الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تجليات الوسائط

تجليات الوسائط
12 ابريل 2017 19:03
في أواسط الخمسينيات، طرحت مسألة الوسائط في الفن السردي، إلى جانب طروحات أدبية أخرى، أمثال شخصية البطل الرئيس ولغة السرد ولغة الحوار... وكان قد ظهر بـ«العربية» كتاب هنري لوفيفر «في علم الجمال» وفيه مناقشة رصينة لمسألة الوسائط، التي تشمل كل ما هو قائم بين طرفين متناقضين: بين البطل والشخصية السلبية، بين الخير والشر، بين الشجاعة والجبن... بدرجات متفاوتة جداً، وليست ثابتة كفضيلة أرسطو الأخلاقية. وجرى نقاش واسع في الندوات والبيوتات الخاصة والجامعة والإذاعة، حول المسائل المطروحة: هل الوسائط ضرورية أم أنها مرهقة للقارئ، ومسيئة للفن القصصي والمسرحي؟ وهل اللغة الفصحى التي تصلح للوصف تصلح للحوار؟ وهل المشاهد الفرعية مفيدة في عملية السرد؟... وبما أن الزمن كان زمن فورة التيار اليساري، خاصة التيار الماركسي، فقد اختلطت النظرات الحزبية بالنظريات الأدبية. كانت الآثار الأدبية التي جرى عليها النقاش- في ذلك الوقت- هي لعادل أبوشنب وفارس زرزور وحسيب كيالي وشوقي بغدادي... وغيرهم من داخل ومن خارج سوريا. ولما صدرت مقررات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، غدت منطلقاً للكثير من أدباء اليسار ومنظريه، حتى أن أحدهم طرح فجأة قضية الإجهاز على البطل، فلا بطل إلا الشعب، وما البطل سوى نوع من «عبادة الفرد» التي تحدث عنها خروشوف في تقريره السري ضد ستالين. وذهب بعضهم، ممن هو أكثر دغماطية، إلى أن الوسائط مفردة من مفردات الإنتاج الرأسمالي، فالرأسمالي الكبير يجعل لبضاعته «وسائط» في الأسواق، بحيث تنفق البضاعة بسرعة، ويظل هؤلاء الوسائط أشبه بأتباع، فالعملية بحد ذاتها عبارة عن استعمار داخلي، لا يختلف عن الاستعمار الخارجي، ولذلك يجب إلغاء هذه الوسائط، كما تم إلغاء الوسيط في عملية الإنتاج والتوزيع في النظام الجديد للاتحاد السوفيتي. وبعض هذا البعض شبه الوسائط وعلاقتها بالبطل بالمتروبوليت والتابعيات، أي لا يخرج عن أن يكون نوعاً من الإلحاق أو الاستعمار. وعندما يذكرهم أحد أن الكتب الجديدة من الاتحاد السوفييتي كرواية «الحرس الفتي» أو «زويا وشويا» أو «الأوبكوم السري» أو «قصة رجل حقيقي»... تعتمد الوسائط، كان رد المتحمسين، هذا من بقايا أدب الوساوس والأمراض العصبية، أدب دستويفسكي، وكان أدبه ممنوعاً منذ فترة طويلة... ولم تستفد الحركة الأدبية في ذلك الوقت من النقاش الرزين لهنري لوفيفر. وسنكتفي بالأمثلة التالية للوسائط في الأدب والسياسة. تيرسيتيس في الإلياذة لن يجد القارئ أروع ولا أبدع ولا أكمل من شخصية تيرستيس Thersites في الإلياذة، فهي التي مثلت مسألة الأوساط وأهميتها في عملية السرد. فعن طريقها عبّر هومر عن رأي القطاع الأوسع من الشعب في القادة العسكريين، مفسدي الحياة وأعداء الديمقراطية، الذين باستيلائهم على السلطة يفعلون ما كانوا يستنكرون. وروعة الإلياذة أنها قدمت تيرستيس بأوصاف وضيعة لتدل على الطبقات والفئات التي يمثلها. يصفه هومر بأنه قصير القامة محني الظهر، يظلع في مشيته لتقوس ساقيه، ولأن إحدى الساقين معطوبة، ورأسه صغير وليس له من الشعر سوى خصلة في أعلى رأسه المدبب، وهو دائم النقار والخصام مع أوديسيوس وأخيل، ولا يتلفظ إلا بالألفاظ البذيئة الداعرة. وعندما تشتد الخلافات ويحرد أخيل لتصرف أغاممنون الشائن ويرفض المشاركة في الحرب، يهم الكثير من القادة إلى الانسحاب والعودة، لأن النبوءة ربطت النصر على طروادة بدخول أخيل الحرب، وهنا تتدخل الربة أثينا على شكل أحد القادة، وتتحدث مع أوديسيوس وتحضه على منع القادة من الانسحاب من الميدان والعودة إلى اليونان. إنه مشهد من أخطر المشاهد في الإلياذة، ونقطة تحوّل خطيرة. هنا يتدخل تيرسيتيس وكعادته في الكلام البذيء يقول: «ما الذي يزعجك يا أغاممنون الآن، وماذا تريد أكثر من ذلك؟ خيامك مليئة بالبرونز وبالنساء الجميلات، وكلما استولينا على مدينة نعطيك الكثير منهن. أليس لديك الكثير من الذهب، الذي قدمه إليك أحد الطرواديين فدية لابنه، بينما مَنْ أسره هو أنا أو أي شخص من الآخيين؟ أم لديك فتاة تخبئها وتضاجعها؟ ليس لائقا بك، أنت حاكم الآخيين، أن تجلب لهم كل هذا البؤس. أيها الجبناء الضعفاء، أنتم أشبه بالنساء من الرجال، دعونا نبحر إلى أوطاننا، ونترك هذا الرجل هنا عند طروادة حتى يتمتع بغنائم تكريمه، ويكتشف فيما إذا كنا نقدم له الخدمات أم لا. انظروا إلى أخيل، إنه أفضل منه، وتأملوا كيف عامله- انتزع منه جائزته، الفتاة الجميلة، واحتفظ بها لنفسه. عامله أخيل بمودة، ولم يلجأ إلى الحرب؛ ولو حاربك لما كنت يا بن أتريوس تهينه مرة أخرى». هكذا راح تيرسيتيس يشكو، إلا أن أوديسيوس هب إليه مباشرة يوبّخه توبيخا شديداً. قال: «ضب لسانك الثرثار، ولا تقل أي كلمة أخرى. لا توبّخ الأمراء عندما لا أحد منهم يدعمك. ليس هناك من مخلوق خسيس جاء أمام طروادة مع ابني أتريوس...» وهنا ضربه بصولجانه على قفاه وكتفيه إلى أن ترنح وسقط باكيا. وارتفع الصولجان الذهبي داميا عن ظهره، حتى أنه جلس صارخا من الألم، فبدا كأحمق وهو يمسح دموعه من عينيه...أ هـ. [النشيد الأول من الإلياذة 200- 275 من ترجمتنا] هذه شخصية وسيطة، أو كما اعتدنا أن نقول «شخصية ثانوية» يمكن حذفها من غير أن تغيّر الإلياذة اتجاهها العام، ولكن تصوّروا العمق الذي وصل إليه هذا الشخص البسيط المشوّه، عندما اتهم العسكر بأنهم يقاتلون للغنائم ويقتتلون على المقاسم، ولا نجد أبلغ من هذا الكلام في وصف الطغمة العسكرية التي عرفتها بعض بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. إن الوسائط في الأدب، كما في غيرها لا تقل أهمية عن كل ما هو رئيسي في المادة الأدبية، أو الحياتية، أو المجتمعية... إنها تلك اللحمة التي تمسك القماش الفني، وقد تمرّ على لسانها مواقف أهم بكثير مما نجده عند البطل، فلولا تيريسيتس لما عرفنا موقف اليونانيين من العسكر، ومن موقف رجل أشوه عمل جندياً لسد العوز. ويذكر القارئ تيريسيتيس في مسرحية شكسبير الطروادية «ترويلوس وكريسيدا» ولكنه هناك يظهر كعبد لأجاكس، وهذا- إذا كان يقصد الشخص ذاته- يتناقض مع الأعراف اليونانية، فالحرب يقوم بها النبلاء، ولا يشارك فيها العبيد. بالطبع لن ننسى براعة شكسبير في استحداث الأوساط لخلق هوامش تحريك الأحداث الكبيرة، بيد أن اليونانيات عند شكسبير ضعيفة جداً، وربما كانت السبب وراء تفلته من القواعد المسرحية. الكاهن والشاعر في الأوديسة هذا المشهد الذي سنقدمه قصير جداً. نجده في الأوديسة، بعد أن نجح أوديسيوس في شد القوس وإطلاق السهم الذي نفذ من الحلقات، حيث يجري الانتقام من خاطبي زوجته بنيلوبي، الذين دنسوا حرمة قصره. كانوا من كبار القوم، ينتظرون من بنيلوبي أن توافق على خطيب، أو توافق أن تخطب، فتجري القرعة بين المتنافسين، وما أكثرهم، بل إن اجتماعهم في القصر الملكي جرّ معهم الكثير من المتطفلين. وتبدأ المعركة بعد إغلاق الأبواب، ويلقى الجميع مصرعهم، ويبقى أمام بطلنا اثنان كاهن وشاعر، راح كل منهما يتضرع ويتوسل ويدلي بعذره أمام البطل طالباً الصفح والعفو... مشهد هامشي لو حذف لما أثر في المسار العام للملحمة، ولكن بعد أن يقتل الكاهن، لأسباب يصرح بها، ويعفو عن الشاعر، أيضاً لأسباب يصرح بها، لا بد أن يدرك القارئ مدى العمق الذي أوصلته إليه هاتان الشخصيتان الوسيطتان في هذا العمل الأدبي، إذ يظهرُ موقفُ الإغريق من الدين والأدب ظهوراً بارزاً جداً، وصريحاً جداً لا يحتاج إلى تفسير ولا إلى تأويل. هناك الكثير من هذا النوع الوسيط، يغوص إلى أعماق العاطفة الإنسانية، كراعي أوديسيوس وكلبه ومربيته التي تعرفه من الندبة في ساقه، والمتسوّل الذي اعتلق معه بتعليمات من الخاطبين. الوسائط في مسرح العبث مرّ المسرح في العصر الحديث بمرحلة صار يطلق عليه «مسرح العبث»، وهو مسرح تندر فيه الوسائط ندرة كاملة أو شبه كاملة، وفي طليعته أداموف ويونسكو وصموئيل بيكيت... واكتسب هذا المسرح شهرة عريضة أول الأمر، فقد طرح موضوعات ذات أهمية كبيرة، كلها تطرح قضايا أشبه بالدوائر المغلقة التي لا حلّ لها. فالزواج للسعادة، فإذا هو تعاسة، والاختراع للمتعة فإذا هو للإذلال والتبعية... والطب للصحة فإذا هو للجنون... وهكذا. ففي مسرحية «في انتظار غودوت» لا يوجد وسائط، وإنما عبارة عن شخصيتين تنتظران غودوت، بأمل وشغف، ولكن تنتهي المسرحية والأمل لا يتحقق، وفي «لعبة النهاية» زوجان في أواخر العمر يثرثران في غرفة صغيرة... وهكذا. ومع أن العبث مرحلة مرت وانقضت، إلا أن الفن السردي الحديث- حتى الآن على الأقل- لا يولي الوسائط تلك الأهمية القديمة، وإن كانت الحياة تعتمد في ركنها الأساسي على الأوساط. الوسائط في السياسة لا يمكن أن يستمر مجتمع من المجتمعات إذا جرى القضاء على الوسائط فيه. هذه الوسائط هي التي تمسك المجتمع، وهي محور أي سياسة، بل يمكن القول إن السياسة تنجح أو تفشل بحسب الموقف من هذه الوسائط. والوسائط في المجتمع هي تلك النوادي والجمعيات والمنتديات الأدبية والفنية والخيرية والنسائية والحرفية والتوعية، وتشمل نواحي المجتمع المعنوية من أدب وفن وفلسفة ورياضة ورسم ونحت... باختصار كل ما يطلق عليه المجتمع المدني... ففي هذه الوسائط يجد المجتمع نفسه ويعبر عن ذاتيته من دون قمع ومن دون أي احتقان. وفي المعايير الحديثة اليوم لا تقاس أنظمة الحكم إلا بمقدار ما هناك من الوسائط، أي من نشاط لمكونات المجتمع المدني؛ لأنها بتنوعها وتنافسها تتسابق إلى القيم النبيلة، فهناك النوادي الرياضية الكثيرة المتنافسة، وهناك الجمعيات النسائية المتعددة الأهداف والغايات، وهناك الجمعيات الخيرية، والجمعيات الثقافية والمدارس والجامعات الخاصة والمختصة، وأطباء بلا حدود، وحقوق الإنسان، وحقوق المستهلك وجمعية دعم الأسرة، وجمعية تنظيم النسل... إلخ. ولو نظرنا اليوم في المجتمعات البشرية، لرأينا أن الأكثر تقدماً ورقياً هي المجتمعات التي تنمو فيها الوسائط نمواً كبيراً، وأشدها تخلفاً تلك التي ليس فيها مجتمع مدني، حيث الرتابة والكآبة والبؤس والكبت والحرمان. وما نظّر له الرفاق اليساريون في الخمسينات من القرن الماضي، حصلوا عليه عندما قام العسكر باغتصاب السلطة في الكثير من مجتمعات آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، فقضوا على المجتمع المدني، وأقاموا صورة له تتبعهم وتجهز لهم المسيرات والهتافات كشبيبة الثورة واتحاد الطلبة والاتحاد النسائي... إلخ، فأقلعت كروم العنب ويبست أوراق التين، فحتى كان لسلطة العسكر حضور في «جمعية دفن الموتى»، كل شيء يتبع، ثم كل شيء يركع، إلى أن تنفجر الينابيع من التربة المرصوصة. إنه وباء أصاب العالم الثالث، ولكنه أخذ يتراجع اليوم، ولم تبق منه إلا بعض القلاع في القارات الثلاث. فالوسائط صمام أمان، ومنها تتولد العناصر التي تسقط الأنظمة الشمولية، كما جرى في الاتحاد السوفييتي، وهي ضرورية لاستمرار البشرية، وتوليد الخلايا النشيطة. معيار الحُكْم لا يمكن أن يستمر مجتمع من المجتمعات إذا جرى القضاء على الوسائط فيه. هذه الوسائط هي التي تمسك المجتمع، وهي محور أي سياسة، بل يمكن القول إن السياسة تنجح أو تفشل حسب الموقف من هذه الوسائط. والوسائط في المجتمع هي تلك النوادي والجمعيات والمنتديات الأدبية والفنية والخيرية والنسائية والحرفية والتوعية، وتشمل نواحي المجتمع المعنوية من أدب وفن وفلسفة ورياضة ورسم ونحت... باختصار كل ما يطلق عليه المجتمع المدني... ففي هذه الوسائط يجد المجتمع نفسه، ويعبر عن ذاتيته من دون قمع ومن دون أي احتقان. وفي المعايير الحديثة اليوم لا تقاس أنظمة الحكم إلا بمقدار ما هناك من الوسائط، أي من نشاط لمكونات المجتمع المدني، لأنها بتنوعها وتنافسها تتسابق إلى القيم النبيلة. أدب الوساوس كثير من منظري اليسار من الكتاب والأدباء شبَّه الوسائط وعلاقتها بالبطل بالمتروبوليت والتابعيات، أي لا يخرج عن أن يكون نوعاً من الإلحاق أو الاستعمار. وعندما يذكرهم أحد أن الكتب الجديدة من الاتحاد السوفييتي كرواية «الحرس الفتي» أو «زويا وشويا» أو «الأوبكوم السري» أو «قصة رجل حقيقي»... تعتمد الوسائط، كان رد المتحمسين، هذا من بقايا أدب الوساوس والأمراض العصبية، أدب دستويفسكي، وكان أدبه ممنوعاً منذ فترة طويلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©