الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«مجنون» محمد العامري.. نص موجع يدين الاستبداد وكارهي الحياة

«مجنون» محمد العامري.. نص موجع يدين الاستبداد وكارهي الحياة
23 مارس 2018 00:09
إبراهيم الملا (الشارقة) لا يشكّل الجنون خطراً، إلّا في حدوده الضيقة، المقرونة بالأذى العابر، ولكن ما أن يتعدّى الجنون خطه ومساره، ويبثّ القلائل في أوساط المتنفّذين والمستفيدين من تشوهات المجتمع وغيبوبته، حتى يصبح الموصوف بالجنون متهماً ومداناً، وقد يساق لمحاكم تفتيش فكرية وعقائدية، تنبش في ماضيه، وحاضره، بل ووضع المآلات المستقبلية لصنائع المجنون وتصرفاته، تحت مجهر البحث والرصد والتنبؤ. يؤسس المخرج محمد العامري، عرضه المسرحي «المجنون»، انطلاقاً من هذه الفرضية الشرسة والصِدامية، ويبني عليها ما استلهمه من نصّ «المجنون» لجبران خليل جبران، وما صاغه الراحل قاسم محمد في إعداده لسيناريو «المجنون والعدل» المستند كذلك على نص جبران، لتشكل ثلاثية النص، والإعداد، والإخراج، معماراً فائضاً بالأخيلة والشخوص والأسفار الروحية والتاريخية، والرؤى الفلسفية، والإضاءات الشعرية، والعزف الدامي على أوتار الأسئلة العميقة حول الخلق، والوجود، والكون، والإنسان، وثنائيات النور والظلام، والموت والميلاد، والبصيرة والعماء. ينقل العامري كل هذا الاحتدام المعرفي والجدل الذهني، إلى خارج العلبة المسرحية المعتادة، مخترقاً الإطار النمطي، ومشيّدا منصته الخاصة الملاصقة للجمهور، والقريبة جدا من حواسّه، وكأنه يقول: «إن المجنون العاري، المنتهك، المحطم، والعارم أيضاً، الذي أعرضه عليكم، هو شبيهكم وتوأمكم، هو صوت أنفاسكم، ومقياس تفسيراتكم، هو الساكن فيكم، والمنبعث من رؤاكم وكوابيسكم». يبدأ العرض بفضاء معتم تماما، يتوسطه جهاز تلفزيون مشوّش، ينسحب ببطء إلى سلة مهملات كبيرة لتختفي صورته المربكة وصوته المؤذي، في المشهد التالي مباشرة تحتل مجموعة من الأشخاص الكراسي المحيطة بالمنصة السوداء، ليصرخ كبيرهم: «من هو؟ من هو؟ كي يعكس مسارات الكون؟ وينبش جحور أسئلة يصعب تبيانها». ويتناوب الأعضاء الآخرون في المحكمة بطرح الأسئلة الإشكالية لمعرفة ماهية المجنون الذي حلّ عليهم بلعنته، وأربك حساباتهم، بإثارته مواضيع لا يجوز التطرق لها، وقيامه بتصرفات لا تنمّ عن جنون، بل عن وعي مستتر وغامض، يمكن أن ينتشر، ويصبح واقعاً خطراً يصعب التحكم به فيما بعد. يتم استدعاء المجنون (مروان عبدالله صالح) إلى منصة المحاكمة وتنهال عليه الأسئلة مجددا، كي يكشف للمحاكمين عن نواياه وخططه، وليوضّح لهم إن كان مجنوناً حقاً، أم يدّعي ذلك تهرّباً واحتماءً من أية إدانة. ومن خلال التماهي الذكي مع نصّي جبران، وقاسم محمد، يبدأ العامري في إطلاق جنونه الشخصي ومغامرته الأسلوبية على حلبة العرض، التي بدت ضيقة في مساحتها، ولكنها فسيحة وهائلة في بعدها الافتراضي الممتد في العصور والأزمنة، والتواريخ والأمكنة، في الحقائق والخرافات، والألم والخلاص، والخديعة والهداية. ليأخذ معه الجمهور إلى مختبر أصوات وحوارات وأداءات غاية في الحداثة المسرحية، والمزاوجة السينمائية، زاجّا بمحاكمة المجنون إلى قلب الفوضى المحيطة بنا، محاكمة سوف تدير سهامها نحو كل المستبدين، والجلادين، وكارهي الحياة، والمنتمين حتى العظم لزيفهم وأنانيتهم، لأحافيرهم الفكرية، ومنابتهم الظلامية، ونواياهم العدوانية. تنتهي المحاكمة بإصدار عقوبة تجمع بين القسوة الحسية والمعنوية، حتى لا يتكاثر نسل هذا المجنون، وحتى لا ينجب أبناءً وأحفاداً يرثون غريزته المستنيرة، المهددة لمكاسب محاكميه وجلاديه، ورغم تنفيذ العقوبة المعنيّة بتحطيم المجنون ذاتيا، وتفتيت ما تبقى لديه من وعي متوثّب ومتجاوز، إلا أنه يقف في وسط المنصة عالياً وشامخاً ليقول لهم: «سيكون لي أبناء من ضوء وظل، وأحفاد من تراب وهواء، سيرتدون ثوب الفجر، ولون البحر، ورائحة المطر، سينتشرون بينكم، سيكبرون مع الأشجار والحقول، والظنون والندم».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©