الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرحلة الفاشلة إلى الغرب

الرحلة الفاشلة إلى الغرب
12 مارس 2014 22:34
في مخيال العرب القدماء، يرمز الغرب إلى ذلك المكان القصيّ، الكثيف العتمة. لذا جعلوه في لغتهم مرادفا للوحشة والمنفى في درجاته المؤلمة والقصوى فسمّوه: «الغربة»، وهي حالة الإنسان الذي يجبر على مغادرة وطنه ليعيش في مكان ناء تنكره نفسه، وفيه لا يعرف للطمأنينة وللسعادة سبيلا. فلكأنه لم ينف فقط من وطنه، وإنّما من الحياة ذاتها!. وربّما لهذا السبب أظهر العرب منذ قديم الزمان نفورا من الغرب. خلال الفتوحات الإسلاميّة الكبرى، أوغل العرب شرقاً، غير أنهم كرهوا أن يتوجّهوا غربا. وعندما حاولوا أن يفعلوا ذلك توقفوا في الأندلس، وفي صقليّة لتشابه مناخيهما مع مناخهم. ولم يكن ذلك عائدا فقط إلى عدم توفر القدرة العسكريّة لمثل تلك المغامرة، وإنما لأنهم كانوا يخشون أن تبتلعهم ظلمة الغرب التي تبتلع الشمس في كلّ يوم. وعندما استقرّ أمر العرب، وعظم نفوذهم بعد انتشار الإسلام، ظلّ النفور من الغرب قائماً. وعند أهل الفلسفة والتصوف، كان الغرب على الصورة التي ذكرنا. فها هو ابن عربي يترك الأندلس إلى مراكش. وهناك يرى حلماً، ويسمع صوتا يحثّه على الاتجاه شرقا حيث «النّور والحكمة». وهو يمضي إلى بلاد الشرق فلا يعود منها أبدا. وعندما شعر ابن خلدون الذي أمضى شطرا هاما من حياته في بلاد المغرب والأندلس، أن الانهيار بات وشيكا، اختار السفر الى المشرق وقد قارب سنّ الخمسين، باحثا عمّا يمكن أن يصلح حال المسلمين، ويعيد لهم هيبتهم ونفوذهم الذي كان قد بدأ يضعف، وتضيق مساحاته، وظلّ هناك إلى أن توفي في القاهرة عام 1406. منظور تاريخي ويتحدث ابن فضلان عن رحلة إلى روسيا تمّت عام 921 (ابن فضلان قاض من بغداد أرسله أمير المؤمنين المقتدر بالله ضمن وفد إلى ملك الروس طالبا منه التعرف على شرائع الإسلام) واصفاً أهوال الرحلة الشاقّة الطويلة راسما لنا بدقّة متناهية صورة مرعبة عن الأقاليم التي مرّ بها، وعن الأقوام غريبي الأشكال والطبائع الذين اعترضوا طريقه. وفي كتب الرحالة العرب الذين اتجهوا شرقا، نحن نشعر أن صاحب الرحلة يحاول دائما، وحتى عندما يواجه المتاعب والمصاعب، أن يمتعنا. وما يصفه من بشر، ومن مناظر طبيعية، ومن أحداث يكون بمثابة «الدعوة إلى السفر» بحسب بودلير. أما ابن فضلان فيختلف عنهم إذ انه يجعلنا ونحن نقرأ تفاصيل رحلته الشاقة نعزف عن السفر خصوصا باتجاه الغرب!. وبعد أن دمّر المغول بغداد (1258)، وأحرقوا مكتباتها الثمينة، وقصورها الفاخرة، وحدائقها الجميلة، عاش العرب قرونا من الانحطاط والجهل والعزلة، وخلالها كانوا منقطعين انقطاعا كليّا عمّا كان يحدث في العالم. ولم يستيقظوا من سباتهم إلاّ على دويّ مدافع نابليون بونابرت أثناء حملته الشهيرة على مصر في عام 1798. بعد الحملة المذكورة، أرسلت مصر بعض أبنائها إلى فرنسا ضمن ما سمّي في ذلك الوقت بـ «البعثات العلميّة». وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تكاثرت تلك البعثات لتفضي إلى ما اصطلح المؤرخون على تسميته بـ «النهضة العربيّة» التي تجسدت بشكل خاص من خلال الأفكار الإصلاحية والتحديثية لكل من رفاعة الطهطاوي في مصر، وعبد الرحمان الكواكبي في بلاد الشام، وخير الدين باشا في تونس. وفي «تلخيص الإبريز» لرفاعة الطهطاوي، نحن نعثر على سمات من «الرحلة الغربية». وتتجلى لنا باريس وكأنها مدينة خيالية، وليست كما وصفها لنا بودلير وبلزاك وفلوبير وغيرهم من الكتاب الفرنسيين الذين كشفوا مساوئها، وشرورها، وهمومها، وقسوة العيش فيها، وأيضا عهر، وتفسخ أهلها. وسوف يمرّ وقت طويل لكي تظهر للوجود أعمال ابداعيّة تروي الجانب المأساوي في «الرحلة الغربيّة». ومن بين تلك ألأعمال، يمكن أن نذكر «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و«أديب» لطه حسين، و«الحيّ اللاتيني» لسهيل ادريس، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. وفي جميع تلم الأعمال، نحن نقف على النفور العربي القديم من ظلمات الغرب، وبرودته، وقسوته على زائريه، والفارّين إليه!. تقاطعات وافتراقات ما يلفت الانتباه هو أنّ هناك سمات مشتركة بين «أديب»، بطل رواية طه حسين، ومصطفى سعيد بطل «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. فالاثنان يبديان الرغبة في السفر إلى الغرب قصد الدراسة، وطلب المعرفة. والاثنان يتمتّعان بذكاء مفرط، وبقدرات هائلة على الاستيعاب وحب المعرفة. والاثنان يتمكنان بسرعة فائقة من التّماهي مع الغرب، ومع ثقافته حتى أنهما يتخيّلان أنهما من أهله، بل من نخبته. وكلاهما ينغمس في حياة الخلاعة واللهو والعبث، ويسرفان في كلّ ذلك لتكون نهايتهما مؤلمة ومفجعة. فأديب طه حسين يغرق في الجنون، ويصبح ضحية لهلوسات مرعبة. أما مصطفى سعيد فينتهي منتحراً في النيل أثناء فيضانه فلا يتمكن من الوصول إلى إحدى الضفتين. مع ذلك ثمة فروق بين البطلين تتجلّى لنا من خلال استعراضنا لمسيرة كل واحد منهما. في البداية يبرز لنا «أديب» شخصيّة ثائرة، متمرّدة على التقاليد، وعلى جامعة الأزهر حيث كان يدرس تماما مثلما هو الحال بالنسبة لطه حسين. وهو دائم السخرية من شيوخها المعممين، ومن برامجها الدراسيّة المملّة، والتي تحيل إلى ماض ولّى وانتهى. لذا هو يبذل كلّ المجهودات الممكنة لكي يغادر إلى أوروبا. وها هو يسافر إلى فرنسا بعد أن يطلق زوجته ليس كرها لها، ولا ضجرا من العيش معها، وإنما لأنه يعلم جيّدا من خلال ما قرأ من كتب، ومن قصص عن أوروبا أنه «لا يستطيع أن يقاوم الحياة هناك وآثارها على نفسه كما ينبغي للرجل الوفي لزوجته أن يقاومها»، ولأنه «سوف ينغمس في الإثم فهو يريد أن يتحمّل وحده وزر هذا الإثم». في السفينة التي تحمله إلى مرسيليا، تنتاب «أديب» الهواجس والمخاوف، ويستبدّ به حنين جارف إلى ماضيه، ووطنه، وزوجته حتى أننا نخال أنه سيقطع رحلته ويعود إلى القاهرة. وهو يحاول أن يتصوّر البلد الذي هو مقبل على الإقامة فيه فلا يرى غير البلد الذي انصرف عنه. وهو يسعى إلى أن يتمثّل جامعة «السوربون» فلا يرى إلاّ الجامعة المصريّة. وهو يجهد نفسه لكي يجسّد في ذهنه صورة للمرأة الباريسيّة غير أن صورة حميدة، زوجته المصريّة تظلّ قائمة أمامه كهيئتها يوم غادرها تاركا إيّاها منخرطة في بكاء متّصل عميق. وبينما كانت الباخرة تقترب من ميناء مرسيليا، تتراءى له الحياة الأوروبية بحرا آخر لا نهاية لعمقه، مملوءا باللذة والألم، مفعما بالخير والشرّ، فتتضاعف هواجسه ومخاوفه، ويشتدّ تشاؤمه إذ أنه يحسّ أنه سوف يلاقي هناك «شرّا كثيرا، وإخفاقا شنيعا». وبعد أن يسرف في اللهو والعبث والمجون، يستعيد أديب حماسه للعلم والمعرفة، فيقبل على الدروس إقبالا نهما. وفي وقت قصير، يتمكّن من إدراك ما فاته. غير أن الحنين إلى حياة اللهو والمجون تعاوده من جديد، فيهمل دروسه، وينخرط فيها غير عابئ بشيء. وفي رسالة يبعث بها إلى صديق، يكتب قائلا: «لقد صدق موسيه (يقصد الشاعر الفرنسي ألفريد دو موسيه) حين شبّه قلب الرجل النقيّ بالإناء العميق، إذا استقرّ الدّنس فيه فليس إلى تطهيره من سبيل ولو مرّ به ماء البحر كلّه». ويمضي أديب في باريس شتاء 1917 المرعب، والذي كابد فيه الفرنسيّون قسوة البرد والجوع، وأيضا أهوال أوّل قصف للطيران، ويقف نصيرا للحضارة، رافضا القوة الوحشيّة، عازما على ألاّ يبرح باريس «مهما تكن الظّروف». وفي هذه الأثناء، يعيش أديب قصّة حبّ فاشلة مع امرأة تدعى «ألين» فتضطرب نفسه، ويصاب بالبارانويا. وها هو يشعر «أن الصحف الفرنسيّة مجمعة كلّها على مقته، وبغضه، والكيد له»، وأنّ كلّ ما تذكره هذه الصّحف عن ألمانيا العدوّة«موجّه إليه، ومنصبّ عليه انصبابا». ويظلّ مرضه هذا يتعاظم ويشتدّ إلى أن يطبق عليه ليل الجنون. وإذا ما كان أديب قد دخل أوروبا وهو يتمتع بالكثير من الذّكاء والخبرة، فإنّ مصطفى سعيد بطل «موسم الهجرة إلى الشمال» انطلق إليها وهو دون سنّ العشرين. وعكس أديب هو لا يلتفت إلى الوراء، ولا يهتمّ بماضيه إلاّ بعد فشل مغامرته الغربيّة.وهو يمضي الى ألأمام ك«السّهم» بلا أيّ ذرّة حنين ولا ندم على ما فات وانقضى..وكان أديب يعاني من أولى هلوسات البارانويا التي سوف تؤدّي به إلى الجنون المطلق لمّا وصل مصطفى سعيد إلى لندن ليجدها «خارجة من الحرب، ومن وطأة العصر الفيكتوري»، ومنذ الأسابيع الأولى، عرف حانات «تشلسي»، وأندية «هامستد»، ومنتديات «بلوزمري»، وفيها كان يقرأ الشعر، ويتحدث عن الدين والفلسفة، وينقد الرسم، ويقول كلاما عن روحانيّات الشرق، ويفعل أشياء أخرى ولا هدف له غير إدخال امرأة إلى فراشه، ثمّ يمضي إلى صيد آخر. وكلّ ضحاياه من النساء اللواتي يمتلكن حنينا إلى الشرق، و«إلى المناخات الاستوائية، والشموس القاسية، والآفاق الأرجوانيّة». أمّا مصطفى سعيد فيظلّ ذلك «الجنوب الذي يحنّ إلى الشمال والصّقيع». والشرق بالنسبة له هو غرفة «تفوح منها رائحة الصّندل». ورغم هذا الإسراف في حياة اللهو والمجون، فإنّ مصطفى سعيد يحرز أعلى الدرجات العلميّة، ويتحوّل إلى شخصيّة من الشخصيّات المرموقة التي تحظى بتقدير أسمى شخصيّات المجتمع اللندني. ولأعوام طويلة، ظلّ مصطفى سعيد يعيش مع النظريّات الغربيّة بالنهار، وبالليل «يواصل الحرب بالقوس والسيف والرمح والنشاب» ضدّ النساء إلى أن تعدّدت ضحاياه. فقد انتحرت ثلاث من عشيقاته بسببه. أمّا الرابعة، جين مورس، فقد ظلّت تعذّبه إلى أن فقد السيطرة على نفسه فغرس سكينا في صدرها بينما كانت هي تصرخ: «أحبّك يا حبيبي». وبعد سنوات أمضاها في السجن لقتله جين مورس، عاد مصطفى سعيد إلى السودان ليعيش مجهول الهويّة في قرية صغيرة على ضفاف النيل ساعيا إلى أن يدفن ماضيه الصّاخب، ويتخلص من أشباح مغامراته. غير أنّ ذكريات تلك السنوات ظلّت تعذبه وتلاحقه إلى أن لم يعد قادرا على احتمالها. عندئذ ألقى بنفسه في النيل متخيّرا الموت منتحرا. المؤلف متماهياً مع شخصيته ينتسب مؤلّفا العملين المذكورين إلى جيلين مختلفين. فطه حسين المولود عام 1889 كان أحد أقطاب حركة النهضة الفكريّة والثقافيّة التي عرفتها مصر ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر. أمّا الطيب صالح المولود عام 1929 فهو أحد ألمع أبناء الجيل الذي كان له طه حسين معلّما ومرشدا. مع ذلك توصّل المؤلّفان من خلال عمليهما إلى نفس النتيجة ألا وهي فشل المثقف العربي في رحلته الغربيّة. وإذا ما نحن تمعّنّا في مسيرتي طه حسين، والطيب صالح، فإنه يكون بإمكاننا القول إن هذا الفشل ليس مقتصرا على الشخصيّتين اللتين ابتدعاهما، أي أديب، ومصطفى سعيد، وإنما يخصّاهما أيضا. فقد عاد طه حسين من فرنسا معجبا وفتونا بعقلانية ديكارت، وبالحضارة الغربية على جميع الصعد والمستويات. وكان كتابه الشهير «في الشعر الجاهلي» الذي حوكم من أجله، وأيضا كتابه الآخر «مستقبل الثقافة في مصر» الذي أنكر فيه أن يكون الإسلام عنصرا أساسيّا في الثقافة المصريّة، أحد نتائج هذا التأثر بالثقافة الغربيّة وبمكوّناتها التنويريّة. لكن في آخر حياته بدا طه حسين وكأن حماسه للتجديد والتنوير قد خفّ. فقد تنكّر لموجات الشعر الجديد معتبرا إياها «بدعا». وكما لو انه أراد أن يكفّر عن ذنب قديم، ختم مسيرته الفكرية بكتاب عن نشأة الإسلام، والظروف التاريخية والسياسيّة والاجتماعية التي أحاطت بذلك. ومن يقرأ رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» البديعة لا يمكن أن يغفل عن شيء وهو أن الطيب صالح ليس قادرا بأيّ حال من الأحوال على ابتكار شخصيّة مصطفى سعيد لو أنه لم يعش حياة مشابهة لحياته. ثم إن أحداث الرواية تدلّ دلالة قاطعة على أن الطيب صالح تمكن من النفاذ إلى أسرار الحياة الغربية ليس فقط من خلال مطالعاته للفلاسفة والكتاب والشعراء الغربيين، وإنما أيضا من خلال التجارب التي عاشها شابا في لندن. مع ذلك، أظهر الطيب صالح في العقود الأخيرة من حياته نفورا من حياة الشباب الصاخبة ليصبح ميّالا إلى الزهد، والهدوء تماما مثل مصطفى سعيد بعد عودته إلى تلك القرية الصغيرة على ضفاف النيل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©