الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصيدة بصرية عن عطش الأرض والجسد

قصيدة بصرية عن عطش الأرض والجسد
22 مايو 2008 02:44
يمكن القول إن الاحتفاء بفيلم ''بنت مريم'' يأتي في سياق التميز العام للأفلام الإماراتية القصيرة في المهرجان، والتميز بحد ذاته لم يكن ليحصل لولا التراكم الكمي والنوعي والزمني الذي رافق إنتاج هذه الأفلام منذ ولادة حدث سينمائي مهم في المكان، وهو مسابقة أفلام من الإمارات في المجمع الثقافي بأبوظبي والتي انطلقت شرارتها قبل حوالي ست سنوات من الآن· ومقارنة بالأفلام الخليجية التي نافست على جوائز مهرجان الخليج، جاءت الأفلام الإماراتية الأخرى مثل ''تنباك'' (المركز الأول في مسابقة الفيلم الروائي القصير)، و''بنت النوخذة''، و''دعاء''، و''جنة مريم''، كي تؤكد على الفوارق الفنية والموضوعية التي جاءت على العموم لصالحها، فالفيلم الإماراتي يمتلك مقومات باتت ناضجة نوعا ما على صعيدي الإخراج والكتابة السينمائية، مع عدم إهمال التميز التقني في التصوير والإضاءة والصوت وانتقاء المناظر، بالإضافة للمكونات الأخرى المعززة لمفهوم العرض السينمائي· وفيلم ''بنت مريم'' الذي نحن بصدد تناوله في هذه القراءة هو نموذج ناصع للإشارة إلى هذه الفوارق الفنية والموضوعية التي تحدد في النهاية علو كعب الفيلم الإماراتي خليجيا· يبدأ فيلم ''بنت مريم'' على صوت لقطرات مياه وهمهمات لفتاة على خلفية سوداء، ونستمع لقصيدة تطلقها الفتاة في الفضاء المعتم للشاشة· تقول كلمات القصيدة وبالدارج المحلي: ''بثوب العطش جدا أرضك قاصد/ شال الحزن بإيدك طفل خايف/ زاد العوق ودعواي بين النصايف/ نبا غيمة فيها المطر واقف''· وهو مدخل موفق لخلق عتبة أولى للعرض تعتمد على الإيحاء المبطن واستدراج المشاهد إلى منطقة تقع بين الإيضاح والتورية، وبين الكشف والإخفاء، وذلك لخلق ذاكرات وعلاقات ذهنية تجمع المتخيل السردي بالواقع الملامس للحياة· بعد هذا التمهيد المؤسس لفحوى الفيلم، ينزاح السواد عن الشاشة، ونستمع إلى صوت الرعد المتوازي مع صورة لإناء تسقط فيه القطرات الأولى من دموع السماء الطاهرة، ثم ها هي فتاة جميلة في سن المراهقة تحيطها جبال قاحلة، تتواصل بنعومة حسية مع نبتة جافة تقع في خلفية الكادر، يرافق المشهد مونولوج داخلي للفتاة تشير من خلاله إلى غربتها ورحلتها البعيدة عن أرض الطفولة، وأن هذه الأرض بالذات سوف تنبت فيها فتيات يشبهنها، كي يعدن حكايتها ويعشن نفس المصير الذي عاشته وتمزقت براءتها من أجله· وفق المخرج هنا بالتوازي مع النص الذي كتبه الشاعر محمد حسن أحمد، في الجمع بين الفتاة والنبتة داخل الكادر وكأن الرابط القوي الذي يجمع بينهما هو رابط معذب يشترك فيه حس العطش والرغبة في الارتواء، وهذا الربط بين كائنين مختلفين عضويا ويتحدثان بلسان واحد لا يمكن له أن يحدث سوى في حقل بصري جامح واستثنائي، كما لا يمكن خلق وشائج بين النبات والإنسان إلا من خلال ديناميكية الصورة والتي توفرها السينما لمن يستطيع الالتفات لإمكاناتها التعبيرية الهائلة· الزمن الفردوسي المشهد التالي للفيلم سيكون على وعد آخر مع الأصوات واللقطات المتناوبة بين الرعب والشفافية، وبين جرح الداخل وجماليات الخارج، وسوف يقحمنا الفيلم مع هذا المشهد بالذات، وطوال الزمن المتبقي منه في مناخ روحي مليء بالطقوس والشعائر الخارجة من بيئة المكان والمتقاطعة مع البيئات والثقافات الإنسانية الأخرى· فمع صوت الغربان المحاط بثيمات الشؤم نرى الفتاة المراهقة ـ التي هي بنت مريم، وتقوم بدورها وبتميز ملحوظ الفنانة نيفين ماضي ـ وهي تراقب طقوس غسل الميت الذي هو زوجها، حيث نكتشف في سياق الفيلم أنها أجبرت على الزواج من رجل مسن دخل عليها وهي لم تبلغ بعد سن النضوج، ولم تخرج منها قطرة واحدة في ليلة الزفاف، في إشارة واضحة إلى مأساة الفتيات الصغيرات في المجتمعات المغلقة على عادات وقيم طاغية ومدمرة· بعد موت زوجها وتحولها من زمن فردوسي وطفولي إلى زمن جحيمي وقاحل، تجبر بنت مريم لترك (فريجها) التي أطلقت فيه صهيل محبتها الأولى ولم يسكنه بعد موت والدتها سوى الفراغ والوحشة وأقارب أخذتهم المنية إلى منتهاها، تذهب بنت مريم إلى (فريج) آخر تجهله ويسكنه آخر أقاربها وهو معتوق الأعمى، في هذا المكان الجديد تلاحق مريم لعنات متجددة، تتمثل في العماء والجنون والجفاف المعشش في الأرض والأجساد· قصائد للمطر تصادف بنت مريم طفلا في (الفريج) الجديد وتراه يحمل معه وطوال الوقت نبتة ليمون يابسة، كما تصادف امرأة مختلة ومسجونة وسط غرفة متهالكة، تحلم بنت مريم بإطلاق صهيلها الداخلي والعودة لزمن الطفولة والبراءة الذي فقدته مبكرا، ولكنها تصطدم في كل مرة بأسوار عالية من الخوف والمصادرة والإقصاء، تلجأ الفتاة لقصائدها وأشعارها الافتراضية كي تنفس عن الأمل القليل الباقي في وعاء الروح والجسد، تنتظر الفتاة المطر كرمز شاسع للخلاص، ويتماوج الماء بحضوره الوهمي والحلمي والكابوسي في كل مشاهد الفيلم تقريبا، وعندما يبدأ الهدير العالي بالنزول إلى الأرض العطشى، يتحول المكان إلى كرنفال للفرح والشفاء؟ وإلى إيقاظ ناعم للبراءات المنسية في كهف العمر· في المشهد الختامي للفيلم يطل ذات المشهد الذي رأيناه في البداية التمهيدية للعرض، وتعيد البنت نفس الكلمات المنذرة بمصائر الفتيات اللاتي يشبهنها، ولكن النبتة الجافة باتت خضراء هذه المرة، وكأن المخرج أراد أن يبث بشارات ولو كانت ضئيلة على أرض مسكونة بالخرائب·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©