الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الآخر محبوباً.. ومبغوضاً

الآخر محبوباً.. ومبغوضاً
4 مارس 2015 21:20
في مقال طريف وعميق نشرته صحيفة «أمريكان إنترست»، قام الكتاب الأميركي يوكوب غريغيل بعقد مقارنة بين كتابين يحظيان بشهرة عالميّة واسعة، أعني بذلك كتاب «الأمير» لميكافيللي، و«الأمير الصغير» لسانت أوكزبيري. وقد تركزّت المقارنة على عنصرين أساسيين متمثلين في رفض الآخر عند الأول، وحبّ الآخر عند الثاني. لكن قبل الفصل في هذين العنصرين، يجدر بنا أن نشير إلى أن الكاتبين عاشا في فترتين متباعدتين ومختلفتين. عاش ميكافيللي بين القرن الخامس عشر والسادس عشر. وهي فترة تميّزت بتقلبات وبعواصف سياسية خطيرة على جميع المستويات تخللتها معارك وحروب طويلة. وكانت بدايتها الغزو الفرنسي لإيطاليا والذي تسبب في هروب عائلة «الميديسيس» الحاكمة من فلورنسا. عندئذ تأسس نظام جمهوري يعتمد على مجلس للمستشارين. وقد اختير ميكافيللي كاتبا خاصا للمجلس المذكور ليكون قريبا من مراكز القرارات الكبرى، وليعيش تجارب مهمة كشفت له عن خفايا الحكم وأسراره وتشعباته. وعند عودة عائلة «الميديسيس» إلى السلطة عام 1512، وجد ميكافيللي نفسه مجبرا على مغادرة فلورنسا ليعيش منفى داخليا على بعد عشرين كيلومترا منها. وفي عزلته انكبّ على تأليف كتاب «الأمير» الذي سيصبح الكتاب المفضل لكبار الشخصيات السياسية في جميع أنحاء العالم، ملوكا وأمراء ورؤساء، وزعماء ثورات، ومستشارين ودبلوماسيين، وخبراء في الجوسسة والاستخبارات. أما سانت أوكزبيري فقد عاش في النصف الأول من القرن العشرين، وكان روائيا وطيارا حربيا ماهرا وشجاعا. وخلال الحرب العالمية الثانية سقطت طائرته في الصحراء فاستوحى من التجربة المريرة التي عاشها آنذاك موضوع كتابه «الأمير الصغير» الذي ألفه للصغار غير أن الكبار وجدوا فيه ما يعجبهم ويروق لهم ويعلمهم كيف يواجهون مصاعب الحياة. وبعد مرور سنة واحدة على صدور الكتاب، اختفت طائرة سانت أوكزبيري فوق البحر الأبيض المتوسط، وظلّ موته لغزا إلى حد هذه الساعة. ويقول يوكوب غريغيل أن ميكافيللي كان قد أتقن خلال فترة توليه منصب الكاتب الخاص لمجلس المستشارين مراقبة سلوك الضعفاء والأقوياء في السلطة سواء كانوا من الرجال أو من النساء. كما تدرب جيدا على فن المؤامرات والألاعيب السياسية التي تدبر في الخفاء. في الآن نفسه اختبر ردود فعل الجماهير على القرارات التي تتخذ بشأنها في جميع المجالات. لذلك أراد من خلال كتاب «الأمير» أن يبلور رؤيته الفلسفية المستخلصة من تجاربه للنظام السياسي ولدواليبه ومرتكزاته. وربما أراد سانت أوكزبيري أن يكون كتاب «الأمير الصغير» مرشدا للناس صغارا كانوا أم كبارا في أوقات المحن، والأزمات الكبيرة، والضياع الشبيه بضياعه هو في الصحراء بعد سقوط طائرته. فروق هناك فروق بين الكتابين. ففي «الأمير»، جعل ميكافيللي الخوف من الآخر عنصرا أساسيا في نظام الحكم. لذا على هذا الأخير أن يعرف كيف يتعامل مع هذا الخوف، وكيف يستخدمه للمحافظة على بقائه، وعلى إبطال مفعوله في الوقت المناسب. أما سانت أوكزبيري فقد اعتبر أن حبّ الآخر كفيل بأن يجنبنا التصدع والشقاق داخل الأسرة، أو داخل المجتمع. وفي حين كان ميكافيللي يعمل دائما على إبعاد الآخر، وصده، والحذر منه، كان سانت أوكزبيري يسعى جاهدا للاقتراب من الآخر واحتضانه، واختياره رفيقا في دروب الحياة الوعرة والمتعرجة. والأمير في كتاب ميكافيللي يتمسّك بالخوف من الآخر كعنصر أساسيّ في نظام الحكم من دون التفكير في العواقب التي يمكن أن تنجم عن ذلك. وهو يسعى دائما إلى المحافظة على وجاهته، وعلى نظام حكمه وهو غافل تماما عن قوانين التاريخ التي تؤكد على أنه لا شيء يبقى، ولا شيء يدوم، وأنه «لو دامت لغيرك لما آلت إليك». مقابل هذا، يرى «الأمير الصغير» أن حبّ الآخر يجعل المجتمع متماسكا وقويا، مجنبا اياه كل ما يمكن أن يعجل بسقوط وانهيار حلم «المدينة الفاضلة» التي يطمح اليها. وعند «أمير» ميكافيللي، نحن نعاين أن الصراع من أجل السلطة، والتنافس المرير بهدف الاحتفاظ بامتيازاتها يجعل الحكام ينظرون إلى الآخرين، وحتى إلى أقرب الناس إليهم وكأنهم أعداء شرسون يتحينون الفرصة للانقضاض عليهم، وقتلهم أو تشريدهم، أو التمثيل بهم أمام الجموع. لذلك هم يمضون الوقت في التخطيط للإيقاع بكل من يعتقدون أنه يمثل خطرا عليهم وعلى نظام حكمهم. من هنا الحروب الظاهرة والخفية، بين المجموعات والأفراد، والمؤامرات التي تحاك في الخفاء للإطاحة بهذا أو بذاك. لذلك يمكن القول بأن «الآخرين هم الجحيم» كما هو الحال في مسرحية سارتر الشهيرة التي كتبها في نفس السنة التي اختفت فيها طائرة سانت أوكزبيري فوق البحر الأبيض المتوسط، أي 1943. حصانة الرعب بالنسبة لأمير ميكافيللي لا حصانة لأي مجتمع إلاّ في ظلّ نظام يخيفه، ويرعبه، ويشيع الريبة والشكوك بين أفراده. فلا أحد يطمئن إلى أحد. لكأنه يريد أن يقنعنا بأننا لا يمكن أن نكون مواطنين صالحين إلاّ بتقبل فكرة الخوف كعنصر ضروري في نظام الحكم الذي نعيش في ظله. لذلك لابدّ من رفض الآخر لأنه مصدر للخطر. وقد كتب ميكافيللي يقول: «الناس يحبون بحسب أهوائهم، ويخافون بحسب أهواء الأمير. وهذا الأخير عليه أن يعتمد على من يخضعون له، وليس على ما يخضعون للآخرين». أما سانت أوكزبيري فيقدم لنا رؤية مغايرة تماما لرؤية ميكافيللي. إنّ روح «الأمير الصغير» مفعمة بالحنان والمحبة. لذلك يسعى دائما إلى كسب ودّ الآخرين وصداقتهم. ومن أعلى جبل يصرخ: «كونوا أصدقائي... أنا وحيد». بعدها يقترب من ثعلب ويطلب منه أن يلعب معه لأنه «وحيد وحزين». كما أنه يمجد مال الزهرة، وكل الأشياء التي تبرز أمامه لأنه لا يمكن له أن يعيش وحيدا وحزينا في غياب الحب. فالذي لا يحب لا يمكن أن يكون إنسانا. والذي لم يستشم زهرة، ولم ينظر بإعجاب إلى نجمة تتلألأ في السماء، ولم يحب إنسانا آخر، ولم يفعل أي شيء من أجل إسعاد الآخرين، والذي يكتفي بأن يردد طوال اليوم بأنه إنسان جدي، هو في الحقيقة ليس إنسانا وإنما مجرد فطر». مثل هذه العواطف الإنسانية النبيلة مفقودة تماما عند أمير ميكافيللي الذي يستعمل كل الطرق لإقصاء الآخرين وإبعادهم. لهذا يرى يوكوب غريغيا أن نظريات ميكافيللي السياسية تفقد الشعوب إنسانيتها وتحولها إلى أشياء خاضعة للاختبار. وهي تجبرنا على أن نحكم على الآخرين من خلال النظر إليهم بالعين المجردة، وليس من خلال تحسس ما يكمن في أعماقهم. وهذا ما يعارض مع رؤية سانت أوكزبيري الذي يرى أن اللامرئي هو الجوهري والأساسي لدى الإنسان. ومقارنا بين الكتابين، كتب يوكوب غريغيل يقول: «كتاب ميكافيللي يقدم لنا من دون شكّ معرفة تقنيّة للآلة السياسية، غير أن الأمير الصغير يدرّسنا علم العلاقلات الإنسانية. ومقترحا رؤية مغايرة أو بالأحرى سابقة للحداثة، للرغبة في المدنية، يلفت سانت أوكزبيري انتباهنا إلى عالم من السلوك البشريّ والسياسي مجهول من قبل الفكر الحديث، العاجز عن تفسير ظاهرة التعلق بالعائلة، وبالأصدقاء، وبالوطن».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©