الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكراهية تقتل.. المحبّة تحيي

الكراهية تقتل.. المحبّة تحيي
4 مارس 2015 21:15
بادئ ذي بدء ينبغي القول بأن داعش حشرتنا في الزاوية وأحرجتنا أمام العالم كله. فأفعالها دمرتنا وشوهت سمعتنا لعشرات السنين القادمة. ولن نستطيع أن نرفع رأسنا في أي محفل عالمي بعد اليوم ما لم ننقذ قرآننا وتراثنا من براثنها. وعندما أقول العالم فلا أقصد الغرب فقط وإنما الشرق الأقصى وأممه الكبرى من يابانيين وصينيين وهنود الخ.. كلهم أصبحوا خائفين من داعش أو مشمئزين أو مرعوبين. كلهم يطرحون عليك نفس السؤال: يا أخي هل حقا أن دينكم يدعو إلى ذلك؟ هل حقا أنه يقبل بقطع الرؤوس بمثل هذه السهولة؟ هل حقا أنه قائم على الكراهية والعنف؟ بعد أن ذبح الداعشيون صحفيين يابانيين أصبح الشعب الياباني أو نخبه المثقفة تطرح مثل هذه الأسئلة. ولذا فان العالم كله شرقا وغربا أصبح يطالبنا بدفع فاتورة داعش. وهي باهظة التكاليف! لنتفق على الأمور منذ البداية: ثقافة التسامح والمحبة لن تنتصر على ثقافة التعصب والكراهية إن لم يحصل إصلاح ديني أو تنوير فلسفي في العالم العربي أو الاثنان معا. هذا تحصيل حاصل. داعش نتيجة ثقافة دينية ما أو بالأحرى لا ثقافة. إنها نتيجة تأويل خاطئ وإرهابي لنصوصنا المقدسة الكبرى. وهو تأويل حرفي مبتسر، أو جامد متحجر، أو سطحي جاهل. لولا ذلك لما امتلكت كل هذه الجرأة على القتل والذبح. داعش ظهرها محمي ومدعوم من قبل جيش من مشائخ العصور الوسطى والظلام الذين يفتون لها. إنها مدعومة من قبل فتاوى تكفيرية إرهابية تخلع المشروعية الإلهية على كل ما تفعله. صحيح أنها تلوي عنق النصوص بشكل اعتباطي تعسفي وتقوّلها ما لا تريد قوله. صحيح أنها تنزعها من سياقها التاريخي كما فعلت مع نصوص ابن تيمية ذاته الذي كان على غلوه وتشدده أكثر دقة وحيطة من مشائخ السلفية الحالية. وكان أكثر علماً وفهماً بما لا يقاس. عندما كان العرب.. على أي حال تبقى المشكلة قائمة. ويبقى السؤال المركزي هو ذاته: هل ما تفعله داعش هو الإسلام؟ إذا كان الأمر كذلك فعلى الدنيا السلام. هذا يعني أنه لا حل ولا خلاص حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ولكننا نعلم أنه لا ينبغي الخلط بين الإسلام/ وتفسير الجهلة للإسلام. فهما شيئان مختلفان على عكس ما يتوهم معظم البشر. ثم إن الدين حمال أوجه ولا يمكن حصره بتفسير واحد وبخاصة إذا كان ظلاميا تعصبيا دمويا كالتفسير الداعشي. أحيانا أسمعهم يسألون: هل الإسلام هو المشكلة؟ وأنا أقول: لا، ليس الإسلام هو المشكلة وانما التفسير الخاطئ والجاهل له هو المشكلة. فالإسلام دين كبير، بل ودين عالمي يخترق القارات والبلدان. وربما هو الآن أكبر دين في العالم من حيث العدد. وبالتالي فمن الظلم الفادح أن نعتبر داعش بمثابة الممثل الوحيد له. الإسلام دين صنع الحضارات وقدم للبشرية إنجازات لا تقدر بثمن في كافة المجالات العلمية والفلسفية والإنسانية. الإسلام كان سبب نهضة أوروبا: أقصد فلاسفة الإسلام وعلماء الإسلام في الفيزياء والكيمياء والطب والجبر والبصريات والفلك الخ.. والباحث الفرنسي الشهير آلان دوليبيرا اعترف بأن ابن رشد هو (الأب الروحي لأوروبا). والباحث المذكور ليس نكرة. انه يحتل كرسي الفلسفة في (الكوليج دو فرانس) التي هي أعلى من السوربون. علاوة على ذلك فهناك قيم روحية وأخلاقية عليا في الإسلام ولكن من يركز عليها؟ لا أحد يهتم بها أو لا أحد يراها بعد أن غطت الصفحة السوداء على الصفحة البيضاء من تراثنا. الجميع أصبحوا يعتقدون بأن الإسلام هو هكذا: جزّ الرقاب. نقطة على السطر. ولذا ينبغي أن ننخرط في المهمة التالية: تبيان الفرق بين الإسلام الحضاري/ والإسلام الظلامي. أول عمل ينبغي القيام به لمواجهة داعش هو تسليط الأضواء على الوجه الآخر، الوجه المشرق للإسلام. ولكن المشكلة هي أن هذا الوجه المشرق محجوب عنا أو عن أنظارنا منذ زمن طويل ولا وجود له تقريبا في برامج التعليم. أين هو إسلام المعتزلة، أو إسلام الفلاسفة، أو إسلام المتصوفة، أو إسلام كبار الأدباء والشعراء والمفكرين؟ من يتجرأ على الاستشهاد بابن سينا أو ابن رشد أو الفارابي في كليات الشريعة أو المعاهد الدينية التقليدية؟ من يدرس مادة الفلسفة القديمة والمعاصرة في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية؟ ما يدرسونه للأطفال الصغار شيء مرعب. انهم يدجنونهم تدجينا بالخرافات ويحشون رؤوسهم الطرية بكره الآخر وتكفيره ولعنه. انهم يقدمون لهم صورة مبتسرة، مشوهة عن الإسلام ويقولون لهم: هذا هو الإسلام. انظروا المدارس الطالبانية. وهي تربية دينية لا مكانة للعقل فيها. نقول ذلك على الرغم من أن القرآن الكريم يدعو الى استخدام العقل مرارا وتكرارا. (أفلا تعقلون؟ أفلا تتفكرون؟ صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يفقهون)..الخ، الخ.. ابن تيمية ليس كل الإسلام! ينبغي العلم بأن العصور الانحطاطية والسكولائية الطويلة تشكل حجاباً حاجزاً يفصل بيننا وبين إسلام العصر الذهبي الذي نسيناه كليا تقريبا. وهي عصور ممتدة منذ موت ابن رشد عام 1198 وحتى اليوم. منذ القرن الثالث عشر وحتى القرن الحادي والعشرين لا تزال عصور الانحطاط مستمرة، متواصلة، وبخاصة في البيئات الشعبية الأمية الفقيرة وما أكثرها. والا فمن أين جاءت جماهير داعش والقاعدة؟ ولذا فاني أقترح تدريس مفهوم ابن سينا أو الفارابي للإسلام مقابل مفهوم الغزالي أو ابن تيمية. ابن تيمية ليس كل الإسلام! انه جزء صغير منه. ولكنه يهيمن على برامج التعليم بشكل مطلق تقريبا وبخاصة في البيئات الحنبلية المحافظة التي فرّخت داعش. نحن لا نحذفهم على الرغم من أنه يحق لنا ذلك بعد كل ما فعلوه. ولكنهم هم الذين يحذفوننا كليا ويخرجون أجيالاً طالبانية جاهلة مستعدة للانفجار كالقنابل الموقوتة. هم الذين يدرسون أفكار سيد قطب ومحمد قطب وعشرات المتشددين الآخرين. فليسمحوا لنا بأن نخصص زاوية - ولو صغيرة، ولو محدودة- لنظريات عبد المجيد الشرفي ومحمد الحداد ومحمد أركون وعشرات الحداثيين المسلمين عن الإسلام. عندئذ يتبين الفرق واضحا جليا بين إسلام محمد أركون/ وإسلام حسن البنا أو يوسف القرضاوي. عندئذ يستبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. ينبغي أن نضع تفسيرهم التقليدي المكرور للقرآن الكريم مقابل تفسيره التجديدي واضاءاته غير المسبوقة لكي يدرك القارئ معنى التنوير الإسلامي بالضبط. انظروا كتابه: قراءات في القرآن. لا مجال للمقارنة بين إضاءاته العميقة وتلك الظلاميات. ينبغي نشر التأويل الحديث للتراث الإسلامي على أوسع نطاق لكي يدرك الجميع عظمة التراث العربي ثم لكي نحقق المصالحة بين الإسلام والحداثة. وأقترح بهذا الصدد شرح نظريات الكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد والتوحيدي والمعري عن الإسلام ونشرها في كتيبات صغيرة مبسطة مفهومة وتعميمها على كل طلابنا وجمهورنا. كما أقترح تبسيط نظريات جون لوك وسبينوزا ولايبنتز وفولتير وكانط وروسو وديدرو والموسوعيين عن الدين أيضا وتعميمها على كل المدارس والجامعات العربية. المعركة فكرية قبل كل شيء أيها السادة. وقد آن الأوان لكي ننتزع هذا التراث العظيم من أيدي الجهلة المشعوذين والمتطرفين. معركة التنوير العربي ابتدأت بفضل داعش ولن تنتهي عما قريب! الإسلام والنزعة الإنسانية ينبغي أيضا التركيز على البعد الإنساني في تراثنا الإسلام الإسلامي العظيم. فهو موجود وبقوة ولكنه مغطى ومحجوب، أو مهمل ومنسي. يقول الحديث النبوي الشريف: (دخلت النار امرأة في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض). فإذا كان الإسلام يرفق حتى بالحيوان فما بالك بالإنسان! أين هي داعش من كل ذلك؟ هناك آلاف الآيات والأحاديث والأقوال المأثورة التي تمشي في ذات الاتجاه وتبرهن على مدى إنسانية التراث العربي الإسلامي ورحمته بالعالمين. فلماذا لا نركز عليها؟ لماذا لا نعرّف تلامذتنا بها؟ لماذا لا نربيهم عليها؟ وعندئذ يدركون مدى أهمية الصفحة البيضاء المشرقة للإسلام. كيف يمكن أن تنتصر ثقافة الانفتاح على ثقافة الانغلاق، أو ثقافة المحبة/ على ثقافة الكراهية اذا ما بقينا محصورين بفتاوى المتشددين المزمجرين الذين يكفرون علنا ثلاثة أرباع البشرية؟ خرافاتهم وأفكارهم تملأ ليس فقط برامج التعليم وانما الأجواء والهواء. أما التفسير التنويري للإسلام فلا وجود له تقريبا. إنه غائب أو مغيب عن الساحة. وإذا ما وجد فان جماهير العامة لا تفهمه بسبب الأمية والفقر والجهل. كل ما تفهمه هو خطب الجمعة ومواعظ شيوخ التطرف. وهؤلاء لا ينفكون يلعنون ويشتمون ويكفّرون على مدار الساعة. إذن فهناك مشكلة في الثقافة العربية بل ومشكلة عويصة لن تحل بين عشية وضحاها. من السهل أن نقول نحن مع ثقافة المحبة والتسامح وضد التعصب والكراهية. ولكن الكلام شيء والفعل شيء آخر.. ينبغي أن نواجه المسألة بصراحة وجها لوجه بدلا من المراوغة والمكابرة وإنكار الحقيقة. داعش لم تنشأ من فراغ. وانما هي نتيجة ثقافة دينية معينة وبرامج تعليم راسخة وبيئة حاضنة. والمختصون يعرفون ذلك. وبالتالي فلمواجهة ثقافة الكراهية وتكفير الآخر ينبغي أن ننشر ثقافة المحبة واحترام الآخر. كيف؟ عن طريق التعريف بالصفحات البيضاء من تراثنا. عن طريق التأويل الجديد لقرآننا. ثم عن طريق إنشاء فضائيات علمية وفلسفية مقابل الفضائيات الظلامية الحالية التي تبث سمومها على مدار الساعة. انها تنشر الطائفية على أوسع نطاق. بل وتصب الزيت على النار وتحرض الناس على ذبح بعضهم البعض على الهوية. لا داعي لذكر الأسماء فهي معروفة. مقابل هذه الفضائيات التي أغلق بعضها مؤخرا لحسن الحظ ينبغي أن ننشئ فضائيات تنويرية تقدم صورة أخرى عن تراثنا الإسلامي الكبير. فضائية مقابل فضائية، تفسير مقابل تفسير، فكرة مقابل فكرة، والمعركة مفتوحة! لقد دخلنا معركة (صراع التفاسير) كما يقول الفيلسوف بول ريكور. لا أعرف لماذا نتركهم يحتكرون الإسلام. القصف بالطائرات لن يحل المشكلة جذريا وإنما القصف بالأفكار! تفكيك الانغلاقات الداعشية هذه أصعب المراحل بإطلاق وأشدها عسرا على الروح والنفس. أنا أطرح السؤال التالي: ما الذي سيحصل في السنوات القادمة؟ أقصد في العشرين أو الثلاثين أو الأربعين سنة القادمة؟ سوف تحصل انهيارات، زلازل فكرية، براكين. كل ما تربينا عليه سوف يتفكك وينهار. سوف نقترب من منطقة اليقينيات المقدسة المعصومة الراسخة رسوخ الجبال.. كان نيتشه يقول عبارته البليغة: (ليس الشك، وإنما اليقين، هو الذي يقتل). لو كان الداعشيون يشكون لحظة واحدة في صحة تفسيرهم للقرآن والإسلام لما فعلوا ما فعلوه. بل لو كانوا يفهمون ابن تيمية على حقيقته لما ارتكبوا كل هذه الفظائع بمثل هذه السهولة والتسرع. لو كانوا يفهمون الإسلام جيدا لترددوا ألف مرة قبل أن يضعوا السكين تحت أعناق الأقباط المغدورين في ليبيا. وهي جريمة وحشية لم تحصل حتى في أحلك لحظات التاريخ الإسلامي. يضاف إليها الآن اختطاف أكثر من مئتي شخص من إخواننا الآشوريين المسيحيين شرق سوريا. فلأهل الكتاب حرمة وكرامة بنص القرآن الكريم وأرواحهم لا تستباح هكذا بشكل عشوائي. هكذا تلاحظون أني لا أستخدم فولتير ولا مونتسكيو ولا روسو ولا كانط ولا كل فلاسفة التنوير لمحاربة الداعشيين وانما أستخدم تراثي نفسه أو قل بأني لا أستخدمهم إلا بعد أن أكون قد استنفدت تراثي ذاته لأن تنويرنا توقف عندما ابتدأ تنويرهم كما ألمحت الى ذلك آنفا. قد يقول قائل: وماذا ستفعل بآيات التكفير والقتال؟ وأجيب بأنه لا ينبغي أن نضع جميع آيات القرآن الكريم على الصعيد نفسه. فهناك آيات كونية صالحة لكل زمان ومكان. وهناك آيات مشروطة بتاريخيتها وحيثياتها الصراعية آنذاك. وبالتالي فتنبغي موضعتها ضمن سياقها التاريخي وعدم تعميمها على كل العصور والأزمنة كما يفعل جهلة داعش والقاعدة والطالبان وغلاة الاخوان الخ.. هكذا تلاحظون أننا مدعوون لاعادة تفسير تراثنا كله ضمن الاتجاه الصحيح المتصالح مع الحداثة والعصر وضمان حقوق الإنسان وكرامته وحرية ضميره ومعتقده. اننا مضطرون للنضال ضد ألف سنة من الجهل والانحطاط. داعش في مرآة هيجل: ضرورة تاريخية! ولكن بعد كل ما حصل فانه لم يعد ممكنا تأجيل هذه المعركة الكبرى. من هنا أهمية داعش، من هنا فائدة داعش. أقول ذلك وأنا أزن كلماتي جيدا. نعم ان داعش مفيدة اذا ما تذكرنا الآية الكريمة: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم). وهذا ما يقوله أيضا المثل الشائع بطريقة أخرى: (رب ضارة نافعة). وهذا ما تقوله لنا فلسفة التاريخ الهيجلية. والا فما معنى ذلك المصطلح الشهير: مكر العقل في التاريخ؟ معناه أن العقل الكوني يستخدم داعش لتحريرنا من داعش! نقطة على السطر. لولا فظاعات داعش لما تجرأنا لحظة واحدة على مراجعة انغلاقاتنا التراثية وفتاوانا التكفيرية. لولا فظاعاتها غير المسبوقة لظل الفهم الظلامي الخاطئ للإسلام مهيمنا علينا الى أبد الآبدين. لولاها لما تجرأنا على مساءلته أو غربلته ونقده. هكذا نلاحظ أن العقل يستخدم السالب لصالح الموجب، والشر لصالح الخير. وبضدها تتبين الأشياء. نعم إن للشر، ضمن المنظور الهيجلي، وظيفة ايجابية لا تقدر بثمن. فلولاه لما استطعنا التوصل الى (خير أكبر) لاحقا. لولاه لما عرفنا معنى الخير وقيمته وثمنه. لولا التأخر لما عرفنا معنى التقدم. ولولا الجهل لما عرفنا قيمة العلم. ولولا الخطأ لما عرفنا معنى الصح.. هل تعتقدون أن فلاسفة أوروبا كانوا سيتجرأون على نقد الانغلاقات التكفيرية المسيحية لولا فظائع محاكم التفتيش والحروب المذهبية والمجازر الطائفية التي اجتاحتهم ومزقت شعوبهم؟ هل تعتقدون أن فلاسفة التنوير الأوروبي كانوا سيتجرأون على مواجهة رجال الدين الأصوليين والبابوات لولا كل ما ارتكبه هؤلاء باسم المسيحية من جرائم ومجازر؟ كنا نتأمل أن تتعظ شعوبنا العربية والإسلامية بتجربة الأمم المتقدمة وتمتنع عن ذبح بعضها البعض على الهوية ونوفر على أنفسنا قصة داعش والقاعدة الخ.. ولكن يبدو أن الإنسان (لا يتعلم الا من كيسه) كما يقول المثل الشعبي. ينبغي أن يصل حد السكين الى رقبته لكي يتحرك ويستيقظ ويعترف بأن هناك مشكلة تراثية ضخمة تتطلب تشخيصا وحلاً وعلاجاً. أتوقف لحظة لكي أسألكم: لماذا لم يظهر التنوير الاوروبي قبل اندلاع الحروب الطائفية الكاثوليكية – البروتستانتية؟ وهي التي ذهبت بعشرات الملايين من الضحايا في شتى أنحاء أوروبا. لماذا لم يتجرأ فلاسفتهم على تفكيك اليقينيات المسيحية الراسخة رسوخ الجبال الا بعد حصول كل تلك الفظائع؟ الأمور واضحة لا لبس فيها. الحاجة أم الاختراع كما يقال. والفهم الأصولي المتعصب للدين والراسخ كل الرسوخ في العقلية الجماعية لا يمكن أن يفقد مصداقيته الا بعد أن يرتكب أبشع الفظائع والجرائم. وبالتالي فانتظروا سقوط داعش وكل الفكر التكفيري القديم عما قريب. كلما ازدادت فظائعها فداحة اقتربت لحظة الخلاص. أخيرا: هل الإنسان بطبعه ميال إلى التسامح أم إلى التعصب؟ على عكس ما نتصور فإن الإنسان يميل، بطبعه، إلى التعصب لا إلى التسامح. وهذا شيء يعرفه المؤرخون وعلماء الانتربولوجيا الذين درسوا مختلف الثقافات والشعوب. وهو ما يؤكده لنا المؤرخ الفرنسي الشهير جاك لو غوف. وبالتالي فينبغي أن نبذل جهودا تربوية وتعليمية وتثقيفية كبيرة لكي تنتصر الميول التسامحية لدى الإنسان العربي على الميول التعصبية الانغلاقية. وإذن فالتسامح شيء مكتسب وليس شيئا معطى بالفطرة أو بشكل جاهز. ويضيف جاك لوغوف قائلا: لو لم يتثقف الفرنسيون ويستنيروا ويتحضروا لظلوا يذبحون بعضهم بعضا على الهوية الطائفية حتى اليوم. ومعلوم أن الكاثوليكي لم يكن يطيق البروتستانتي طيلة القرنين السادس عشر والسابع عشر بل وحتى الثامن عشر وربما التاسع عشر. بعدئذ انتصر التنوير على الأصولية الطائفية وحسمت المعركة نهائيا. وأنا شخصيا عندما زرت هولندا قال لي أحد المثقفين بأن الكاثوليكي لم يكن يشتري حوائجه من عند التاجر البروتستانتي حتى ولو كان جاره الملاصق لبيته. وإنما كان يذهب إذا اقتضى الأمر الى مسافات بعيدة لشرائها من عند تاجر كاثوليكي مثله. وبالتالي فالطائفية ليست مزحة وإنما هي شيء جاد وشديد الخطورة إذا لم يعالج بشكل صحيح. ولا علاج لها الا عن طريق ثقافة تنويرية تحل تدريجيا محل الثقافة الظلامية المهيمنة تاريخيا علينا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©