الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عندما تصبح سرقة التاريخ قاعدة لصناعة المستقبل

9 يوليو 2009 01:30
يتميز الخطاب الكولونيالي بتشويه، بل وحتى بنفي وشطب تاريخ أولئك الواقعين تحت سيطرته. إن تصوير الشرقيين كمن قدموا من مجتمعات ريفية بائسة ومنقطعة الصلة بالحضارة التكنولوجية، هو في أحسن الأحوال كاريكاتير تبسيطي، وفي أسوئها تشويه مطلق. ففي الفترة التي وقعت فيها «الهجرة الجماعية» لم تكن المدن الكبرى المركزية مثل الاسكندرية وبغداد وطهران والدار البيضاء واسطنبول مدناً متخلفة وخاوية، كما تم الجزم أكثر من مرة في الخطاب الصهيوني الرسمي وفي المؤازرة التي تلقاها من الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية والتاريخية وأيضاً من عالم التخييل الأدبي والتشكيلي والسينمائي. إن الزعم بأن تلك البلدان كانت منقطعة عن الأحداث التاريخية الكونية التي شهدها العالم لهو إشكالي من عدة نواح. فأولاً ليس ثمة مكان أو زمان خارج التاريخ. وثانياً، لأنه كان من نتائج الكولونيالية أن ابتدأت عملية بُنيت أوروبا خلالها على حساب استغلال موارد البلدان المحتلة. وثالثاً، وعلى إثر هذه العملية أضحت كل أصقاع العالم مرتبطة إحداها بالأخرى. ورغم هذا ما تزال المدارس في «إسرائيل» تدرس تاريخ العالم حسب المقاربة المركزية الأوروبية التي تنسب تفوقاً لإنجازات الغرب من خلال شطب حضارات الشرق. وحتى الأولاد الشرقيين والأولاد الفلسطينيين مجبرين على دراسة التاريخ من وجهة النظر الأوروبية التي تتنكر لتواريخهم. بل وأكثر من هذا، فالتغيرات والسيرورات السياسية التي شهدها الشرق الأوسط لا تُعرض إلا من خلال علاقتها بالصهيونية، ومن خلال الحديث عن الازدهار الذي أصاب ما كان قفراً قبل مجيء الصهيونية. كل هذا على خلفية الفرضية التي تدعي أنه لم يكن هناك لا تاريخ فلسطيني ولا يهودي ـ عربي قبل ظهور الفكرة الصهيونية. ليس ثمة متسع مفاهيمي أو وجودي في السردية الصهيونية العليا للفلسطينيين أو للشرقيين، ولكن في الوقت الذي يتمسك فيه الفلسطينيون بسردية قومية مضادة ساطعة فإن السردية الشرقية متصدعة ومتقطعة وترتكز في آن واحد على التاريخ العربي ـ الإسلامي وعلى التاريخ اليهودي الأوروبي. في تفريقها بين الشرق «السيئ» (العربي ـ الإسلامي) وبين الشرق «الجيد» (اليهودي ـ العربي) تكون «إسرائيل» قد أخذت على عاتقها تطهير الشرقيين من شرقيتهم وإنقاذهم من الإثم القديم المتمثل في انتمائهم للشرق. «يستوعب» التاريخ الصهيوني الوصفي يهود آسيا وأفريقيا في داخل الذاكرة الرسمية الأحادية ـ اليهودية أوروبية ـ وفق قوالب صهيونية جاهزة. ففي كتب «حوليات شعب إسرائيل» لا يتعلم التلاميذ الشرقيون شيئاً ذا أهمية عن تاريخهم اليهودي الذي تشكلت هويته خلال أكثر من ألف سنة ضمن الحضارة الإسلامية. ومثلما حصل مع الأولاد السنغاليين والفيتناميين الذين أجبروا أيام الاستعمار الفرنسي أن يدرسوا أن «لأبنائنا الغاليين عيوناً زرقاً وشعراً أشقر» كذلك يذاكر الأولاد الشرقيون في «إسرائيل» الذاكرة التاريخية التي بحسبها: «آباؤنا اليهود عاشوا في بلدات في روسيا وبولونيا». ويُغرس كذلك في هؤلاء الأولاد الاعتزاز بآباء الصهيونية المؤسسين الذين أقاموا مستوطنات طلائعية نائية في قلب الصحراء وقاتلوا الجوار العربي الهمجي. فالتاريخ اليهودي يعتبر، بالمبدأ، تاريخاً أوروبياً، وصَمتُ النصوص التاريخية عن كل ما يخص الشرقيين ليس أكثر من وسيلة ملطفة لإخفاء الوجود المربك «للآخر» الشرقي ولعرضه في ثيابه الجديدة التي تخص الـ«نحن» اليهودي أوروبي. من منظور صهيوني رسمي، للا يظهر يهود البلدان العربية والإسلامية على المسرح العالمي إلا منذ لحظة ظهورهم على خارطة الدولة العبرية. ومثلما يتم النظر الى تاريخ فلسطين الحديث وكأنه لم يبدأ إلا مع تجديد التفويض التوراتي الذي استلمته الصهيونية على البلاد، كذلك يتم في العصر الحديث تصوير التاريخ الشرقي وكأنه لم يبدأ إلا مع مجيء يهود البلاد العربية والإسلامية الى «إسرائيل». الأسماء التي أعطيت لعمليات استقدامهم، مثل «البساط السحري» أو «علي بابا» مستعارة من الخطاب الاستشراقي لـ «ألف ليلة وليلة»، هذا الخطاب الذي أبرز التخلف التكنولوجي للشرقيين الذين بـ «سذاجتهم» اعتقدوا أن الطائرات هي بساط سحري يحملهم الى أرض الميعاد. ويتم كذلك وصف هجرة يهود البلاد العربية المؤلمة بعبارات مقرائية (توراتية) مثل «الخروج من مصر» في محاولة للتأكيد على العبودية في مصر (مصر القديمة تُستخدم هنا كناية عن البلاد العربية في الحاضر) وعلى الموت المبارك «لجيل الصحراء» (الشرقي). لقد أخذت الصهيونية الأوروبية على عاتقها دور الآباء الذين من المفترض، حسب الموروث الشفوي، أن «يقولوا» لأبنائهم ما ليس موجوداً في المدونات وأن يورثوهم الذاكرة الجماعية. لقد فرض علم التتريخ الصهيوني ذاكرة يهو - أوروبية أفضت الى محو ذكريات الآباء الشرقيين والأمهات الشرقيات الذين غدت ذكرياتهم، مهملة، بل وحتى ممنوعة على الأبناء. ففي الوقت الذي نرى فيه الجيل الشرقي الشاب يستطيع تلاوة المعجزة الصهيونية وكارثة الإبادة بطلاقة، نراه يتلعثم في تاريخ طائفته هو. «الثقافة»، بالنسبة الى الخطاب الصهيوني الذي تربى على أحضان مركزية أوروبا، هي إرث حضري للغرب. فهذا الخطاب يصفي ويغربل تاريخ شعوب آسيا وأفريقيا، واليهود من ضمنهم، ويتركهم بلا أي تعبير ثقافي ومسلوبي الحضارة. يرتكز هذا الفهم «للحضارة» و«الثقافة» على فكرة الهرمية وعلى سردية عليا للمدنية والكونية اللتين بدأتا مع حركة التنوير الأوروبية، كما ينبع من فلسفة مثالية ترى في «الثقافة» دلالة على ما أنجزته هذه الحضارة أو تلك من إنتاج إبداعي، مثل الكونسيرت والفنون والعروض المسرحية وما الى ذلك. بيد أن الثقافة بالمفهوم الواسع هي مجمل كل تلك الأنساق التي تشكل مجتمعاً معيناً، مضافاً إليها نمط الحياة والأفكار والمفاهيم التي تحكم الاختيار الشخصي والجماعي، إضافة الى النزاعات الأيديولوجية الظاهرة والخفية. وفق هذه الصياغة فإن النظرة المركز ـ أوروبية التي تضع مجتمعات «ذات ثقافة» في مواجهة مجتمعات تفتقر لها لا تعدو كونها موقفاً نرجسياً. علاوة على ذلك، فحتى لو حاكمنا ثقافة يهود الشرق وفقاً للمقاييس الهرمية فإننا نستطيع بالقطع إن نضعها في داخل تلك الخانة الإشكالية، خانة «إنجازات الحضارة» من فلسفة وأدب وموسيقى وعلم آثار الخ.. ولكن في كل الأحوال فإن الجهاز التعليمي في «إسرائيل» يعزز ويصوغ النظرة الرسمية للشرق كعدم وغياب. وحيث إن ثقافة يهود آسيا وأفريقيا تعتبر لا موجودة، فإنه من «المنطقي» عدم شمولها ضمن البرامج التعليمية. وفي الوقت الذي تحظى فيه الييديش باعتراف مؤسساتي نسبي، بل وتدرس اليوم في الأكاديميا، فإن اللادينو واليهودية العربية واللهجات المختلفة ليهود البلاد الإسلامية تلاقي الإهمال. وقد قالت غولدا مئير ذات مرة إن «أولئك الذين لا يتكلمون الييديش ليسوا يهوداً». لقد تحولت الييديش، على نحو متناقض، وهي التي كانت لغة فقراء أوروبا واللغة التي حاربتها الصهيونية العبرية، لتصبح لغة المضطهِد (بكسر الهاء)، على الأقل بالنسبة الى الشرقيين الذين رأوا فيها الاسم الحركي للامتيازات. وفي الوقت الذي تحظى به كتابات شلوم عليخم وي. د بركوبيتش ومندل موس باهتمام عميق، ووُجهت كتابات أنور شاؤول وموريد ميخال وشلوم درويش بتجاهل مطلق. وفي تلك الحالات النادرة التي يلتفت فيها النقاش الأدبي الى كُتاب شرقيين والى إبداعاتهم يتم التستر على عربيتهم. بل حتى مفكري «العصر الذهبي» في إسبانيا مثل الرامبام ويهودا هليفي وابن جبيرول لا تتم دراستهم إلا في سياق الفقه اليهودي، أما انتماؤهم لثقافة وأدب إسبانيا العربية وعلاقتهم التاريخية والفلسفية بالإسلام فيتم تهميشها، وهو الانتماء والعلاقة التي حتى المستشرق برنارد لويس وصفها بأنها «تكافل يهودي ـ إسلامي». تبرز في الخطاب الصهيوني نزعة تغذية الانطباع بأن ثقافة يهود الشرق كانت قبل مجيء الصهيونية، كما الأرض البور في فلسطين، مهملة وجامدة وستاتية، وتتحرق لنفحة الروح الأوروبية المنعشة التي ستنفخ روح الحياة فيها. وكما أن فلسطين «مغروسة» في علم التاريخ الصهيوني كحجر في عجلة المشروع الصهيوني التمديني، كذلك يُنظر الى البلدان العربية كمدى قفز يتم انتشال اليهود منه من أجل تحقيق الرؤيا السامية. لقد كُتب التاريخ الصهيوني ليهود الشرق عبر تتبع مضي للمذابح وبقفزات مدروسة من مذبحة الى مذبحة حتى وإن كانت مئات السنين تفصل الواحدة عن الأخرى، منتجاً على هذا النحو تواصلاً قصصياً من الاضطهاد والإذلال، بالرغم من أن الكثير من المراجع تقدم صورة مركبة لعلاقة اليهودية والإسلام. المشكلة الرئيسية في التاريخ الصهيوني تكمن في استعارته أوصافاً من سياق محدد وإسقاطها على سياق آخر، ما جعله يروي التاريخ اليهودي في العالم العربي الإسلامي بالمفاهيم التي تتسم بها السردية العليا للتاريخ اليهودي في العالم الأوروبي المسيحي. وتبرز هذه الاستعارة الإشكالية في مخزون المفردات المستعملة، فقد جرى، على سبيل المثال «إسقاط» مصطلحات مثل «مذبحة» (بوجروم) و«غيتو» والناجمة عن التجربة اليهودية في المجتمع المسيحي، وتعكس خصوصية هذه التجربة على التجربة اليهودية في المجتمع المسلم. * فصل من كتاب «ذكريات ممنوعة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©