الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكوفي.. شيخ الخط العربي

الكوفي.. شيخ الخط العربي
12 مارس 2014 22:34
استعاد الخط الكوفي «شبابه الفني»، كما لم يفعل من قبل، وتألق «أبو الفنون» التجريدية، بدلال وجلال يليق بالقِمة التي يتربع عليها منذ بدء الكتابة العربية، والتدوين المصحفي، والمراسلات الإسلامية في عصورها الأولى الزاهية، بحيث بدا تيّاهاً، بمحمولاته الجمالية والفنية، وتشكيلاته الهندسية البديعة، وتنويعاته وأساليبه الثرَّة، إلى درجة يمكن أن تعيد للمتلقي ـ مهما تواضعت خبرته ومعرفته الثقافية بفن الخط ـ الثقة بمضامينه التأويلية والدلالية، المؤهلة لمحاكاة الحاضر وتجاوزه إلى المستقبل باقتدار، كما هو شأن الإبداع الحقيقي في الفنون الأخرى. على مدى ثلاثة أيام، من فعاليات الدورة الرابعة لمنتدى «حروف عربية»، شهدت «ندوة الثقافة والعلوم» بدبي أواخر الشهر الماضي احتفالية باذخة من نوع مختلف، بل عرساً كرنفالياً حقيقياً، تلاقت خلاله التيارات والأساليب الإبداعية المتعددة في فن الخط الكوفي، قديمها وجديدها، بتفاعل إبداعي مدهش، زاد من سحره وألقه، حضور الإبداعات الفنية لأهم الفنانين المعاصرين العرب والأتراك، من خلال ثلاثة معارض شارك بها المجددون الحداثيون، أمثال: يوسف أحمد ومحمد كمال، ومحمد عبد القادر، وعصام عبد الرحيم، والفنان التركي أمين بارين، والفنانان السوريان منير الشعراني، وجمال بوستان، اللذان شاركا بأعمالهما وبحضورهما الشخصي، وشاركهما الحضور كلّ من: الفنانين الدكتور صاواش جويك أستاذ الرياضيات في جامعة «هاليج» التركية، والدكتور إيرفن جميل، والفنان خالد الجلاف مدير تحرير مجلة «حروف عربية»، والباحث تاج السر حسن، حيث تضافرت جهود جميع المشاركين خلال ست جلسات، تناولت الخط الكوفي بحثاً وتنقيباً بخصوصياته الجمالية، في إطار الطبيعة البنيوية الخلاقة للخط العربي عموماً. أنماط وأساليب إلى ذلك تشكل العرس الكوفي من ثلاثة معارض، ضمت ما يزيد على ستين لوحة، لأبرز فناني هذا الخط من العرب والمسلمين خلال القرنين الماضيين، وتعددت فيها الأساليب والأنماط، ما بين الأشكال التقليدية والمعاصرة. وكان اللافت في الاحتفالية، المعرض الخاص بمقتنيات معالي محمد المر رئيس المجلس الوطني الاتحادي، الذي تميز بأربع وعشرين لوحة تنطوي على بعدين لا بد من التوقف عندهما على مستويين: الأول: أن اللوحات حملت توقيعات أبرز مبدعي الخط الكوفي، بدءاً من مُحيي هذا الخط، المصري يوسف أحمد في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. مروراً بالمجدد التركي أمين بارين ومجايليه من الأتراك والعرب، وصولاً إلى آخر موجة من المجددين الحداثيين، مثل عصام، والشعراني وبوستان. أما الثاني فهو أن المعرض الخاص بمقتنيات معاليه من الخط الكوفي، ينبئ أن معاليه يتمتع بخبرة عميقة بأصول ونشأة وتطور فن الخط العربي، إلى جانب تميزه بحساسية فنية مرهفة، ورؤية نقدية معرفية من طراز رفيع، تؤهله لقراءة وتأويل اللوحة الحروفية بكل أبعادها الجمالية والفنية، وكل محمولاتها الدلالية والرمزية. وبهذا المعنى يُعَدُّ معاليه أحد النقاد المحترفين في فن الخط العربي، وليس أحد الذوّاقة، كما يحب أن يسمي نفسه. كما ينبئ المعرض الخاص بمقتنيات معاليه، بأن ما غاب عن العرض أكبر بكثير من المعروض، ما أتاح لمعاليه أن يختار بيسر أربعاً وعشرين لوحة بالخط الكوفي، غطت كل الأشكال والأنماط الكلاسيكية التقليدية والحديثة، ومن أبرزها، حسب تعريف الفنان منير الشعراني: ـ الكوفي الموّرق: الذي تنبثق من أطراف حروفه تحويرات زخرفية نباتية تتناغم مع حروفه في منطق جمالي يميّزه عن غيره من أنواع الخطّ الكوفي، وقد تطوّر هذا النوع في مصر والعراق وفارس. ـ الكوفي المملوكي: الذي يشترك في أساسياته مع كثير من سمات الخطوط التي سادت في مصر منذ العصـر الفاطمي. ـ الكوفي المضفور: الذي يعتمد في جمالياته على تضفير الحروف القائمة، وقد انتشـر هذا الخط في المشـرق الإسلامي، والمغرب وصولاً إلى الأندلس. ـ الكوفي المربع: أو «الشطرنجي» وهو شديد الاستقامة قائم الزوايا، يعتمد على التناوب بين الخط والفراغ بعروض متساوية وبشكل هندسي متعامد وقد استخدم في طشقند وبخارى وإيران والعراق، مروراً بمصر ووصولاً إلى المغرب. ـ الكوفي الأندلسي: الذي يمتاز بالرشاقة والزخرفية العالية، وله أمثلة في الأندلس والمغرب. ـ الكوفي القيرواني: ونراه في المخطوطات القيروانية ويعتمد على جماليات العلاقة بين المســتقيم والمنحني، والسواد والبياض والكتلة والفراغ. ـ الكوفي المشرقي: وقد اكتسب اسمه نتيجة لانتشاره في الشرق الإسلامي وخصوصاً في بلاد فارس وما جاورها، ويقترب في بنائه الهيكلي وأشكال حروفه من الخط القيرواني، إلا أنه أكثر رشاقة منه وقد أدخلت عليه في بعض تجلياته زخارف نباتية شكلت خلفية له. الكوفي النيسابوري: وهو خطّ ممّيز وأمثلته نادرة جداً ويمتاز بتناوب الغلظ والرهافة في حروفه، وبالتناغم بين الأسود والأبيض، والمنحني والمستقيم في أجزائه، وبعلاقة الكتلة بالفراغ في مجمله، وبتعريقات في أواخر حروفه العمودية وأحياناً في نهاياتها السفلى بشكل شديد الخصوصية والجمال. البسملة وأشكالها ومن اللافت في هذه التظاهرة الفنية المعرض الخاص بالمبدع التركي أمين بارين، الذي خصَّ «البسملة» بعشر لوحات من أنواع الخط الكوفي، كل واحدة منها مفارقة للأخريات بالشكل والنمط، ما يجعلها قابلة للقراءة والتأويل بشكل مختلف لجهة الدلالات الجمالية والفنية. هذا بالإضافة إلى عشر لوحات أخرى تنوعت في أساليبها وأنماطها الهندسية والزخرفية. وينسب للفنان بارين، أنه قادر على رسم البسملة عشرات وربما مئات المرات بأشكال مختلفة، لما يتمتع به الخط العربي من طواعية واستجابة مدهشة، تستفز روح الإبداع في داخل الفنان، وتضعه أمام تحد ذاتي بشكل مستمر، وإلى ما لانهاية له، حسب الدكتور صاواش جويك، الذي يتساءل بما يشبه المرارة، عن سبب إهمال الخط العربي، وتراجعه في الطباعة الحاسوبية والرقمية «الديجتال»، عن نظيره اللاتيني مئات المرات في الوقت الراهن. وهو تساؤل مُحق ومشروع، لأن الطبيعة البنيوية للخط العربي، تجعله يتميز عن الخط اللاتيني أو غيره من الخطوط في جميع اللغات الحية، نظراً لقدرته الفائقة على الانسياب الباذخ، أو التداعي التجريدي الماتع إلى أقصى المَدَيات الجمالية والفنية، ما يستفز الحس الإبداعي لدى الفنان، ويجعله يواجه تحدياً ذاتياً، لا يعرف حقيقته، أو سطوته في الفتنة والغواية، أو الاستدراج إلى مواطن السحر والأسرار الإبداعية، إلا كبار الفنانين الممسوسين بلوثة عبقرية، هي أقرب إلى ضروب الجنون، لشدة مفارقتها للواقع أو المألوف من الإبداع الفني الإنساني على مر العصور. وحسب دراسة للفنان التشكيلي العراقي زيد الأعظمي، يقول بيكاسو أحد أشهر الفنانين التشكيليين خلال القرن العشرين: «ما من نقطة وصلت إليها في الفن، إلا ووجدت أن الخط العربي قد سبقني إليها». وفي مكان آخر يقول بيكاسو: «لابد أن ننتهي من التشخيص، لأن المُشَخَصْ لا يعطي سوى معناه، أما التجريد، فينتقل من الحس إلى معناه الواسع اللامحدود اللامنتهي، ووجدت ذلك بالخط العربي». المشترك الأعظم المؤكد أن فن التجريد يعتبر من الفنون الأصيلة في الموروث الثقافي العربي والإسلامي، ولكن إذا كانت الزخرفة والمنمنمات أو الموتيفات تحتمل الجدل في تأصيل أسبقيتها بين المدارس العربية والهندية والفارسية، فإن فن الخط لا يرقى أدنى شك إلى هويته العربية الخالصة، لا بل يمكن القول إن العبقرية الفنية بالخط العربي تركت آثارها البينة على مجمل الفنون التشكيلية شرقاً وغرباً، من دون أن يتأثر بأي منها لا من قريب أو من بعيد. وفي هذا السياق، يقول الفنان السوري منير شعراني عن الخط العربي بأنه «القاسم المشترك الأعظم للفنون العربية الإسلامية، التي استعارت طابعه الجمالي، الذي ينطلق من قاعدة التناسب بين الخط والنقطة والدائرة، وهو التجريد الأرقى، بل تجريد التجريد، وهو يجمع جمالية المحتوى إلى جمالية الشكل، ويتعامل مع العقل والفكر والمعرفة بشكل بصري راق ينفذ إلى القلب من خلال العين». ويوضح الشعراني، في حديث خاص لـ «الاتحاد الثقافي» أن بنية الخطّ العربي، وما تتمتع به من مرونة وطواعية، وقابلية للمد والرجع والاستدارة والتزوِيَة والتشابك والتداخل والتركيب، وما فيها من اختلاف في الوصل والفصل، ساعد على ارتقائه من خطّ للكتابة الوظيفية فحسب، إلى فن جميل قادر على مسايرة التطورات والخامات، حيث يعتمد التركيب والتشكيل فيه على الأسس نفسها التي تقوم عليها الفنون التشكيلية الأخرى، بالإضافة إلى خصوصياته الجمالية والأدائية التي تجعله ينتج حركة ذاتية تكسبه رونقاً جمالياً مستقلاً عن مضامينه ومرتبطاً معها في آن واحد. ورداً على سؤال حول الآلية، التي يعتمدها لدى مقاربة الحروف لحظة التطوير أو التجديد، يشير الشعراني إلى أنه ليس فناناً حروفياً، وإنما هو خطاط تشكيلي، لديه أسلوب خاص في التعامل مع الموضوع، يقوم على ما سماه «التلخيص البصري» لبناء اللوحة بشكل مغاير للأساليب التي اعتاد السابقون أن يتعاملوا معها، ومغاير أيضاً لما يتوقعه المتلقي من أشياء اعتاد أن يراها. ويضيف الشعراني أن البناء لديه يقوم على العلاقة بين الفراغ والكتلة، والعلاقات الجمالية السببية بين الحروف وجمالية التشكيل العام، في محاولة للمزاوجة بين الأسس العامة للتشكيل الفني، والخصوصيات الجمالية والبنائية للخط العربي. ومن أجل ذلك يقوم بإجراء تعديلات على حروف الخطوط، التي يتعامل معها، وعلى أسلوب بنائها، وأخيراً يُدخل عليها من «عندياته» ما ينسجم معها جمالياً، بالإضافة إلى توليد بعض الخطوط من الخطوط القديمة بأسلوب معاصر. ويوضح الفنان منير الشعراني أن هذه التجربة لم تأت من فراغ، بل جاءت من دراسة طويلة للخط الكلاسيكي أولاً، ثم البحث العميق في الشواهد الخطية بصرياً، وتاريخ الخط العربي منذ بداياته، مروراً بمراحل تطوره، وأساليب المطورين، وما ارتكزوا إليه في التطوير، ولكن بعين معاصرة، تستمد ثقافتها من التطور الحاصل على الفنون بعامة. محمد المرّ: الكوفي زهرة من بستان الخط العربي الخط الكوفي هو أقدم الخطوط العربية. كتبت به أوائل المصاحف، وكان يعتبر حينها، الخط التزييني الأول بامتياز. حسب تعبير معالي محمد المر في حديث خاص لـ «الاتحاد الثقافي». ويضيف معاليه: «إن الكوفي استمر استخدامه في كتابة المصاحف إلى أن جاءت المدرسة البغدادية، مع ابن مقلة وياقوت المستعصم ومن تلاهما، فهؤلاء هم الذين نقلوا الخط العربي إلى أنواع جديدة ومختلفة من الخطوط ، منها النسخ والثلث والمحقق، فتحولت كتابة المصحف الى هذه الأنواع، وتواصل استخدامها في المراكز الإسلامية فيما بعد، وبخاصة في الهند وفارس والسلطنة العثمانية، ما جعل صيت الكوفي يخفُت ويتراجع، رغم استمرار استخدامه في المغرب العربي، ولكن بالطريقة التقليدية. ويقول معالي المر إن الاهتمام بالخط الكوفي عاد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إلى ما كان عليه، بل أكثر زخماً وحداثة، وكان في طليعة المجددين الفنان المصري يوسف أحمد، وجاء من بعده تلميذه محمد خليل، ومحمد عبد القادر، فعاد الكوفي للواجهة بأبعاد جمالية مختلفة وروعة أكثر اختلافاً، وأصبح يستخدم في كتابة اللوحات وتزيين المساجد والمباني الرسمية. وفي الوقت الراهن ظهر فنانون كبار مثل المصري عصام عبد الفتاح والسوري منير الشعراني، ومواطنه جمال بوستان وغيرهم. واعتبر معاليه أن إقامة هذا «العرس الثقافي»، أو المنتدى المخصص للخط الكوفي، أمر مهم للغاية، لجهة الاهتمام بهذا الخط النبيل القديم، وإعادته الى مكانته العالية، التي يستحقها جنباً الى جنب مع الخطوط الأخرى، مثل النسخ والثلث والتعليق وغيرها من الخطوط الراقية في الكتابة العربية. داعياً إلى ضرورة إحيائه والتفكير بتجديده بطرق ابداعية مغايرة، كما يفعل في الوقت الراهن الفنان المبدع منير الشعراني، «الذي يعتبر من أهم الفنانين المعاصرين الذين أولوا الخط الكوفي جُلَّ اهتمامهم دراسة وبحثاً وتطويراً، على أساس الربط ما بين العراقة والمعاصرة». ومع ذلك فالكوفي ما هو إلا زهرة من بستان، أو من روضة بديعة، يجب السهر عليها والعناية بها أسوة بالفنون الأخرى. ولدى استفسارنا عن كيفية تجميع هذا العدد الكبير من اللوحات المخصصة للخط الكوفي في المعرض الخاص بمقتنيات معاليه؟. قال معاليه إنها عينة من ضمن مجموعة كبيرة، تم تجميعها على مدى خمسة عشر عاماً، وأحياناً كثيرة كان هو بنفسه يختار بعض الأقوال المأثورة، أو الحِكَم، أو مطالع أمهات القصائد، ويذهب بها إلى الفنانين المعروفين سواء في مصر أو سوريا أو تركيا، لتنفيذها في إطار ابداعي جديد، بلمسة من روح الفنان. لذلك توفرت لديه هذه المجموعة، التي سمحت له، بسهولة الاختيار المتنوع بالأسماء والأساليب في معرضه الخاص. وعن رأيه في معرض الفنان التركي أمين بارين، يقول: إن بارين يعتبر من الفنانين الرواد في تجديد الخط الكوفي، سواء بأساليبه الحداثية وأنواعه المعاصرة، أو بروح التجديد الخلاقة، فهو مبتكر تكوينات جرافيكية جديدة أشبه ما تكون بالتجريد الفني الأكثر حداثة، ما أعطت الكوفي أبعاداً جمالية وفنية غير مسبوقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©