الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اليابان.. «حقل كرز» ثقافي

اليابان.. «حقل كرز» ثقافي
12 مارس 2014 22:32
لم يخطر في بالي أن أزور اليابان يوماً، فكيف سأعيش فيها ثلاث سنوات؟ إن بلاداً لا نعرف عنها إلا كلمات معدودة لا تغرينا بزيارتها، ومن هذه الكلمات القليلة: جبل فوجي المقدس، الساموراي، فتيات الجيشا، الريح السماوية (كامي كازيه)، هيروشيما وناجاساكي وأهوال القنبلة الذرية، ياسوناري كاواباتا وجائزة نوبل للآداب.. ثم الروائي يوكيو ميشيما وقصة انتحاره، على الطريقة اليابانية التقليدية. وهذه الأسماء يكفي أن تطلع عليها في الكتب أو السينما.. فلماذا تغامر بالسفر إلى آخر الدنيا؟ ويوم سمع أحد الأصدقاء أني مسافر إلى اليابان، سألني باستغراب: «ألم تجد في العالم كله غير هذا المنفى؟»، ومن الغريب أن تكتشف أن كثيراً من المقيمين الغربيين في اليابان يعتبرون أنهم منفيون خارج الكوكب الأرضي! كانت المفاجأة السعيدة أني وجدت عالماً مختلفاً تماماً، وأجواء طبيعية واجتماعية وثقافية حافلة بالفن والجمال. وكانت طيبة الناس وحسن معاملتهم ومبادراتهم الفورية للمساعدة تدعوك لمحبة هذا الشعب الودود والإعجاب بجهوده وإبداعاته المتميزة على أكثر من صعيد. كنت قد التقيت المستعرب الياباني الأستاذ «نبواكي نوتوهارا» أكثر من مرة في دمشق، وكان الروائي الكبير عبد الرحمن منيف يحدثني عن تلك البلاد التي زارها في أوائل الستينات وأحبها، وهو يتمنى لكل عربي أن يزور ذلك الشرق العظيم ويوليه اهتمامه لكي يطلع بإمعان على تجربته الحضارية. أسماء وأرقام في طوكيو، مطاران: «ناريتا» المطار الدولي الذي يستقبلك وأنت قادم من بلدان بعيدة، وهناك مطار «هانيدا» للمواصلات الداخلية، وللمسافرين من كوريا والصين وإليهما. وفي طوكيو، أول ما ينبغي أن تحصل عليه كتيب يضم خرائط المحطات والسكك الحديدية داخل المدينة، حتى تتنقل بارتياح وتصل إلى هدفك مباشرة. وكل حي من أحياء العاصمة مرتبط باسم المحطة، والمحطات الكبرى يعبرها أكثر من خط حديدي في الشبكة التي تمتد في جسد المدينة كالشرايين والأوردة، ذهابا وإيابا في خطوط متجاورة، لذلك لا خوف من وقوع أي اصطدام. وموقع المحطة هام جدا لتحديد الأمكنة. وهناك شبكة للباصات أيضاً داخل الأحياء التي لا تخترقها الشبكة الحديدية، كما أن الدراجة الهوائية وسيلة منتشرة بكثرة، بين الرجال والنساء وحتى الأطفال. أما الدراجات النارية فهي قليلة ومقتصرة على المراسلين وسعاة البريد وموزعي الصحف. وأكثر ما يلفت النظر في المسابح البلدية المكيفة بدرجة حرارة معينة، أن ترى أطفالًا وفتياناً من ذوي الاحتياجات الخاصة يخوضون في أحواض السباحة تحت إشراف أمهاتهم. وحين أبديت مخاوفي على أولئك الأطفال، قيل لي إن رياضة الماء تلك تساعد في علاج بعض الأمراض العصبية، كما أن ركوب الخيل يساعد كذلك في تحسين حالاتهم الصحية. أما مغامرات متسلقي الجبال فلم أجازف حتى بمشاهدتها من بعيد، رغم دعوة إحدى الجميلات لمشاركتهم في تلك النزهة الأسبوعية المنعشة، ذلك أن رهاب المرتفعات سرعان ما يصيبني بدوار لا يقوى أمهر الأطباء على علاجه. في طوكيو نحو عشر جامعات رسمية، فضلا عن الكليات والمعاهد المتخصصة، إضافة إلى عشرات الجامعات الخاصة. وفي جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية عشرون قسماً لتدريس اللغات، وكذلك في العاصمة الصناعية أوساكا، والعاصمة التراثية كيوتو، إنما بنسب أقل. كان القسم الإنجليزي يشكل أضخم هذه الأقسام، وكان القبول فيه خلال عملي فيها (1993 ـ 1996) يبلغ 60 طالباً جديداً كل عام، بينما تشكل اللغات الأخرى كالفرنسية والإيطالية والروسية والصينية والإسبانية أعداداً أقل، في حين كان عدد الطلبة الجدد في قسم اللغة العربية لا يزيد عن عشرين طالباً. وكانت إدارة غرب آسيا تضم العربية والتركية والفارسية، ورئاسة هذه الإدارة من نصيب قسم اللغة العربية، ثم أضيفت اللغة الهندية وأوكلت رئاسة الإدارة لرئيس قسم هذه اللغة. مكانة الأم تأخذ المرأة اليابانية، ولا سيما الأم أو الأخت الكبرى، دوراً أساسياً في حقل التعليم ما قبل الجامعي. واللغة اليابانية تعتمد رموزاً وأشكالًا مستعارة من الأبجدية الصينية، منذ القرن الخامس الميلادي أو قبيل ذلك. وعلى التلميذ أن يتعلم كل يوم خمسة أشكال، بدءا من المرحلة الابتدائية. ومن هنا تأتي أهمية اللغة الأم. ومكانة الأم تمتد بعيدا في التاريخ الياباني حتى الينابيع الأولى، ممثلة بالجدة الأولى للشعب الياباني، ربة الشمس المعروفة باسم «أماتيراسو أوميكامي»، حسب أساطير الشنتو التي يقدس أتباعها الطبيعة، وكان لربة الضياء هذه الفضل في تعليم الشعب الياباني زراعة الأرز وصناعة النسيج. وقد أشرت إلى أسطورتها بإيجاز في كتابي «السيف والمرآة» الصادر مع مجلة «دبي الثقافية» الشهر الماضي. لكن هناك أساطير أخرى تبين أنها ولدت من عين إزاناغي اليسرى، بينما ولد القمر من العين اليمنى، كما أن أخاهما الشرير «سوسانوأو» ممثل العاصفة والإعصار والبحر، ولد من أنف والده. ويشكل هذا الجو الأسطوري مرحلة طويلة قبل أن يبدأ التاريخ الياباني القديم في سنة 660 قبل الميلاد، ويستمر حتى بداية المرحلة الإقطاعية في سنة 1162، بينما يبدأ العصر الحديث في 1868 مع استرداد العرش الإمبراطوري والتخلص من الحكم العسكري الإقطاعي، واتخاذ طوكيو عاصمة للإمبراطورية، بدلا من العاصمة القديمة كيوتو. ومن الوقائع التي لا تنسى أني كنت في طوكيو في صيف 1993 أثناء الاحتفال بزفاف ولي العهد الأمير «ناروهيتو»، وكانت عروسه «مساكو» دبلوماسية في الخارجية، ولم تقبل في البداية أن تتخلى عن طموحها في العمل الدبلوماسي، إلا أن الأمير أقنعها بأن اقترانهما لا يتنافى مع الامتيازات الدبلوماسية. والطريف في ذلك الاحتفال أن العروس كانت مثقلة بطيات من ثياب العرس التي تقضي التقاليد بارتدائها، وقد بلغت بين 12 و 14 ثوباً، كما ذكرت الصحافة. وهناك سيدة يابانية أخرى انتزعت إعجاب شعبها، كما لفتت أنظار العالم وكانت نجمة وسائل الإعلام في صيف 1994. إنها جراحة القلب الدكتورة «تشياكي موكاي» التي كانت أول امرأة يابانية تشارك في رحلة فضائية، وذكرت الصحافة أنها أجرت خلال رحلتها نحو 80 تجربة مخبرية في الفضاء. وبعد رجوعها من تلك الرحلة، قامت بزيارة القرية التي ولدت فيها، وما زلت أذكر الاحتفال الرائع الذي أقامه أبناء القرية، وخاصة الأطفال، خلال استقبالها. ولعل روعة ذلك الاستقبال الودي الحميم كانت أغلى ما تحتفظ به موكاي- سان في ذاكرتها وخزانة أوراقها من صور وذكريات. سحر الطبيعة طبيعة اليابان جبلية ساحرة، وضيق شريطها الممتد ما يزيد عن ثلاثة آلاف كيلومتر يجعل الأنهار قصيرة، وأرضها حافلة بألوان متعددة من الأعشاب والأزهار والأشجار، بتعدد مناخاتها، بدءا من جزيرة هوكَّايدو في أقصى الشمال الشرقي.. حتى جزيرة أوكيناوا في أقصى الجنوب الغربي. ولعل جمال هذه الطبيعة هو الذي أوحى للشعراء والكهنة البوذيين بإبداع قصيدة الهايكو، أقصر قصيدة في العالم وأشدها كثافة وعذوبة، وتكتب في ثلاثة أسطر، وهي مؤلفة من 17 مقطعاً (5 – 7 – 5): كم أود أن أغسل غبار هذا العالم في حبيبات الندى! هذه القصيدة من شعر باشو (ماتسو) أعظم شعراء اليابان. وكان الشاعر أو الكاهن البوذي يطوف شهوراً في الطبيعة، معرضاً نفسه للهلاك، حتى يبدع هذا اللون الساحر من الشعر. وتمتاز الرواية اليابانية كذلك بأهمية بالغة، ولا تقل قيمة وتميزاً عن الرواية في أميركا اللاتينية. ويمكن أن نرى المكانة السامية التي يشغلها المبدع الياباني حين نرى صورة «سوسيكي ناتسوميه»، رائد الرواية اليابانية الحديثة، على فئة الألف ين من العملة الورقية. ومع ذلك لم يحصل على جائزة نوبل إلا كاتبان: الأول «ياسوناري كاواباتا» في 1968 بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لانفتاح اليابان على الغرب، والثاني «كِنزابُرو أويه» في 1994 عشية الذكرى الخمسين لكارثة هيروشيما وناجاساكي الذرية. وتشكل تلك الكارثة عبئا ثقيلا على ضمير هذا الكاتب وهواجسه الإبداعية في عالم الرواية، كما أن محاضراته الأدبية ألقيت في العديد من جامعات العالم، وكان لها صداها الكبير، وهو يعتبر الأدب علاجا لأمراض العصر، على المستوى الفردي والجمعي. وهذه الفكرة التي يؤكد عليها الكاتب، مستوحاة من حياته العائلية من جهة، ومن الأمل الكبير الذي استوحاه من شجاعة الناجين من الكارثة الذرية في المدينتين المنكوبتين وإصرارهم على جوهر الحياة وسلامتها. والمأساة الشخصية التي واجهها الكاتب بعد زواجه أن ابنه البكر ولد مصاباً بعلّة دماغية. وفي روايته الموسومة بـ «شأن شخصي» نرى أن الشخصية المحورية فيها شاب رومانسي يحلم بالسفر إلى إفريقيا، وله صديقة تشجعه على تحقيق هذا الحلم. لذلك يتمنى لولده الموت حتى يتاح له الخلاص والسفر. ونراه يبحث في المدينة عن طبيب يقوم بالموت الرحيم لذلك الطفل، دون جدوى. وفي ختام الرواية يقرر التراجع عن أحلامه البعيدة عن الواقع، ويحرص على حياة طفله والعناية به. ويقول الكاتب إن مرض ابنه والتزامه بعلاجه ورعايته قد جعل حياته العائلية في حالة أسمى وأسعد وأكثر تفاؤلاً وتماسكاً واستعداداً لحمل المسؤولية، كما أن الناجين من القنبلة الذرية والإشعاع تعلم منهم الكثير وجعلوه يكرس جهده مع الآخرين لإزالة هذا السلاح وتدمير مخزونه من العالم أجمع. وما يميز «أويه» عن الكتاب الآخرين أنه يشير إلى أنه من قرية في جنوب اليابان، أي أنه من محيط الدائرة وليس من مركزها القريب من العاصمة. وأكثر من ذلك أنه ينظر إلى بلاده باعتبارها تقع في محيط الدائرة العالمية، بعيدا عن المركز. ويذكر أن اليابان كانت جزءاً من العالم الثالث في أواخر القرن التاسع عشر، وهو لا يخفي انتقاده الشديد لحكومات بلاده في الماضي، وخاصة في الظلم الذي لحق بكوريا والصين. وفي السينما يكفي أن نتذكر المخرج المتألق «أكيرا كوروساوا». ومن أهم أعماله فيلم «راشومون» عن قصة بهذا العنوان لكاتب عبقري قضى انتحاراً وهو في الخامسة والثلاثين، بعد أن ترك نحو 150 قصة قصيرة، فضلاً عن مقالاته النقدية. ولمعرفة قيمة هذا المبدع، يكفي أن نشير إلى أن الحكومة اليابانية خصصت باسمه جائزة أدبية للمبدعين المتميزين بين الشباب تمنح سنوياً في موسمين، الربيع والخريف. وتجدر الإشارة إلى ظهور عدد من المبدعين الشباب في مختلف الفنون، لا سيما الرواية، خلال العقدين الأخيرين. ولا شك أن إبداعاتهم تستحق وقفة مستقلة. واليابان مشهورة في فن الخط، واللوحات التي تتضمن حكمة أو قصيدة هايكو لا تقل أهمية وجمالًا عن روائع الأعمال التشكيلية والموسيقية. ولا يقتصر فن الخط على الرجال فقط، إنما يبدع فيه الرجال والنساء، دون أي تمييز. وسأتوقف قليلا هنا مع لوحة الموجة العظيمة للفنان هوكُساي (1760 – 1849) الذي عاش في طوكيو عيشة بائسة، ولم تتحسن أحواله إلا في أواخر أيامه بفضل رعاية ابنته له. وقد خلف هذا الفنان المبدع وراءه ثروة فنية لا تقدر بثمن. واللافت أن أكثر من رسام قام بتقليد هذه اللوحة، وإن لم يبلغوا مستوى مبدعها، وهي جزء من مئة منظر من جبل فوجي، مأخوذة من زوايا مختلفة. الربيع الياباني فصل الربيع معتدل ساحر، وخاصة مع قدوم موسم الساكورا، وترجمتها المجازية «أزهار الكرز»، مع أنها أشجار غير مثمرة، تبدأ تفتحها في الجنوب في أواخر فبراير وتنتهي في أواخر أبريل في الشمال. أما الصيف فمعظم أيامه محكومة بالرطوبة والحرارة، ولذلك تكثر فيه الإجازات، وفيه أمطار موسمية ولا يخلو من أعاصير. ويمتاز الخريف بجماله الرائع وألوان خضرته المتدرجة من الأصفر الذهبي حتى البني الحالك، مروراً باللون الوردي الفاتح والأرجواني الغامق وحتى البنفسجي. ويهتم كثير من اليابانيين بالفلك وقراءة خطوط الكف، وأبراجهم صينية سنوية، وليست شهرية كأبراجنا. وأخطر هذه الأبراج هو الحصان الناري الذي يتكرر كل ستين سنة، أي خمس دورات فلكية، وفيه يتجنبون الزواج والإنجاب. كما أنهم يمتازون بأناقتهم في ترتيب الأزهار وحفلات الشاي التقليدية. ولكن محبتهم للأطفال لا حدود لها حتى بين المجرمين. وفي كتابه «كوكورو»، أي: القلب أو اللباب، يروي «لافكاديو هيرن» قصة مؤثرة عن مجرم قتل شرطيا ثم قبضوا عليه وجاؤوا به إلى مسرح الجريمة، وحين رأى طفلًا رضيعاً على صدر أمه وعرف أنه ابن المغدور، انهار أمامه يمرغ وجهه بالتراب قائلاً للطفل إنه ارتكب جريمته من الخوف ولم يكن يقصد أن يحرمه من أبيه، وهو يرجو أن يقوم البوليس بإعدامه ليرتاح من أعباء جريمته. وربما كانت الزلازل من أشد الأخطار والكوارث التي تواجهها اليابان، إضافة إلى الأعاصير، وكذلك البراكين والانجرافات الثلجية، وإن كان خطرها بدرجة أقل وحدوثها أندر. ويمكن أن نضيف هنا المخاوف من الإشعاع الذري ومآسيه، وخاصة أن في اليابان ما يقارب 50 مفاعلًا ذرياً للأغراض السلمية. ونظراً لتجربتهم الطويلة وخبرتهم العلمية الواسعة في مواجهة المضاعفات الخطرة والآثار الصحية المستعصية ومعالجة ضحايا الإشعاع، فقد أبدت الحكومة اليابانية استعدادها لإرسال الخبراء والأطباء المختصين للإسهام بعلاج ضحايا كارثة تشيرنوبل في روسيا فور وقوعها. وحدوث الزلزال مخيف إلى أقصى درجات الرعب، وخاصة حين تعيش رهبته للمرة الأولى، وليس لك إلا أن تستسلم للعناية الإلهية، فليس أمامك أن تعمل أي شيء. وعبقرية الشعب الياباني استطاعت تصميم الأبنية بطريقة علمية عجيبة لمقاومة الزلازل، إلى أبعد حد ممكن، وإن كانت معظم البيوت الشعبية والريفية خشبية ومؤلفة من طابقين، والحرائق المحتملة هي أخطر ما يصيب هذه البيوت، إضافة إلى أخطار الأمواج المدية «تسونامي» إثر الهزات الأرضية التي تحدث في المحيط. وقد يكون خطر هذه الأمواج التي يبلغ ارتفاعها أحيانا عشرة أمتار أشد تدميرا من زلزال الأعماق. ولا يقتصر الخطر على الأبنية والمرافق، ولكنه قد يلحق بالصيادين الأذى والهلاك، خاصة أن اليابان تعتمد على صيد السمك اعتماداً كبيراً. الأعاصير أيضاً مخيفة، لكن الأرصاد الجوية تراقب تحركاتها وتحذر من أخطارها. وقد حاصرني الإعصار في أحد مواسمه يومين كاملين داخل السكن، وحين غامرت في الخروج لم تنفعني المظلة، بل كانت عبئاً ضاراً، رغم أن المسافة التي كان علي أن أقطعها إلى المقهى لا تأخذ عادة أكثر من عشر دقائق.. ولقد حسبتها دهراً. ومن المبادرات الشعبية الطيبة والجميلة، لدى حدوث أي كارثة، أن ترى أفواجاً من الطلبة والشباب وحتى الكبار، نساء ورجالا، يسارعون إلى التطوع والمساعدة العاجلة، دون إعلان أو طلب. وهذه المزايا الإنسانية تبين مدى محبة الشعب الياباني لعمل الخير والإسهام برفع الضيم عن كل مصاب. وإلى جانب هذا الاستعداد الطوعي للمساعدة، تراهم يواجهون كوارث الطبيعة بصبر جميل واستسلام قدري عجيب، دون شكوى أو قلق، لأن الحذر لا ينجي من القدر. وإذا كان لكل ظاهرة خطرة وجه إيجابي، فإن كثرة الينابيع الحارة في تلك البلاد تضفي على النزهات والرحلات السياحية مزيداً من المتعة والنشاط. ومن التجارب التي فاجأتني، وكنت متردداً كثيراً في خوضها مخافة الإصابة بعارض صحي، أن الوقت الذي يمضيه المستحم في تلك الأحواض الحارة تكسب الجسم مقاومة عجيبة للبرد. مرة كنا في يناير، والأرض مغطاة بالثلج، ولكن نصف ساعة من الاسترخاء في تلك المياه الحارة، كانت كافية لكي نعود إلى الفندق في جو من المرح والانشراح، ونحن نسير حفاة على أديم ثلجي، وتحت ندف الثلج المتطايرة.. وكنا جميعا نلف أكتافنا بمناشف عادية. خصائص يابانية لا ريب أن الجغرافيا والتاريخ كان لهما التأثير الأساسي الفعال في صياغة مزايا كل شعب وأحواله وعاداته وتقاليده. وموقع الجزر اليابانية على حافة آسيا وشاطئ ذلك المحيط العظيم فرض على الشعب الياباني حالة من العزلة والانطواء، وما زال علماء النفس والاجتماع يتناولون هذه الحالة في بحوثهم ودراساتهم، ويجرون مقارنات في السلوك والعادات بينهم وبين المجتمع الغربي. ومن أبرز الباحثين في هذا المجال الدكتور «تاكيو دوي» الذي أصدر كتابين هامين أثارا جدلا طويلا هما: «تشريح الاستقلال» و«تشريح الذات». وقد انطلق هذا الطبيب المتعمق في بحوثه من اللغة ومفرداتها، وخاصة ما بين باطن الإنسان وظاهره، بين الخاص والعام، وبين الداخل والخارج، أو بين الواجهة المكشوفة على الشارع العام.. وبين الح إن أهمية الفرد الياباني تتجلى في إطاره الاجتماعي ومدى انخراطه وانسجامه مع الجماعة أو الشركة التي يعمل فيها. وربما كانت هذه السمة في قوة الرابط الجمعي، على حساب المزاج الفردي، من بقايا خصائص الساموراي ومميزاتهم، باعتبارهم الرجال المقاتلين في عصر الإقطاع والحكم العسكري الذي امتد من 1192 حتى عصر النهضة الحديثة في 1868. وتشير المعاجم إلى أن كلمة ساموراي مشتقة من كلمة الحراسة، وخاصة حراس القصر الإمبراطوري. وإذا تجاوزنا مرارة الهزيمة في الحرب العالمية الثانية والسنين السبع من الحكم العسكري الأميركي، فإن السواحل اليابانية لم تواجه أي خطر خارجي إلا في أيام المغول، لكن الإعصار أو الريح السماوية «كامي كازيه» أسهمت في تدمير مراكب الغزاة في الحملتين، دون أن يغفل التاريخ عن بطولات الشعب الياباني وآلاف الضحايا الذين افتدوا بلادهم بحياتهم. وهذا عامل آخر من عوامل قوة اليابان وتماسك نسيجها الشعبي. ختاماً... لا بد من الإشارة إلى تفرد اللغة اليابانية بخصائص لا مثيل لها بين اللغات، إذ يكفي أن تعرف كلمات معدودة لا تزيد عن بضع مئات حتى تدرك خلاصة الحياة الثقافية اليابانية، ومن هذه الكلمات: القمر، طائر الكركي، حقل الأرز وطبقه وشرابه، تماثيل بوذا ومعابده وأضرحة الشنتو، جماعة زِنْ الصوفية، المياه الحارة، مسرح النو والكابوكي، الهايكو، الشركات، صرّة الملابس، صندوق البوليس، الحديقة اليابانية، علبة الطعام الجاهز، القطارات المزدحمة كالمعلبات، البحر المحيط بالبلاد من جميع الجهات، وهو مصدر الغذاء الموازي للأرز. ولعل هذا يتطلب موضوعا مستقلاً. هيكل بالياباني كانت النسخة الإنجليزية من صحيفة «يوميوري» تصلني في الخامسة من صباح كل يوم. وتشير إحصاءات الصحيفة إلى أنها توزع ما لا يقل عن 13 مليون نسخة باليابانية يوميا، وذلك بطبعتين صباحية ومسائية. والأستاذ محمد حسنين هيكل هو الكاتب العربي الوحيد الذي كانت مقالته الأسبوعية تنشر في تلك الصحيفة، في موازاة مقالة كيسنجر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©