل النفسي مهم جداً في هذه المعادلة، إذ لا بد من بث الشعور لدى الناشئة بأهمية موجودات المتحف كمنتجات ثقافية قام بها أجدادهم، وانهم يمثلون اتصالًا جوهرياً بينهم وبين الأجيال التي سبقتهم وستلحقهم, أي أن عملية ارتياد المتحف والترغيب بها يجب أن تبدأ من المدرسة والتحضير النفسي للطلبة، وتوعيتهم بأهمية تراث أجدادهم، قبل الشروع بالزيارة. وهذا يتطلب منظومة تربوية متكاملة تتشارك فيها المدرسة والجامعة والعائلة والمجتمع ككل. كما ينبغي أن تكون المتاحف جزءاً من الحياة اليومية للطالب، واسمحي لي بأن أعود إلى جون ديوي الذي قام بشرح دور المتاحف في سياق نظريته التعليمية (المدرسة والمجتمع)، حيث نص مذهبه على وجوب اتصال المدرسة بالحياة خارجها، ولا تكون منفصلة عنها، وكان مقتنعاً بأن الطريقة المثلى لتوحيد أجزاء النظام هي بربطها بالحياة، وأن المدرسة المثالية هي تلك التي تتضمن المكتبات والمتاحف، رغم ذلك، فزيارة المتحف لوحدها لا تكفي. وعلم المتاحف المعاصر والحديث يقدم مفاتيح لمقاربة اللقى الأثرية والقديمة وتعددية دلالاتها ومعانيها من خلال طرائق بديلة في التفسير، مما قاد بالتالي إلى أشكال بديلة ومتعددة للمعرفة، وذلك في السياق الثقاقي والتربوي والبيئي للمتاحف وفي ضوء تغير خصائص خلفياتها المعرفية والمتحفية والاجتماعية والتربوية. وقد بدأت المتاحف بالتركيز على وظيفتها الداخلية والخارجية، فأخذت تهتم بالتراث في سياق المجتمعات المعاصرة التي يشكل الناشئة وطلبة المدارس جزءاً كبيراً وجوهرياً منها. كما ركزت الأبحاث في الآونة الأخيرة على الطرق التي تجعل الهوية والمجتمع وطرائق الخطاب جزءاً من عملية صنع المعنى والدلالات في المتاحف، وما تلك الدراسات إلا دليل على الرؤى البناءة في التعليم المتحفي. ومن الضروري التذكير بأن عملية التعليم الرسمي غير الموجهة والتي تحدث في المتحف هي في الواقع نتاج فرعي للنشاطات الاستكشافية، والتي لا تُقَيَّم من ناحية وضع درجات أو علامات. ولما كانت أي عملية تنوير حول التراث يقوم بها المتحف، فإن الأطفال والناشئة هم عمادها. إن مراعاة ما ذكر قد تسهم بطريقة غير مباشرة في تنمية الثقافة المتحفية لدى الشعوب العربية، وتجعل زيارة المتحف عنصراً مهماً في حياتهم والاعتزاز بهويتهم. سّر الصحوة التراثية ? لا يحضر التراث إلا وتحضر معه العولمة وتحدياتها، هل يمكن في هذا العصر الحديث عن تراث محلي في عصر الكوكبة والقرية العالمية؟ بأي صيغة يمكن أن يكون التعاطي مع التراث؟ وهل تأتي الصحوة التراثية التي تشهدها الدول كرد فعل على العولمة وتهديداتها للهويات والخصوصيات الثقافية؟ ? نبهت العولمة بطريقة غير مباشرة الشعوب إلى أهمية تراثها الذي تبني عليه عناصر هويتها، وقدمت عواقبها, التي مازلنا نجهل كثيراً من جوانبها حتى الآن، سبباً للاهتمام بما تبقى من تراث المجتمعات والجماعات والشعوب. ولا بد من الإقرار بأن العولمة فعلت فعلها في غربنة الثقافة والشباب، إذ أذابت أطيافاً لا بأس بها من أنماط التراث الثقافي غير المادي، وأقصتها وأجبرتها دون قصد على الاندراس، وأتاحت المجال لفراغ ثقافي بين الشباب. من ناحية أخرى فإن الأوضاع الاقتصادية لممارسي التراث أدت إلى عزوفهم عن مهمتهم وحرفهم التراثية بشتى أنواعها وأنماطها. علاوة على تغير أساليب الحياة والسياق الثقافي، إذ كانت الأنماط الحياتية التقليدية تُحتّم الالتزام بأطياف وأنماط مختلفة من التراث الثقافي غير المادي. ولا شك أن انخراط الشباب في عمليات حفظ التراث الثقافي غير المادي وبعثه أمر جوهري ينبغي على الحكومات بأقنيتها المختلفة تشجيعه. وأود هنا التنويه إلى أهمية التراث وعلاقته ببناء الهوية لدى الشباب، فقد ربط الكثيرون بين الهوية والتراث وحماية التراث وحماية الهوية، وطالما أعطت هذه المعادلة قوة للعاملين في هذا القطاع، فحماية التراث مسألة تدغدغ مشاعر الناس عادة خاصة فيما يتصل بحماية حقوقهم الإنسانية، والربط بين الهوية والتراث بحكم تفسيره من وجهة نظر علم النفس التحليلي هو “عملية نقل عابرة للأجيال”، فانسياب عناصر التراث الثقافي غير المادي ذات الهوية المشتركة يحكم من إبقاء قيم الجماعة لدى الأجيال المنتسبة إليها، وإبقاء الخط المشترك والتاريخي للتعبير عن الهوية الحقيقية، فالربط بين الهوية والتراث يؤسس هوية محددة تخدم تراثاً محدداً ضمن بنية اجتماعية قوية، فالعملية إذاً فعل مشترك ناتج عن رغبة وخيار للإنسان لكي يشترك في الرؤى التي تشكل الهوية والتراث، علاوة على أن الهوية مفهوم أساسي في السلوك النفسي للإنسان، ومن الضروري أخذ هذا المنحى بعين الاعتبار عند وضع أي سياسة أو استراتيجية تتصل بهذا التراث، بحيث تضمن هذه السياسات أو الاستراتيجيات دعائم جديدة لإدارة المصادر الثقافية والاجتماعية والبيئية المختلفة. العولمة واختلالاتها ? تشيع في أدبيات اليونسكو وخطابها الثقافي فكرة الحفاظ على التنوع الثقافي والتعددية، أي دور يمكن أن يلعبه التنوع التراثي للبشرية فيما الثقافات المحلية مهددة بالإلغاء والاندراس أمام طغيان العولمة الكاسح؟ ? إن سؤالاً كهذا يحتم الحديث عن التنوع الثقافي وتعدديته في مجتمع أو إطار اجتماعي او سياسي، أي عندما تعيش ثقافات مختلفة الحجم والقوة بأنظمة قيمها المختلفة في سياق وحدة اجتماعية واحدة، مع الأخذ بعين الاعتبار تنوع الأجناس والأعراق والأنماط والقيم الاجتماعية ووجودها في نفس الحيز يمثل أنماطاً وجماعات اقتصادية واجتماعية، ولعل هذا المفهوم ينطوي على عناصر أخرى مثل النسق التربوي الخاص بكل جماعة أو ثقافة، والخلفيات المهنية، وتعددية الأديان والمعتقدات في المجتمع. يضاف إلى ذلك أن الطريقة التي تنظر بها الدولة إلى تنوع الثقافات فيها تعتمد بالدرجة الأولى على القيم الثقافية المختزنة لدى تلك الثقافات المتباينة، والمتنوعة، علاوة على سلوكياتهم تجاه تلك الاختلافات والتنوعات. هنا تبرز أهمية اتفاقية التنوع الثقافي التي أطلقتها اليونسكو عام 2005، وأقرت فيها أهمية التنوع كميزة للبشرية، مما يحتم تعزيزه والمحافظة عليه لفائدة الجميع، حيث إنه يخلق عالماً غنياً يعيش في نطاق الخيارات المتاحة، وتتعزز فيه الطاقات البشرية والقيم الإنسانية مشكلة بذلك أساساً للتنمية المستدامة. ويزدهر التنوع عادة في رحاب الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والاحترام المتبادل بين الشعوب والثقافات، وقد عملت اليونسكو على إدراجه في السياسات الوطنية والإنمائية، مدركة بأن الثقافة تتخذ أشكالاً مختلفة عبر الزمان والمكان، وأن هذا التنوع يتجلى في تفرد الهويات وتعددها، وبأشكال التعبير الثقافي للشعوب والمجتمعات. وقد سعت اليونسكو في ميثاقها الخاص بالتنوع الثقافي إلى العمل على اتخاذ التدابير اللازمة لحماية التنوع الثقافي وأشكال التعبير عنه، وأهميته في التلاحم الاجتماعي والتداول الحر للأفكار وحرية التفكير، وأن التنوع اللغوي عنصر أساسي للتنوع الثقافي، وأن العولمة، على الرغم من أنها وفرت الظروف الملائمة لتعزيز الثقافة بين الدول بما أتاحته من تكنولوجيا التواصل السريع، إلا أنها تشكل بنفس الوقت اختلالًا في التوازن بين البلدان الغنية والفقيرة. وربما كان علي التنويه هنا إلى أن تنوع الثقافات وما تنتجه من تراث مادي ومعنوي في العالم، هي كنوز لا يمكن تعويضها إن اندرست واختفت، فهي مصدر روحاني، ومنبع للغنى الثقافي للبشرية جمعاء. ? ألا يُخشى أن يتحول الاهتمام بالتراث الخاص للجماعات والعناية في المبالغة به إلى تكريس التشتت والتشرذم ونقله من المستوى السياسي إلى المستوى الثقافي في بعض الدول التي تضم ثقافات متباينة؟ ? إن حفظ التنوع الثقافي وما ينتجه من تراث، يجب أن يُعَزز ويصبح جزءاً من عملية التطور الإنساني، وما تنوع التراث الثقافي إلا متلازمة تتصل بالمكان في كل زمان، وتتطلب منا دائماً احترام الثقافات الأخرى ونواحي الأنظمة المعتقداتية، وليس السعي نحو تنحيتها، مهما كانت الأسباب. وفي بعض الأحيان عندما تكون فيها القيم الثقافية متصادمة، فإنه يجب أن يعترف بشرعية القيم الثقافية لكل الأطراف. يضاف إلى ذلك أن كل الثقافات ترمي بجذورها بأشكال ووسائط مختلفة تتمثل بالتعابير المادية وغير المادية، وهذه يجب أن تحترم وتعزز، وأن كل تراث ثقافي يمثل ثقافة معينة في منظومة التعددية الثقافية هو في الواقع يمثل تراثاً للكل. ومن هنا نقول إن الالتزام بمعايير صون التعددية الثقافية في كل بلد وما تنتجه من أنماط مختلفة من التراث الثقافي، ينبغي في الواقع أن تكون أسساً للتلاحم الاجتماعي لا للتشرذم والتشتت وإقصاء ثقافة على حساب أخرى، لأهداف سياسية أو عنصرية، فهذه نواح يجب استبعادها من المعادلة تماماً. ولا اعتقد أن الاهتمام بالتراث المحلي للدول ينطوي على تكريس للتشتت والتفسخ الثقافي، بل على العكس، فقد يكون الالتزام بالمِحَكات والمعايير المذكورة دافعاً قوياً للاستفادة من كل ثقافة في البلد الواحد أو في البلدان العربية مجتمعة كأساس للحوار وتبادل الأفكار، وما كانت اتفاقية التنوع الثقافي لتطلق لولا إدراك العالم لضرورة الاستفادة من ذلك التنوع للإغناء الثقافي وليس للتشرذم والتشتت، فإبراز العناصر الإيجابية في كل ثقافة سيسهم في إبراز الخصوصيات الفكرية التي تجعلنا قادرين على فهم الآخر، وبالتالي التعامل معه على نحو إيجابي وفعال لما فيه مصلحة منتسبي كل الثقافات. توقعات ? ما هو الدور الذي تتوقعونه من الهيئات والمؤسسات الحكومية سعياً نحو صون التراث؟ ? لا بد من التفكير بخطوات جادَّة وعملية في سبيل التماشي مع التطلعات الدولية في حقل صون التراث والحفاظ عليه، خاصة ما يتصل منها بالواقع الوطني، فيجب الاعتراف بأن كثيراً من المؤسسات الحكومية للدول تفتقر إلى الآن لمقومات فهمنا للتراث الثقافي، وهذا هو المتطلب الأساسي والأوَّلي لأية خطوة تالية ترمي إلى صون ذلك التراث. ولا بد من إنشاء فِرَقٍ وطنية نَخُصُّها بالتدريب لإكسابها مهاراتٍ في مجال التوثيق والحصر للمصادر التراثية الثقافية، سواء على المستوى الأكاديمي المتمثل بالجامعات ومراكز البحث، أو على المستوى الحكومي أو غير الحكومي؛ فالتشارك وتبادل الخبرات بين هذه الأطراف مُجتمعة سيأتي بأُكله الطيب حتماً، لأن كلاً منها سيسهم من طرفه في هذه العملية. ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا دور المدرسة واستهداف فئة الشباب بغرض ترسيخ مفاهيم التراث في أذهانهم وحياتهم العملية. أما الدور الأكبر في إشهار هذه المفاهيم فيُلقى على عاتق مؤسساتنا الإعلامية، بتشجيعِها الناس بكافة الوسائل على اتخاذ مواقف إيجابية تجاه تراثنا، وبيان أهميته في تطوير الحوار المتبادل. أما مؤسساتنا المعنية بالتنمية فسيكون لها جُلُّ الأثر في التأكيد على مسألة دور التراث الثقافي في التنمية المستدامة، وقد يضاف إلى ذلك كلِّه، تشجيعَ إنشاء الجمعيات المعنية بالتراث، وإقامة المعارض العينية والورش واللقاءات والمحاضرات العامة حوله. إن مرامَنا في خدمة تراثنا لن يتحقق إلا إذا اتخذ موضوع التراث الثقافي في البلد المعني ومسألة الحفاظ عليه بعداً مؤسساتياً يضمن وضع سياسات ثقافية شاملة ترمي بالتالي إلى إحداث تنمية شاملة، وتكفل تنظيم الجهود والطاقات وتنسيقها، وذلك في جو تسوده روح التعاون والتشارك. ولن يفوتني التنويه إلى أن التراث الثقافي أداة مهمة وفاعلة في تحقيق السلام والتنمية، واتباع الطرق السليمة في إدارته، وابتكار غيرها بشكل يتناسب مع احتياجات الوطن والعالم، سيرتقي حتماً بالنمو الاقتصادي، وينعكس إيجاباً على المجتمع، ويخلق حزمة من الوظائف وأشكال التجارة الجديدة، والصنائع السياحية الوافرة التي ستعود بريعها على الوطن والمواطن، ولكننا لن نصل مرامنا دون المشاركة الواعية والفاعِلَة لأطياف المجتمع ومؤسساته المختلفة. كرم وحسن تنظيم وحسّ مرهف يقول الدكتور هاني هياجنة: تلعب دولة الإمارات العربية المتحدة دوراً محورياً ومهماً في خدمة التراث الثقافي غير المادي، ليس على مستوى الدولة بحد ذاتها، وإنما أيضاً على المستوى العربي والدولي، ولا يختلف اثنان على ذلك، إذ إن الجهود التي تبذلها في هذا المضمار مهمة وتخدم حتماً اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي للبشرية وتسعى إلى تطبيقها على أحسن وجه، وما هذا الاجتماع الذي نحن بصدده إلا مثال واضح على اهتمام دولة الإمارات بهذا النمط من التراث. إن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث تقوم بجهود ومساع جبارة، لا يمكن لأحد أن يغفلها، في خدمة التراث. وأعتقد أنها باستضافتها ملتقى التراث والتعليم، ورعايتها إياه والمشاركين فيه، ضربت مثالاً صارخاً على الكرم العربي الأصيل، وحسن التنظيم، وطيب المعاملة مع كافة المشاركين، وأبانت عن حسٍّ مرهف تجاه قضايا التراث العربي والإسلامي والعالمي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©