السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سلمى مطر سيف... الرواية المبتورة

سلمى مطر سيف... الرواية المبتورة
18 مارس 2014 10:58
يمارس الغياب عنفا صريحا عندما لا يستطيع الآخرون أو الأشباه أن يحتلّوا هذا الغياب أو يزيحوه، فهناك وفي تلك الأمكنة الفارغة والرحبة، لا صوت يخترق الروح، رغم كل الضجيج الدائخ، والجَلَبة المزيّفة. هناك في الفراغات الصبورة والطيّعة، يصبح الغياب وتدا وعلامة وبرهانا، وكأنه يطرد العدم المتكاثر حوله، أو كأنه يخيف النسيان، بما ينفي النسيان ذاته. خرجت القاصة والروائية الإماراتية سلمى مطر سيف مثل رائحة النخل في قيظ الثمانينات، كي تشعل ساحل عجمان بسنا برق، وبضاعة سحر لم تنفد ودائعها حتى الآن، رغم كل الهجرات الضالة، ورغم هذا اليباس الطاعن في حنجرة البحر. تغيب سلمى أو مريم أبو شهاب ــ كما اسمها الحقيقي ــ عن الكتابة والاسم والصفة، ويكتسي غيابها أسىً من فرط شموله لا يُحَسّ: فلا قياس لجرحه، ولا وزن لقسوته، وكأن غيابها أثرٌ ينافس الأصل والتواجد، أو ذاكرة تتفوق على التجسّد والمثول. اختارت (سلمى) اسمها كما تختار أسماء الشخوص المنثورة في قصصها، فكانت محور هذه القصص أو القامات الهلامية التي كستها بعد ذلك كل الأطياف والظلال والحدوس، أسماء مثل (عشبة) و(دهمة) و(غريبة) و(حمامة)، فهي تختارها كأنها تقيم فيها، وتنثر حولها غبار الحناء والذهب، وبخور السرد والقول والحكاية. وهي معها في مجال اشتباك وتداخل وحلول، فلا أنداد ولا أضداد ولا منافسين في العلاقة بين (سلمى) وبين شخصياتها المأزومة والعُصابية والمفتّتة، فهي شخصيات لا تبحث عن فكاك جسدي أو خلاص نفسي، بقدر ما تبحث عن تفسير للعذاب (السيزيفي) ولضربات القدر المهلكة والعبثية والعشوائية، ومن دون ذنب أو جريرة، في أفق العرف الاجتماعي المعطّل، وفي صكوك الأذى لكهنوت المزايدين على قدسية الأنثى. ولعل في الصمت المبجّل الذي اختارته (سلمى) طوعا أو كرها، يبرز هذا الاحتجاج الغامض تجاه النهايات المغلقة، وتجاه العالم الذي لم يعد جديرا حتى بالقلق، العالم الذي أخذ شكله الأفقي المسطح، واستوى على ذلك! فلم تعد القيعان مغرية، ولا الحفر الأنيق مجديا، حتى الخيال أصيب بتلك العاهة الأبدية: الانصياع للقوالب والانحناء للشرط، كما أن المقاومة النبيلة للمبدع أصبحت بضاعة للشفاهة والاجترار والتهويم لا أكثر. ظهر اسم (سلمى مطر سيف) في الساحة الأدبية بعجمان والإمارات منتصف الثمانينات، متوهجا مثل وشاح من ضوء، وكانت القاعدة في تلك الفترة أن يتحول الضوء إلى ألق فائض ومؤثر وممتد، كانت الفتنة مشاعة، وكانت الأنامل تمارس حريقها الرائع في صقيع الكتابة دون أثر للرماد، ودون تعال وأستاذية وتشويه للحساسية الإبداعية المسكونة في النقاء، والذاهبة للمشهد الثقافي بعافية مذهلة، وادّعاء أقلّ. وحتى أواسط التسعينات، كان هذا الشغف الجارف والخلّاق منقادا لبوصلة الكتابة حتى آخر الحوافّ، وأكثرها تماساّ مع رعشة المغامرة، واستشراف الثمالة والخطر. سيرة الشرخ لم يكتب أحد مثل (سلمى مطر سيف) ولم يجرؤ أحد على تداول سيرة الشرخ، والأزمة الوجودية للفئات المسحوقة في المكان، كما فعلت هي، وكانت قصصها تلوب في المناطق السريّة والعذراء واللاممسوسة في المخيلة الشعبية، انحازت (سلمى) لرجفة الروح وتشققاتها، وكانت أول من تناول «السحرية المحلية» بكل ذلك الإشراق والدأب والعزف الطقوسي الحار والملتهب، وأول من انتقل بالقصة في الأدب الإماراتي من السهولة والضحالة والتقريرية، إلى التجريد الكابوسي والمتاهة السوريالية، ومن الوضوح والتكرار، إلى الفرادة المشعّة في الحلم والغرابة. لقد كان الشغف السردي والرصد الإنساني السحيق وملاحقة التفاصيل واختراق المأساة حتى العظم، هي ملمح وصوت ووخز الرياح الجديدة التي هبّت على مرقد المطمئنين، ودوّخت الذاكرة القصصية وجعلتها تترنح وسط مكاشفات ساطعة للسؤال والصدمة. كتبت (سلمى) قصصها برؤية حِرَفية وتداعيات موزونة ومركّبة، فتركت أعمالا جاهزة للسينما، حيث المشاهد القصصية المصاغة أساسا كسيناريوهات متكاملة، وحيث التقطيع والمونتاج والحوارات المكثفة والمعبرة، وتوزيع الزمن والمونولوج والفلاش باك والماضي المتقدم والحاضر المؤجّل، كلها عناصر سيمترية وبصرية متناغمة ومكتنزة في اللقطة والمشهد وحاضرة كلها في الحالات والأمزجة والسرد المتوتر، الهارب والمنجذب بين نار وفردوس. إنها أفلام فنية جاهزة تنتظر فقط من يقتنصها وينقذها من التناول السينمائي التقليدي، إلى آفاق مبتكرة يصبح فيها الفيلم راويا للتفاصيل الشعرية الكامنة في النص وفي فرضيات الصورة، وساردا للأسطورة الشعبية وللخيال الشفاهي في أخصب حالاته التكوينية والتجسيدية، كما في قصتي (ساعة وأعود) و(عشبة) والتي يبدو أن سلمى كتبتهما في حالة إشراق داخلي خاطف ومتجاوز لراهنية الزمان والمكان معا. وكانت قصة (عشبة) قد أذهلت حين صدورها مدير مهرجان «نانت» الفرنسي لسينمات العالم الثالث، في ذلك الوقت «فيليب جالادو» الذي تحمّس لها ولفكرة تحويل القصة إلى فيلم سينمائي قادر على المنافسة في أعتى المهرجانات الدولية، وهو الحلم الذي ظل معلقا في سماء التمنيات إلى اليوم! طغيان المكان لم تحصر (سلمى) نتاجها في المكان القصصي الواحد، ولا في الزمان الواحد، بل اشتغلت وبنهم غريب على جميع البيئات المحلية، وعلى الأزمنة المتداخلة والمتصادمة، وكان لطغيان المكان في بعض القصص تأثير واضح على تعميق حيرة ومأساة الشخوص، بدءا من البحر، ومرورا بالمدينة والفرجان القديمة، ووصولا إلى الصحراء والبيئة الجبلية المسكونة بالخرافة والميثولوجيا الشعبية المحالة دوما على الريبة والتوجّس ورهبة الغامض واللامرئي. لقد رمت (سلمى) الجمرة في البحر ومضت، تماما مثل ساحر القصيدة المحلية والمفردة الشعبية الإماراتية (راشد الخضر) الذي ترك ساحل عجمان يشتعل خلفه وفي يديه حفنة رماد ودموع وجراحات غائرة، عندما قال: طير شامي حلّ في سمرة يوم طار السمر هو شلّه عق لي وسط البحر يمرة واحترق ذاك البحر كلّه حدّدت (سلمى) خريطة البحر ودونها عطش كبير، وآلاف الكلمات المتربّصة في الغيب، ومشروع رواية لم يكتمل، ولم يكتحل بالنور والهواء، وكانت «الأرجوحة» هي الرواية اليتيمة والمبتورة التي لم تنشر منها سوى فصل واحد، ثم تماهت هي والرواية في لغز الانقطاع الممتد إلى الآن. تنقطع الرواية عن التنفس والظهور والنشر، لكنها تعيش في السرّ والتأويل والاحتمال، وتنقطع (سلمى) باسمها المستعار عن الأرض وعن رمال عجمان ومائها الشارب من عرق الظلال والنوافذ والأبواب والبيوت، كي تعيش في شبهة حياة وطفولة، وشبهة وجود، ولا فاصل بين الرواية و(سلمى) لأنهما تقيمان في المنطقة ذاتها من النأي والكتمان، وفي الحيّز ذاته المسوّر بالضباب، وبذلك الفراغ المنزلق والمتداعي في البياض دون توقف. أصدرت سلمى عدة مجموعات قصصية مهمة مثل (عشبة) و(النشيد) و(هاجر) وفي قصة (ساعة وأعود) تقول «غريبة» لوالدها الغريب الأطوار الذي حبسها طوال عمرها في المنزل الضيق: «سأخرج ساعة وأعود»، ثم تخرج من فوهة الباب ولا تعود. لقد خرجت كي تستفرد بمجهولها الشخصي، وتكتشف أنوثتها المنسية، خرجت «غريبة» كي تلتحف المتاهة الكاملة، وتدخل في رعب الخلاء، وغموض الدروب التي يطيلها الخوف، هروبا من القمع الخارجي وبكل أشكاله، ولجوءا للخلاص، مهما كان هذا الخلاص مقرونا بالشتات والمرارة والتلف، وبالألم الذي له ألف وجه وألف قناع وألف ذاكرة، ومن مفارقات الصدف أن تخرج سلمى مطر سيف من فوهة الأمكنة القاحلة والمتكررة كلها، إلى فضاء يخصّها، وإلى عزلة جامحة واعتزال أخضر. لقد خرجت الغيمة من البحر... وانهارت النخلة في البيت القديم، وما عاد الساحل بيتا للحالمين، ولكن هل يمكن للحلم نفسه أن يعتزل؟! وهل يمكن للآبار أن تستقيل؟!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©