الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبوظبي.. كريستالة الصحراء

أبوظبي.. كريستالة الصحراء
25 مايو 2016 21:34
لينا أبوبكر الرحيل إلى الصحراء «مشوار» صعب وناءٍ يضعف أمامه الجبناء، أما الشجاع فيسير إليها حافي القدمين كي يتدرب على مواجهة قوة القسوة بقسوة القوة، ويتمم وحدات الانسجام الثماني التي تبطل تركيبة التناقض مع الاحتفاظ بمفعول المفارقة، لأن التغلب على الطبيعة لا يعني إخضاعها بقدر ما هو اكتشاف سحر المرونة الكامن في عقار تبرها الذهبي وعزيف إكسيرها البلوري... تلك هي «بوابة الرب»، كما وصفها البابليون، فدحضوا عُقدة التيه عند العبرانيين الذين تخبطوا في تشرذمهم الدلالي لما رأوا فيها مثوى لعزرائيل، بعد أن تاهوا في شعابها أربعين عاماً، وهذا ما يفسر حقدهم على ابن البادية، مما أدخلهم في تيه المعنى، فتضارب مع رؤية كتابهم المقدس للصحراء كطبيعة أسطورية وطريق للخلاص، تفجرت صخورها لهم ينابيع ماء وتنزل عليهم المن والسلوى من موائد السماء، وظللتهم غماماتها البيضاء، فهل تلومهم على نقمتهم على العقوبة؟ أم تتأمل عصيانهم من طمع بالصحراء؟ الصحراء ملتقى الأرض بالسماء، منذ الطور وحتى حراء، يمور كثيبها بعراء فسيح يتمطى نحو الأفق حتى يلامسه دون أن ينكشف، على العكس تماماً، فإن في عرائها غموضاً مُعجزاً، وجيباً سماوياً خبيئاً تحت رمالها، ورغم تصاعدها الأفقي، فإن أساطيرها وحكاياها وسكانها ومدنها التي لم يخلق مثلها في البلاد، تستقر في باطنها كلغز عصي أو طيف ضوئي يراوغ قمراً إلكترونياً يسترق النظر إليها من علٍ! لقد ضاع «روبرت بوغوكي» في أقصى منطقة على وجه الأرض: الصحراء الرملية الأسترالية، فالخارطة لم تكن كافية لتدله على ممشى الرمال فوق سلم انكسار الضوء، بقدر ما هو حسبان الظمآن الذي يتلوى بين طراوة المخيلة وخشونة اللفح بما يستمده من الصحراء من قوة روحانية وسلام داخلي مكنه من اجتياز أكثر من أربعمئة كيلو متر سيراً على الأقدام.. وبين العزلة والعزلة، يبحث الرحالة عن أجوبة لأسئلة الخاطر، وحين يعثر على بصيص راحة، يبكي كطفل في أحضان المكان، كأن الصحارى أمهات الأمكنة.. بلورة العذراء البحر من ورائك، والسماء من أمامك، وما بينهما مدينة الضوء التي نحتت من حجر الكريستال أثرها المعماري، لتحاكي هيبة الصحراء برقة البريق وصلابة الاحتمال، وما يحتمله الحجر من دلالات تتماهى مع بعدها الفلسفي في علم الطاقة ومعرفة الذات. جزيرة الماريا في أبوظبي، بكل ما تعكسه من تقنية حديثة في الأسلوب المعماري المتقدم لم تتخل عن جوهر الارتباط بروح الصحراء وهي تواشج بين ألواح الزجاج والحبيبات المعدنية التي تتكون منها عباءة الرمل، في نسق كريستالي أنيق مرتكزة على قوة الحجر بإمداد البشر بالطاقة الإيجابية لتخفيف أثقال التوترات النفسية وأعباء الحياة، مستلهمة من صحرائها حكمة الهدوء الروحي وضبط النفس وتطهير العاطفة... إنها جزيرة الشفاء إذن، تستقبلك بوجهها البلوري ثلاثي الأبعاد، لتدخلك في شبكتها البلورية ونظامها التناظري الذي يعكس بنيتها المرآتية فكأن المدينة مرآة السماء. عند شروق الشمس تشرع الجزيرة باللعب مع الضوء حتى لتبدو معملاً لانكسار الطيف أو حقلاً لانفلات الأشعة في مجال حسي حر، يتسربل إلى الباطن تدريجياً فما أن يهبط المغيب حتى يتحول إلى نور ذاتي يشف ولا يصف كمرآة السُّراة عند اكتمال القمر..فتبدو الماريا لؤلؤة عذراء تنهمر من دمع المحار فوق مناديل الصبايا في خدر الخفر.. خيمة البلور كان لورانس العرب واهماً حينما ظن أن بمقدوره أن يعثر على «أوبار» بمعونة المعرفة بعلم طبقات الأرض والآثار والاستعانة بخرافات البدو وتمائم الأسطورة، لأن مواطنه الرحالة «ويلفورد ثيسجر» أثبت بطلان وهميته، بيقينه عندما عول على روح الصحراء أكثر من الإعجاز التقني للعلم، ورغم كل المحاولات الاستكشافية لاستنباط أسرارها وسبر أغوارها.. رأى فيها أرضاً بكراً، وهي بالمناسبة خواص العفة التي تتبادلها الصحراء مع عذراواتها، فلا تريق دم عقيقها على سرير الغرباء... يا إلهي..إنها سر من أسرار الوجود، رغم انطلاء حيلة العدم على من تاهوا في مجاهيلها وجرؤوا على تحديها أو الاستكبار على بدائيتها في عصر الفضاء الذي يلهث وراء صحراواته الكوكبية علماء الفلك الذين حلموا بغزوه فقط من أجل التجديف بكاميرات أقمارهم الصناعية تحت رمال الصحراء العربية التي أبت أن تسمح لهم بفك إزار قميصها اليوسفي أو مراودتها عن عفتها، لأن الفارق بين الاكتشاف العلمي واختراق خصوصية المكان وإصراره على الاحتفاظ بغواياته وغموضه وأسراره بسياج المجهول وأسلاك الطبيعة الشائكة هو تحديداً ما يجعلها عصية على المنال، وشهية كمستحيل لا يطال كأنها خيمة الآلهة المحروسة بمطارق البلور وسيوف اللهب المنثال من معبد الشمس. حتى لتكتب مصيرها بين حسنيين: فإما القتال على طريقة أذينة التدمري، وإما الحيلة على طريقة الحارث النبطي الذي سخر التيه لتضليل الغزاة. صومعة الكريستال الصحراء صومعة تعتكف فيها السماء...وفيها تنزلت أول لغة في تاريخ الخليقة: لغة الله، وبين فتنة الخشوع وسحر الخوف، تدهشك بركتها وتخض دمك لعنتها، لتختصر لك كل فيافيها المترامية وبواديها العنقودية المتشظية من محيطها إلى خليجها بصومعة واحدة قدت من حجر الشمس وستائر القمر، إنها كريستالة الصحراء: أبوظبي. تأكد أن الكتابة اضطهاد قهري للذات، طالما أن اللغة هوس لإغاظة الغربة ببارانويا الغياب، شيء أشبه باعتلاء هودج التفاحة فوق منافذ العبور إلى حُفر الباطن، للذود عن خطيئة الجاذبية... وكرمى لهذا القهر أرتكب القصيدة: صحراءُ ريّا تُكمّي الريقَ إنْ عَذبا تُمَنِّعُ السحرَ لو تَعْفافها رَغِبا حَسْناءُ منْ طَمَعٍ في نفسِ سالِبِها وَهَلْ تلومُ الذي بِالحُسْنِ قد سُلبا؟ عَذراءُ، مِنْديلُها بالجُرْحِ مُخْتَضبٌ وَوَردُها بِكْرُ، في كَفِّ الذي اغْتَصَبا أُمُّ الحَضارَةِ أولى المَشْرِقَيْنِ، أَدِرْ بِالرَّمْلِ ساعَتَها كَيْ توقِظَ الْحِقَبا مِنْ أَوَّلِ الخَلْقِ قبلَ النّاسِ كُلَّهِمِ البَدْوُ في إِرَمٍ قدْ طاوَلوا السُّحُبا هُمْ عَمّروا الأرْضَ في تَطْوافِهِمْ فَبَنَوْا جَنّاتِ بابلَ وَ البَتْرا وَمُلكَ سَبا عَروسُ صَحْرائِهِمْ في تَدْمُرَ اخْتَطَفَتْ مِنْ فِتْنَةِ الشرْق ما مِنْ لُبِّهِ خَلَبا والرُّبْعُ خالٍ وفي كُثبانِهِ دُرَرٌ تَنوبُ عن قُرْصِها في اللّيْلِ لوْ غَرُبا قُصورُها مِنْ رِمالٍ تبْرُها ذَهَبٌ اللهُ، يا رَمْلَها كَلّلْتَها ذَهَبا! الشرقُ يا دَوْحَةَ الجَنّاتِ يَعْبُرُها درْبُ الْحَريرِ – كَشال الماء- مُنْسَرِبا صحراءُ مَغرِبِها سجّادةٌ فَرَشَتْ للشّمْس جِسْراً تُمَشّي فوْقهُ الهُدُبا دار الظباء سياج النخل... يحرسها والنَّخْلُ «ياما» منَ النيليْنِ قدْ شَرِبا يا سَنْدِبادُ، أَما في حُبِّها خَطرٌ أقوى مِنَ الموْتِ لوْ أَعْتى أَوِ اضطرَبا؟ سَلْ جارَةَ البَحْرِ عنْ إيلافِ رِحْلتِها يا جارَها، خُنْتَ؟ أمْ خانتْ هِيَ العَرَبا؟ تصبو لجَنَّتِها، تفاحة حَرُمَت فَأَيّ ذَنْبٍ بِحُبِّ الجَنّةِ ارْتُكِبا؟ تفاحها الوَشْمُ مَنْقوشٌ بِكُحْلَتِها مَنْ جَرَّبَ الوَشْمِ عافَتْ نفسُه النُّدُبا حورِيَّة البَرِّ ما لا عيْن قدْ نَظَرَت كأنَّما الوَصْفُ في إعجازِها كَذِبا! لأنّها أَوّلُ الدُّنْيا فَإنَّ بِها مِنْ أوَّلِ الخلقِ أُمًّا لِلدُّنا، وَ أَبا كلُّ الرِّسالاتِ في أقوامِها نَزَلتْ كَأنَّها وَطَنٌ لِلْمُنْتَهى رَحُبا عَظيمَةٌ قَدْرَ ما في أرضها رُسُلٌ واللهُ ما غَيْرها للنُّخْبَةِ انْتَخَبا أَرْضُ القِيامَةِ، مَهْدُ الأنْبِياءِ، تُرى مَنْ مِنْهُما – أَوَّلاً- للآخَرِ انْتَسَبا؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©