الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

داء التقليد والتعصب الشديد!

2 مارس 2015 22:46
كان مالك رضي الله عنه يوصي طلابه وأتباعه بأن ينظروا في كلامه فما وافق كتاب الله وسُنة رسوله أخذوا به وإلا ردوه، كما كان يقول «ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وفي رواية أخرى للإمام الشافعي: «إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي الحائط»، وقال يوماً للمزني: «يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك بنفسك...»، وقال سعد بن حنبل لرجل «لا تقلدني ولا تقلدن مالكاً ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا»، وهذه قمة في التسامح، وقمة في الاعتراف بالنقص، وقمة في الأخذ بكلام الآخر إذا كانت حجته أقوى.. ومن الحقائق الثابتة في تاريخ الأمة الإسلامية وتاريخ البشرية أن الناس مختلفون في تفكيرهم، فالإنسان كما يقول الإمام محمد أبو زهرة من وقت نشأته أخذ ينظر نظرات فلسفية إلى الكون فلابد أن نقول، إن الصور والأسئلة التي تثيرها تلك النظرات تختلف في الناس باختلاف ما تقع عليه أنظارهم وما يثير إعجابهم، وقد قال أفلاطون: «إن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه ولا أخطأوه في كل وجوهه، بل أصاب كل إنسان جهة، ومثال ذلك عميان انطلقوا إلى فيل، وأخذ كل منهم جارحة منه فجسّها بيده، ومثلها في نفسه، فأخبر الذي مس الرِّجل أن خلقة الفيل طويلة مستديرة شبيهة بأصل الشجرة، وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته تشبه الهضبة العالية والرابية المرتفعة، وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه وينشره، فكل واحد منهم قد أدى بعض ما أدرك، وكل يكذب صاحبه، ويدعي عليه الخطأ والجهل، فيما يصفه من خلق الفيل، فانظر إلى الصدق كيف جمعهم، وانظر إلى الكذب والخطأ كيف دخل عليهم حتى فرقهم..»، ولذلك كان سقراط يقول: «إذا عرف موضوع النزاع، بطل كل نزاع». ومثل المتناسي لضرورة قبول الآخر كمثل أولئك الذين وصفهم ابن خلدون في مقدمته عندما تحدث عن أناس يتلذذون بتغيير حقائق التاريخ أو الخوض فيه دون الإلمام بقواعده حتى زلت أقدام الكثيرين، وعلقت بأفكارهم مغالطات، ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضاً كذلك من غير بحث ولا رويّة واندرجت في محفوظاتهم.. فالكثير ممن يشعلون الفتن الطائفية في بعض الدول العربية ينقلون إلى عوام الناس أموراً واهية لا يرجعون حقائقها إلى الأصول الصحيحة المبنية على الرحمة، وقبول الآخر والحوار البناء والمجادلة بالتي هي أحسن. وليس الطلبة الذين عايشوا مالكاً وأبا حنيفة والشافعي، وأحمد بن حنبل مثل طلبتنا اليوم الذين إما لم يسمعوا عن اتساع صدورهم للمذاهب والأفكار الأخرى، أو إذا سمعوا وقرأوا استبصروا، ولكن قليل ما هم.. فقد يخطئ الإنسان، وقد يصيب، والرسل وحدهم منزهون عن الخطأ، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن مالكاً وغيره كانوا واعين بخطورة التشبث بالرأي الواحد، وخلق أتباع يرفعون القلم والسيف بمجرد ما يفند الرأي برأي آخر أقوى أو بحجة ثابتة، وهذا وللأسف الشديد وقع في بعض العصور ويقع في يومنا هذا، ولذا كانت الضرورة ماسة لإرجاع العقل إلى سماحة الدين وسماحة أتباعه وتجذير تلك المسائل في عقول وأذهان طلبتنا منذ نعومة أظفارهم. فما أحوجنا إلى أن نرد الأمور إلى أصولها الحقيقية الصافية والسهلة (إن الدين يسر)، فتقليد البعض ومحاكاتهم من غير نظرة عقلية مجردة قد تغلق باب الاجتهاد. وإن نزعة التقليد متغلغلة في نفوس الناس توجههم وهم لا يشعرون، وإن بعض الأفكار التي اكتسبت قداسة موهومة بمرور الأيام تسيطر على القلوب، فتدفع العقول إلى وضع براهين لبيان حسنها وقبح غيرها، ومن الطبيعي أن يدفع ذلك إلى الاختلاف والمجادلة غير المنتجة لأن كل شخص يناقش وهو مصفّد بقيود التقليد من حيث لا يشعر، وهذا هو دأب «القاعدة» اليوم و«داعش»، وكل الجماعات السياسية الدينية المسلحة. وإنه ينشأ عن التقليد التعصب، فإن توهّم قدسية الآراء التي يقلدها الشخص قد تدفعه إلى التعصب لها، وحيث كان التعصب الشديد، كان الاختلاف الشديد المقيت الذي يغلق أبواب التفاهم والحوار. د. عبد الحق عزوزي* * أكاديمي مغربي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©