الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التاريخ والقمر

التاريخ والقمر
22 مايو 2008 02:45
للقمر شطران: منيرٌ ومظلمٌ· وللتاريخ في العديد من المتون التي كتبها مؤرخون استكتبهم حكام زمانهم وجهان: علنيٌّ نيّرٌ، وسرّي محاط بالشرور والدياجير· عديدون هم المؤرّخون الذين اختاروا التقية والتخفّي لحظة كتابتهم لتاريخ الحكام الذين انتدبوهم لتدوين أيام حكمهم وتخليد أمجادهم ومآثرهم· التاريخ في مثل هذه الحال يصبح تاريخين: أحدهما علنيٌّ يكون مداره تدوين ما يرتضيه الحاكم ويعدّه صفحاته المشرقة، وثانيهما سرّي يعمد فيه المؤرّخ إلى عرض مواقفه واستعراض مخازي السلطة· والثابت أن المؤرّخ التونسي أحمد بن أبي الضياف (ت 1874) كان واحداً من هؤلاء المؤرّخين الذين أتقنوا التقيّة· كان ممّن آمنوا بأفكار ابن خلدون حول العمران وجزمه بأن الظلم مؤذن بالخراب· لذلك حين انتدبه باي تونس المشير أحمد باي وزيراً للقلم واتخذه أمين سرّه كتب تاريخ البايات والملوك الذين عاشرهم وجمعه في كتابه ''إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان''· جاء كتاب الاتحاف جامعاً إلى الإشادة الظاهرة بأمجاد البايات الحرصَ على تدوين رذائلهم وجورهم· وبذلك انفتح التاريخ على التاريخ المضادّ· وجاء التاريخ السري ليهزّئ التاريخ العلني ويحيطه بالظلمات والدياجير· ولذلك تتعالق الفصول قائمة على ما يشبه المتن والحاشية· تأتي الحاشية في شكل تعليقات وآراء لتهزّئ المتن وتفضح ما يتكتّم عليه· فيحدّث ابن أبي الضياف عن مآثر أحمد باي وإصلاحاته، وتأسيسه للمدرسة الحربية، وتطويره للتعليم، وتعزيزه بالعلوم والمعارف الحديثة· لكن هذا الفصل يُخترق بالكلام عن جوره واستهانته بالكرامة البشرية وإثقاله كاهل الرعية بالضرائب المجحفة، وإرساله عساكره إلى القرى والمدن لجمع الضرائب بالقهر والغلبة· يعلّق المؤرّخ على هذه الفعال قائلاً: ''هذا وأجساد الخلق منساقة منقادة انقياد بهائم الأنعام ولو أدّى ذلك إلى مضرّتهم وابتزاز نعمتهم خوفاً من عساكره الذين جعلهم آلة لتغلّبه لا تقهر''· لا يستخدم ابن أبي الضياف عبارة الرعية بل يسمي الشعب ''عبيد الجباية''، ويلحّ على أن الظلم حوّلهم إلى هوامٍ· فعاف الفلاحون أراضيهم وصار الواحد منهم إذا ''لقي محراثه في الحقل ركله قائلاً: يا سبب بلائي ورزيتي''· ويتوسّع في ذكر حال الناس الذين أمسوا ''وليس لهم من مسقط رؤوسهم وبلادهم ومنبت آبائهم وأجدادهم إلاّ إعطاء الدرهم والدينار على مذلّة وصغار والربط على الخسف ربط الحمار حتى زهدوا في حبّ الوطن والدار وانسلخوا من أخلاق الأحرار''· كثيراً ما يطفح التاريخ السري بنبرة نوحٍ وندبٍ على الناس لاسيما حين يتفنّن المؤرّخ في ذكر المحن والرزايا التي ابتُلي بها أهل تونس فتصبح الكتابة كما لو أنها نشيدٌ أسود يرفع نصرة للمظلومين· لكأن المؤرّخ الذي أرغم على تدوين مآثر حكّامٍ ظَلَمَةٍ يتوسّع في ذكر آلام بني قومه ليتطهّر منها فيما هو يُشهِد عليها ويؤثّث بها ذاكرة المستقبل· أو لكأن المؤرّخ يُشْهِد الدنيا على فظاعة ما حدث حتى لا يحدث ثانية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©