الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما الذي يجعلنا متوحّشين؟

ما الذي يجعلنا متوحّشين؟
12 ابريل 2017 19:12
من أين تتأتّى هذه الهيمنة المتنامية للأحكـــام السّبقيّة والحقد في العالم، وهذا التّعتيم الذي يطال الأدمغة رغم المدّ التّنويـري، ورغم وهج الضّياء الذي لا تنفكّ تطلقه الفلسفة؟ لقد غدا زمنـنا الرّاهن زمنا مستنيرا، تشيع فيه معارف كثيرة، قد تكفي وحدها لتصويب رؤيتنا للأشياء من حولنا، وتقويم ما اعوجّ من ممارساتنا وسلوكاتنا. ثمّ إنّ تحرّر العقل، وانفلاتَه من عقاله، نراه يوما بعد يوم يُسهم في تبديد المفاهيم العقيمة.. الواهمة، التي حالت لزمن طويل، دون الوصول إلى الحقائق الجوهريّة النّاصعة، كما نراه يزلزل الأرضيّة التي تعرّشت فـوق تربتها نزعات التعصّب والتّلبيس، السامّة.. القاتلة. (...). فما الّذي يجعلنا نظلّ، إلى غاية اليوم، على مثل هذا القدر من البربريّة، متمسّكين بوحشيّة مدمّرة؟ وفريدريش فون شيلر، أحد رموز التّنوير في ألمانيا، هو الذي كان قد طرح تلك التّساؤلات منذ نهاية القرن الثّامن عشر، وذلك في رسالته الثّـامنة عن «التّربية الجماليّة للإنسان»، الصّادرة سنة 1795. ورغم مُضيّ أكثر من قرنين من الزّمن، لا تزال تلك التّساؤلات إلى غابة اليوم ماثلة أمامنا، بل غدت اليوم أكثر ممّا كانت عليه في الماضي، ممضّة.. حارقة. إنّ العقـــــل لَيتموضع في الجانب المضادّ للتوحّش، وينتَصب أمامه بثبات وعناد– الضّياء في مقابل الظّلمات، النّظام والانسجام في مقابل الفوضى، والحكمة في مقابل الجهل والشّراسة -، غير أنّ التّاريخ لا يقرّ تلك الأماني والمثل الجميلة، بل إنّه لا يني يخدعها ويمتهنها ويرُضّها. لقد دفع القرن العشرون بتلك العلاقة المتضاربة، بين الثّقافة والشّراسة إلى حدوده القصوى، ويبدو من الواضح أنّ القرن الواحد والعشرين سيعمل على تأبيدها بمزيد من الشّراسة والضّراوة. نموذج المثقّف المناهض للفاشيّة كان جورج شتاينر، أحد الرّموز المرموقين للنّزعة الإنسانيّة الأوروبيّة، قد أخبـرنا أنّه «أمضى السّنوات الطّوال من حياته وهو يحاول فهم سبب عجز الثّقافة بمثُلها السّامية، عن إعــاقة نزعة التوحّش في العالم، ومعرفة لماذا كانت الثّقافة دوما حليفة للبربريّة، والإطار الذي ينتظمها، والجوق الذي يردّد شعاراتها»؛ «لماذا أخفقت الثّقافة الكلاسّيكيّة في أبعادها الشّمـوليّة السّامقة، والعقل وما أحدثه من فتوحات علميّة باهرة، في حمايتنا من النّزعة اللإنسانيّة. ثمّ إنّنا لنتساءل:كيف يكون بوسع المرء استعذاب موسيقى لشوبارت في المساء، ليذهب بعد ذلك صباحاً إلى محتشد الاِعتقال والإبادة ويقوم بأشغاله في هناء. فلا الكتابةُ ولا القراءة ولا الفنّ، قد توفّقت في إحباط نزعة التوحّش واستئصالها من حياتنا. بل إنّ تلك الرّوافد الثّقافيّة غالباً ما تحوّلت إلى وسائل توشية لذلك التوحّش، وتوفير إطار منمّق له». تلك كانت الأسئلة التي أقضّت مضجع شتاينر، فحمل عذاباتها وحروقاتها، وهو لا ينفكّ عن طرح أسئلة كانت تظلّ دوما بلا أجوبة. ثمّ إنّ المثاليّ في السّياسة، مهما بدا في ظاهره إنسانيّا ومتعلّقا بقيم العدل، كما المثاليّ في الديّن، الذي مهما بدا في ظاهـره متشبّثا بقيم الرّحمة والسّلام، غدا يحمل في طيّاته خطر الاِنزلاق على نحو درامي، في مهاوي التعصّب واللاّتسامح والشّراسة، بل إنّه قد يحمل بذور فساده، ليستحيل إلى أداة قهر وإذلال واستعباد، فيقود إلى الجريمة ونفي الآخر. ويتابع إدغــــار موران قائلا:«إنّ فشل»الحلم«الشّيوعيّ في الاِتّحاد السّوفييتي، الذي كان يَـعِـدُ النّاس بإقامة مجتمع إنسانيّ متآخٍ، ليماثل إلى حدّ ما الإخفاق الرّوحاني للمسيحيّة، حين تحوّلت إلى مؤسّسة، وطمست الرّسالة الأصليّة للمسيح». جملة تيودور أدرنو إنّ جملة الفيلسوف الشّهير تيودور أدرنو، الواردة بمقال له سنة 1949، التي تكـرّر ذكرها في كتابه «مواشير»، اعتبرت أنّه «لمن البربريّة كتابة الشّعر بعد أوشويتز». وقد أفاض الكثيرون في التّعليق عليها، بل كان هذا الإقرار أحيانا محلّ تشويه، حين تمّت قراءته خارج سياقه، ودون اعتبار للتّدقيق الذي قام به كاتبه. لقد كتب أدرنو كتابه «مواشير» بعد الحرب مباشرة، بعد أن عرف الفظاعات التي ارتكبت بفعل تطبيق «الحلّ النّهائيّ» الذي تخيّله النّازيّون، ولأنّه كان يخشى من أن يُدفع بتلك الكارثة إلى مهاوي النّسيان، بفعل حرص المنتصرين على إحلال السّلام، والإعلان بشكل متسرّع عن انتصار المدنيّة على البربريّة، وكأنّ الإنسانيّة قد غدت فجأة معفاةً من ذاك الحريق المتأجّج للهمجيّة. وكان ذلك يعني بالنّسبة لـ «أدرنو»، أن يتمّ التخفّف من ذلك العبء بأبخس الأثمان، في حين أنّه أمام تلك الهوّة السّحيقة التي انفتحت في مجرى التّاريخ، كان أدرنو يرى أنّه لا يمكن أن تستأنف الحياة، وأن نمضي نحو المستقبل وكأنّ شيئا لم يكن، فنمعن في كتابة الشّعر كما كان الأمر قبل الكارثة، ونتمادى في الكتابة والإبداع والتّفكير، دونما اعتبار إلى ما آلت إليه القيم من انهيار، والأخلاق من تفسّخ و فساد في بلدان الغرب. فكلّ إبداع فنيّ، كما كلّ تفكيــــر فلسفيّ، كان عليهما آنذاك تنمية الوعـي بتلك الكارثة الصّادمة وبالخزي والآلام التي سبّبته. لذلك تظلّ العلاقة بين الثّقـافة والهمجيّة بحاجة إلى المساءلة والتأمّل الدّقيق، لأنّ محتشدات الاِعتقال والإبادة لم تكن فحسب الثّمرة السّامّة لتلك الهمجيّة، وإنّـــــــما كانت أيضا نتاجاً للثّقافة الغربيّة، التي بشكل أو بآخر، وفّرت التّربة الخصبة التي سوف يتعرّش فيها السمّ الزّعاف للحقد والكراهيّة. هكذا، أمام المشهد الذي يتراءى لناظرينا، غدونا ندرك أنّ الجمال لم ولن ينقذ العالم، وأنّ الأنـوار لم ولن تفلح في قهر الظّلمة، كما لن تتوفّق التّربية في إنهاء أمد الجهـل والحماقة، ولا الجلال ساهم في رفعة الأنفس، أو يكون على الأقلّ.. قد أفلح في إبقائها على نفس الدّرجة من السمـوّ الأخلاقي والرّوحانيّ. ويعني ذلك أنّه، لا البشاعة و لا الحماقة ولا الحقارة.. ستتوقّف عن النّيل من نضارة الحياة، بشكل خبيث متكتّم، أو بمجابهةٍ علنيّة صادمة. أعمال تحتشد بخراب الحرب يمثّل الفنّان التّشكيلي الألماني أنسالم كيفر مثالا بليغا عن ذلك الوعي بعبء المـاضي، وبذلك التّداخل الموجع والمتلف بين الثّقافة والهمجيّة. ولم يكن فنّه نابعا فحسب من فترة ما بعد المحـرقة، بقدر ما كان يتشكّل من خلال حقيقة المحرقة ومَخْرٍها العصيّ على الاِمّحاء. لقد جسّد في أعماله أزمة التمثّل التي تلت أوشويتز وهيروشيما، الفاجعتان الرّمزيّتان اللّتان هزّتا القرن العشريـن؛ كما بول سيلان، الذي تحدّث عن تلـف اللّغة في قلب الخطاب الشّعريّ؛ وكما فعل ذلك السّينمائيّ لسلـو نيميس، في شريطه «اِبن سول»، ذلك المبعد الذي كان عضوا في مفرزة جنود أوشويتز. وجاء هذا الشّريط ليطرح مسألة تمثيل البـربريّة النّازيّة، المتفلّتة بحكم طبيعتها عن كلّ وصف، وليقترح تأمّلا غريبا في شهادة إنسانيّة أخيرة، هي في آن.. عبثيّةٌ ومهيبة، في قلب عالم غدا لا إنسـانيّا بصورة متطرّفة. وقد صرّح نيميس أنّه أراد «أن يفتح من جديد ذلك الكتاب المهمل في غرفة علويّة، الذي هو كتـاب المحرقة. ذلك أنّ هذا الماضي الأبيضَ والأسود بات يشكّل لا محالة جزءا من حاضـرنا، ويحملنا على عدم تجاهل حقيقة أنّ حضارتنا الرّاهنة تظلّ مفتونة بالقتل العرقيّ والإبادة». وبالنّظر إلى طبيعة المذابح التي تجري اليوم في الشّرق الأوسط، وفي أفريقيا، وحتّى داخل أوروبا، والتي ترتكب بعنوان أيديولوجيّات فاسدة بصورة فاجعة، ففي إمكاننا القول، إنّ الأمر لا يتعلّق بمحاولات إبادة تحقّق أغراضها فحسب، وإنّما بافتتان حقيقيّ بالجريمة لا يعرف الحدود. وهنا، يستدرجنا سؤال آخر لن نتوقّف عنده كثيرا، لأنّ الخـوض فيه قد يتطلّب تحليلا معمّقا؛ ويتعلّق هذا السّؤال بمسألة تنوّع الثّقافات، ومن ثمّ، بتصوّرنا للبربريّة. فالأعمـــال التي تكون بربريّة، لا يراها دعاة التوحّش كذلك، أي أولئك الذين يقترفون الآن جرائمهم على أوسع نطاق، لأنّ رؤيتهم الأنتروبـولوجيّة والاجتماعية، لا علاقة لها برؤيتنا نحن، كما يشير إلى ذلك فيليب جوزيف سالازار في كتابه «كلمات مسلّحة»، الذي نجتزئ منه هذا المقطع: «يتّخذ مفهوم الخلافة لدى دعاة التوحّش في الشّـرق، شكل حقد رادكاليّ، لا يعتمد الأساليب العرفيّة للسّياسة، ولا يتّخذ البعد الشّكليّ للحرب، ولا هو يؤمن بحقوق الإنسان. فنشاطه يوجد خارج دائرة كلّ تلك الأشكال والأساليب المتعارفة للحرب. إنّه يرفض التّشريعات العالميّة التي تنتظم أو تؤطّر السّياسة كما تمارس في المجتمعات الحديثة. وفي تعريفهــــا لما هو إنسانيّ (العلاقة بالإنسانيّة)، كما في عقيدتها السّياسيّة (طبيعة الدّولة)، واستراتيجيّاتها الحربيّة، يسعى هؤلاء الدعاة للخلافة إلى اِحداث مسافة فاصلة بين»نحن«و»الآخرين«، ويقرّون حينئذ بوجود اختلاف ونـزاع بينهم وأولئك»الآخرين«(...)، فنراهم يرفضون لغتنا (كأداة لتقدير الأشياء)، واصطلاحاتنا السّياسيّة (كلهجة مشتركة)، كما يرفضون إمكانيّة وجود أيّةِ لغة مشتركة في المجال السّياسي، إذا كنّا نحن الذين حدّدنا اصطلاحاتها و وظائفَها ومنهاجها.. إن هذه الخلافة التي نصّبت نفسها بشكل اِنفراديّ، لتزدري كلّ شيء، و تمقت بشراسة كلّ ما يمثّل تاريخنا وقيمنا، ورؤيتنا للحريّة وللحياة المشتركة، وفهمنا للكرامة البشريّة، لتقدّم في المقابل مِثالَ مجتمع تتعايش فيه، بصورة جدّ«ثقافيّة»، شريعة ثابتة و.. بربريّة؛ شريعة غاية في الهيكلة، مُـنَصّبةٌ مثلَ وثنٍ، وبربريّةٌ غاية في التّنظيم، منمنمة ومثيرة للغرائز حدّ البرنوغرافيا، كما تدلّ على ذلك مشهدة طقوس التّعذيب والتّنكيل والتّشويه والذّبح، وهو ما سمّاه سالازار و من بعده إيف ميشو«البرنوغرافيا السّياسيّة». والصّادمُ حقّا، أنّ تلك البربريّة التي ترعبنا، تبدو في نظر أولئك العدميّين، عملا مقدّساً، ويا لَفظاعة هذا المقدّس.. ولكنّني أودّ العودة إلى مفهوم الوحشيّة في الفكر الغربي، و إلى التّناقضات التي يثيرها. إيغال في الوحشيّة يكون ثمّة توحّش، حينما نلوذ بالنّسيان، و لكن أيضا حين نبدي رفضا صريحا لرؤية الآخر كما هو، في عراء ملمحه الذي يستبين فيه غموض اختلافه؛ ولملامح الوجه وحدها الكثير من المعاني.»أنت.. هو أنت«، هذا ما كتبه إيمّنوال ليفيناس، و»لن تقتل أبداً«، هي الإيماءة الأولى للوجه، وإن كان المسألة هنا تتعلّق بأمرٍ ربّانيّ. فثمّة في إشراقة الوجه للمتأمّل فيه.. وصيّة، نشعـر من خلالها وكأنّ سيّدا أعلى يستفزّ انتباهنا وهو يخاطبنا. ومع ذلك، يبدو وجه الآخر في أعيننا مجـرّدا وبلا ملامح؛ والآخر هو ذلك البائس الذي بإمكاننا أن نقدّم له كلّ شيء، والذي نكون مدينين له بكلّ شيء. ويبدأ التوحّـش من اللّحظة التي نغدو فيها غير مدركين لهذا الآخر على أنّه وجه، وأنّ ذلك الوجه، مكمن أسرار وتفــــــرّد، وأنّه يغدو فاقدا لكلّ معنى متى صممنا آذاننا عن النّداء الذي يرسله إلينا خارج الكلمات، وذلك بمجرّد بروزه وحضوره أمامنا، ووجهه يفصح صمتا..»لن تقتل أبدا«. ومع ذلك، إن كنّا نحن الذين نقدم على القتل، فالكلّ غدا اليوم يقتل بعضُه البعض بأساليب مختلفة، قد تكون بطيئة أو مُبرمة، شرسة أو»ناعمة«، علنيّة أو سـريّة، بتصفية جماعيّة أو بقتل فرديّ، بالقتل المباشر أو قتل بتفويض. فنحن نقتل ونتقاتل، والجـرائم المقترفة عديدة وشتّى، قد تستهدف الجسد والقلب والفكر والرّوح، فنزداد بذلك بربريّة، ويتعاظم إيغالنا في الوحشيّة. وثمّة شكل عاديّ للتوحّش هوأقـلّ حدّة، يتعايش مع ثقافتـنا بسلام، ونمارسه أحيانا دون سبق إضمار، إنّها اللاّمبالاة التي نبديها – سهوا أو لانعدام الحيلة، أو ربّما بوازع من غرور أو بفعل التعوّد- تجاه غرقى مجتمعاتنا الذين يكابدون الحياة فحسب من أجل البقاء، وهم منطرحون على أرصفة الطّرقات، مثل فضلات بشريّة ألقت بها الأقدار قرب المزابل. لقد غدا البؤس الصّارخ، المتفشّي تفشّي الطّاعون في جسد مجتمعات تبدو في ظاهرها متمدّنة و مترفّهة، شكلا من أشكال البربريّة، إن كنّا نعني بهذه الكلمة، امتهان كرامة الإنسان، وتنزيله منزلة الأشياء، وتركه على قارعة الطّريق فريسة لموت بطيء. إنّ التوحّش الكاسح الذي يتمدّد بلا كوابح تصدّه، عند اشتعال نيران الحروب، ليتضاعف فعلا بوحشيّة أكثر تكتّما، تقترف في صمت أو بصوت خافت، تدفع بالمجتمع إلى حالة مرعبة من الخراب، وتجعـل الموت يسري في أوصاله، موتا يجهز على كلّ ما يصنع كرامة الإنسان ورفعته في هذا الوجود. وفي مقدّمة بحثه القيّم عن«الشّنــــــاعة في العصر الحديث»، الذي يحمل عنوان«البربريّة الباطنيّة»، وضّح الفيلسوف جان فرنسوا ماتّيي فهمه للبربريّة:«إنّي لا أعني بهذه الكلمة شكلا من أشكال الاِنتكاس التّاريخي يدعونا إلى إلغائه بردّة فعل، لا أدري إن كانت ستتّخذ أسلوب مجابهة أخلاقيّة أو سياسيّة أو جماليّة؛ إنّي أرى على العكس من ذلك، أنّ البـربريّة مفهوم ميتاتاريخي، يميّز سلوكا لصيقا بكلّ وضع حضاريّ، بل مفهوما ميتافيزيقيّا يحدّد أحد القطبين، الّلذين يحدّدان وجهة الإنسان». وهذه البربريّة التي تخترق التّاريخ منذ بداياته، والتي قد تنبثق من جديد في أيّ لحظة، بصورة جماعيّة أو فرديّة، في اتّجاه مضادّ لتمدّد المعارف، وانتشار الثّقافة واعتدال الطّباع، لتستكنّ في أعماق الإنسان، وفي الزّوايا المعتّمة من كيانه. رهان الثقافة تبقى الثّقافة مع ذلك رهانا أساسيّا بالنّسبة لكلّ الشّعوب، وأداة لا غنى عنها لتحضّرها، لذلك ينبغي أن نكافح من أجلها ونعمل على ترسيخها، غير أنّها تظلّ غيرَ كافية لتعطيل الجانب الشّرس المنطمر بداخل كلّ واحد منّا. وما لم نتعرّف على وجود هذا الجانب الأقتم الجاثم داخلنا، فلسوف تبقى سطوته منتعشة تحت غطاء الثّقافة التي نلنا، وذلك مهما اتّسعت تلك الثّقافة ورحبت. وكان الكاتب اللاّتينيّ سيسيرون، وهو يبيّن دور الثّقافة في ترقّي الإنسان في مدارج الكمال الأخلاقي والرّوحاني، قد تناول بالتّحليل استعارة الثّقافة كفعل يهدف إلى خدمة الأرض، وذلك باستصلاحها وإزالة الأعشاب منها، وبالحراثة والبذر. «إنّ الأرض مهما كانت درجة خصوبتها، لا يمكن أن تؤتي أكلها بلا حراثة أو استنبات. وكذا الشّأن بالنّسبة للرّوح في علاقتها بالتعلّم وتحصيل المعارف. والفلسفة هي حراثة للرّوح، وهي التي تستأصل من الذّات البشـــــريّة عيوبها والآفات التي تترصّدها، وتجعلها جاهزة للبذر، ومتى استقـــرّت فيها البذور، برعمت وأخصبت، وفاضت على الإنسان بالنّعم الوفيرة». غير أنّ ذلك الائتمان للثّقـــافة ودورها المطهّر والمخصب، لا يصمد أمام التّجربة، كي تغدو مشتركة بين الجميع بلا تحفّظ؛ وكم هي كثيرة الأمثلة التي تبيّن أنّ الثّقافة لم تتوفّق عبر الأزمنة وفي كلّ البلدان، في استئصال نزعة الشرّ، وحماية العقل من مخاطر الاِنزلاقات والزّيغ والغلوّ، التي قد تتحوّل إلى حالة من الجنون والتهوّر. والإنسان، بتفكيره المنطقيّ، يظلّ لا محالة عرضة للجنون والهذيان والاِختبال و الهوس، كما يلاحظ ذلك إدغار موران. فللاِستعارة الزّراعيّة لسيسيرون، ينبغي أن نضيف استعارات أخرى قد تحيلنا على علم دراسة التّربة، علم طبقات الأرض، وعلم استكشاف الكهوف. إنّ الحراثة، وحفر الأخاديد، والبذر والريّ، تساعد فعلا على إنتاج محاصيل وافرة ورائعة، ولكن ذلك قد لا يمثّل شيئا ذا أهمّية، أو إنجازا قد يكتب له الدّوام، طالما لم يقع استقصاء الأرض التي تقع تحت الطّبقة المبذورة، والتعرّف على ما يستكنّ في باطنها؛ فلعل هوّات عميقةً تنفتح داخلها، وغازات سامّةً و أوحالاً بركانيّةً وحمـما إشعاعيّة، ترقد في أعماقها، وتكون على وشك التدفّق والانتشار، لتحرق كلّ شيء يصادفها في طريقها. يقينا أنّه لن يكون بمقدورنا أن نجتث بصورة جذريّة، الفراغ أو كتل الطّاقة التي لا شكل لها، ولكن أن نعرف أنّها تمكث هناك، أن نقدّر حجمها وقدرتها على الإيذاء، يكون أمرا نافعا وثمينا لإحباط أضـرارها والتأهّب لمجابهتها. فبمجرّد استشعار جئيرها المتصاعد من ذلك الفراغ، وارتجاف تلك الحمم، يغدو بإمكانـنا ردّ الفعل، ورفض الاستسلام لـ»غواية «الدّوار واضطرام اللّهب، لنقف عند حافّة الهوّة ونحاول الابتعاد عنها. «أن نحفظ أنفسنا من الوقوع، ذلك ما يجعـل من المرء إنسانا، وإلاّ...«. إنّ هذه الكلمات البليغة والتامّة، ينسبها ألبير كامو إلى والده لوسيـان كامو، أو إلياس كورميري، كما ورد اسمه في الرّواية التي نشرت بعد وفاته«الرّجل الأوّل». نطق كورميري بهذه الكلمات بعد أن شاهد أثناء حملة عسكريّة في المغرب حارسين من الجيش الفرنسي، تمّ ذبحهما وخصيهما. وحاول مرافقه، الذي كان أكثر تعلّما منه، شرح دوافع تلك الوحشيّة، مبيّنا أن الأمر يتعلّق بطقوس اعتياديّة قديمة، لها دلالتها لدى المحاربين المغاربة، الذين يعتدّون بها. ولم يكن كورميري ليلقي السّمع إلى مثل ذلك التّوضيح«الثّقافي»، إذ لم يكن ثمّة من شرح ليقنعه ويهدّئ من روعه، فاكتفى بالإجابة، قائلا بصوت مهموس:» أنا رجل فقير، خرجت من مأوى للأيتام، ألبَسوني لباس العسكر، وجرجروني إلى هذه الحرب، ولكنّني امتنع عن إتيان أعمال بمثل هذه الشّناعة«. وحين ذكّره رفيقة بأنّ الفرنسيّين يرتكبون هم أيضا نفس الفضائع، أجابه بنبرة قطعيّة:»إذن، هم الآخرون ليسوا من الإنسانيّة في شيء.«ثمّ لاذ بخيمته متجهّما، كالح الوجه. لقد انسحب من حوار لا مخرج منه. فكلّ ما كان يعرفه، هو أنّ الشـرّ والشّراسة كانا وسيظلاّن، وبصورة مطلقة، بلا مبرّر. ويشير كامو أنّ ذلك الإنسان الشّديد والأميّ، رفض، رغم فظاعة الواقع، الإجهاز على ذلك الجانب الخيّر المنطمر بداخله. فإن يستسلم المرء لهاجس البربريّة، التي لا تني ترفض المعنى الذي يحمله الوجه، وتستبدل ذلك المعنى بقيم من سراب، فإنّ ذلك يقود إلى تنمية عقائد«مقدّسة»مزعومة، وغلوٍّ في الانتماء، سيولّد لا محالة لدى الإنسان عصاب الكراهيّة والجنوح إلى الجريمة، ويدفع به في النّهاية إلى مهاوي العبث والعدم. كان شيلر يتساءل في نهاية القرن الثّامن عشر:«ما الّذي يجعلنا إلى غاية اليوم متوحّشين؟»؛ وكانت إجابة كورميري، البسيط والصّادق:علينا أن نحفظ أنفسنا من التوحّش... وكان شوبنهاور المعاصر لشيلر قد نبّهنا إلى وجود تاريخي: تاريخٍ سياسيّ وتاريخٍ للأدب والفنّ. التّاريخ الأوّل هو تاريخ إرادة القوّة، أمّا الثّاني فهو تاريخ الفكر. وفيما يكون الأوّل دوما موجعا ومثيرا للقلق، بل مفزعا ودمويّا، لا يجرّ معه غير الكروب والأحـزان، والجريمة والشّناعة والرّعب، يكون الثّاني على العكس من ذلك، بهيجا، مكتفيا بذاته، كما الفكر المنفرد، حتّى و إن سجّل بعض الأخطاء؛ أمّا غصنه النّضير.. فهو تاريخ الفلسفة، الذي يشكّل عماده وركنه الرّكين، والذي يتردّد صداه في التّاريخ الآخر، ويوجّه بعمق الفكر والإدراك. والفكر والإدراك هما اللّذان يحكمان العالم. فالفلسفة متى تمّ فهمـــــها على الوجه الصّحيح، قوّة ماديّة جبّارة، يظلّ تأثيرها لا محالة وئيدا، ولكنّها تنتصب سدّا منيعا أمام استشراء آفات التوحّش والبربريّة في العالم. من ينقذ العالم؟ أمام المشهد الذي يتراءى لناظرينا، غدونا ندرك أنّ الجمال لم ولن ينقذ العالم، وأنّ الأنـوار لم ولن تفلح في قهر الظّلمة، كما لن تتوفّق التّربية في إنهاء أمد الجهـل والحماقة، ولا الجلال ساهم في رفعة الأنفس، أو يكون على الأقلّ.. قد أفلح في إبقائها على نفس الدّرجة من السمـوّ الأخلاقي والرّوحانيّ. ويعني ذلك أنّ، لا البشاعة و لا الحماقة ولا الحقارة.. ستتوقّف عن النّيل من نضارة الحياة، بشكل خبيث متكتّم، أو بمجابهةٍ علنيّة صادمة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©