الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العانس

العانس
29 يونيو 2009 01:30
بصراحة شديدة، يمكنني القول إنني «عانس» نعم.. هذه هي الحقيقة، وسأكون صريحة معكم لأنني تجاوزت مرحلة الإحراج في هذه المسألة، بعد أن بلغت الخامسة والأربعين من عمري، وقد فاتت من أمامي جميع القطارات، وراحت فرص الزواج الواحدة بعد الأخرى، وصرت أتكيف تدريجياً مع وضعي، حتى أنني صرت متآلفة معه، ولا استطيع بعد هذا العمر أن أتقبل وضعا آخر غيره. إذا سألتم عن الأسباب الحقيقية وراء عنوستي، يمكنني أن أقول لكم بصدق: إنها إرادة الله، وهو نوع من الابتلاء، مثل غيره من الابتلاءات التي تصيب الإنسان، وهي بالطبع فيها الخير الكثير للمؤمن الصابر الذي ينتظر الأجر والثواب، هذا لا يمنع من أن أقول إننا أيضاً نشكل أسباباً لهذه الظاهرة لأننا نطلق أحكاماً ونتخذ قرارات نعتقد بأنها صائبة، ولكنها تؤثر على حياتنا بشكل كبير، وبالطبع، فأنا لا أخلي مسؤولية الأهل في تعزيز وزيادة مثل هذه الظواهر، وسأروي حكايتي علها تكون عبرة للأهل وللبنات في اتخاذ مثل ذلك القرار المصيري. الحكاية كنت في السابعة عشرة من عمري، بدأت بالتفتح كالوردة الندبة على قصص الحب والمغازلات البسيطة في عالم الفتيات الصغيرات، كنت استمع لهن فتطربني الأحلام والأمنيات بأن أتزوج بعد قصة حب جميلة ورائعة كالتي أشاهدها في الأفلام، وكنت أرسم ملامح ذلك الفارس الجميل الذي سيأتي مرتدياً «البشت» ويتقدم بخطوات ثابتة نحو «الكوشة» فأقف استعداداً له ليكشف البرقع الذي يغطي وجهي وينظر إلي بحب وحنان ثم يقبل جبهتي، ثم تبدأ عدسات الكاميرا بالتقاط أجمل لحظات العمر، ثم نتلقى السلام والتهنئة، بعدها يمسك بيدي لنبدأ معاً رحلة الحب والمودة والرحمة التي سيباركها الله تعالى لنبني عشاً جميلاً رائعاً. كل تلك الأحلام الجميلة، كنت أخبئها بداخل قلبي فهي أسراري الرائعة، فأبتعد عن الجميع لأفرشها من حولي وأتمتع بتخيل تفاصيلها بتمهل شديد، ثم ينتقل تركيزي على فستاني الأبيض الذي تزينه الورود وقطع الكريستال اللامعة، ثم يتوقف حلمي عند وجه فارس الأحلام، حيث يبدأ الحلم بالتشوش، فلا أقدر أن أحدد تلك الملامح بوضوح تام حتى رأيته. كان وجهه رائعاً، ومظهره يدل على الاهتمام والأناقة، رأيته عندما أطل من شباك سيارته، تابعني بنظراته حتى صعدت إلى باص المدرسة، ثم لاحق الباص حتى نزلنا ودخلنا بوابة المدرسة، كنت أرمقه بشكل خفي، وأنا سعيدة بذلك الشعور الجميل الذي اجتاحني بشكل مفاجئ. تكرر الموقف، يوماً بعد يوم، حتى صرت ألحظ وجوده كل يوم تقريباً، يقف بسيارته في الجهة المقابلة لبيتنا، كنت أطل عليه من وراء الستائر، ومع اني كنت سعيدة به، إلا أنني كنت أدعو ربي كي يذهب حتى لا أشعر بالإحراج والارتباك عند خروجي من البيت وركوبي الباص، كنت أخشى أن أسقط أو أتعثر فأتعرض للإحراج. في أحد الأيام وجدت المكان خالياً من سيارته، فخرجت ووقفت عند الباب بانتظار الباص أو ربما بانتظاره لأنني قلقة من عدم وجوده، فجأة جاء مسرعاً، خفق قلبي بشدة وهو يقترب أردت أن أعود إلى البيت، ولكنه كان سريعاً، مر من أمامي وألقى ورقة فيها رقم هاتفه، وصار يردد: أرجوك اتصلي، ارحميني واتصلي. كنت خائفة، وشكلي يبدو مضحكاً وأنا أدور حول نفسي، حتى أخذت الورقة وركضت عائدة إلى البيت، وأنا في غاية الانفعال. بعد تفكير طويل، وتردد كبير، تجرأت واتصلت به، وما إن سمعت صوته حتى تملكني الخوف وصار جسدي يرتعش، حاولت إغلاق السماعة ولكنه عرفني وصار يتحدث معي بشوق ولهفة وأنا أنصت إليه، وقد بدأت الانفعالات بالتضاؤل تدريجياً حتى استطعت أن أتنفس بسهولة. المرة الثانية التي اتصلت به فيها كانت أقل صعوبة من الأولى، واستطعت خلالها من النطق ببعض الكلمات، أقسم بأن قصده شريف، وأنه يرغب بالتأكد من مشاعري نحوه قبل أن يتقدم لخطبتي، فشعرت بالاطمئنان، وكنت قد نويت بداخلي أن لا أطيل مثل هذه المكالمات التي ربما تعرضني لمواقف صعبة مع أهلي، حيث ان الهاتف موجود في الصالة، والكل يستخدمه وليس سهلاً أن أتواصل معه بالمكالمات، لذلك كنت قد قررت أن أخبره بتلك التفصيلات وأعلمه بموافقتي على خطبته لولا أن حدث ما حدث. في تلك اللحظة العصيبة، دخل أخي الكبير وبشكل مفاجئ، ارتبكت وألقيت السماعة من يدي، مما جعل أخي يشك بي، أخذ السماعة فسمع صوت رجل، اغتاظ بشدة فشتمه وهزأه بكلمات قاسية، ثم أغلق السماعة وقام بضربي بوحشية. انتشر الخبر بين أفراد العائلة، فتغيرت نظرتهم لي، وصاروا يرددون بأنني غير محترمة وأنني أتجرأ وأتكلم مع الشباب، وصاروا يعاملونني باحتقار شديد، وعدم ثقة، ومنعوني من إكمال عامي الدراسي، فخسرت عاماً دراسياً كاملاً مع أني كنت قد وصلت إلى فترة الامتحانات النهائية، أما ذلك الشاب، فلم أر وجهه بعد ذلك اليوم، ولا أدري هل كان صادقاً في مشاعره نحوي، أم إنها مجرد ألاعيب الشباب! الفرصة الثانية بعد أن أكملت الثانوية تقدم لخطبتي أحد الأقارب، وقد فوجئت بأن أهلي وبدون أن يسألوني عن رأيي، أخبروه بأنني لا أفكر بالزواج، وأرغب بإكمال دراستي الجامعية. لا أدري لماذا تصرفوا بهذا الشكل!! ومن أين جاؤوا بهذه الحجة!! فمن قال لهم بأنني لا أفكر بالزواج!! وإنني أفضل الدراسة الجامعية على الحياة الأسرية!! ثم لماذا سمحوا لأخي – وهو أكبر مني بعام واحد – سمحوا له بالزواج بعد أن أنهى الثانوية وعمل في الجيش!! فهل يحق للأولاد أن يتزوجوا في سن مبكرة.. بينما لا يحق لنا نحن البنات أن نتزوج إلا بعد إكمال الجامعة! سألت أمي كل تلك الأسئلة، فقالت لي: لقد رفضته لأنني غير مرتاحة لوالدته، وعلاقتي بها ليست جيدة، ثم انك ما زلت صغيرة وجميلة والفرص أمامك كثيرة، كما أن حرصنا على دخولك الجامعة هو شيء لصالحك، فالمرأة التي تملك شهادة وتعمل يكون لها دخل يجعلها في أمان من الحاجة، فالرجال لا يمنحون زوجاتهم مصروفاً شخصياً، مما يجعل الزوجة التي لا تعمل في حاجة دائمة للمال، وشعور كريه بالذل، مع أنها تتحمل مسؤولية البيت وإنجاب الأطفال وتربيتهم، إلا أن ذلك كله عمل مجاني من وجهة نظر الرجل، فهو يكتفي بالإنفاق على الأكل والشرب وباقي مصاريف البيت، ويكتفي بشراء ما تحتاجه الزوجة في المناسبات فقط، لذلك، فإن المرأة التي لا تعمل تكون خالية الجيوب باستمرار، وهي تتوسل لزوجها ليعطيها ما تحتاجه. كانت كلماتها مقنعة، مع أني لم ألاحظ بأنها كانت خالية الجيوب في يوم من الأيام، مع كونها امرأة غير عاملة، لم أناقشها وقلت في نفسي لا يضر لو انتظرت – كم سنة – حتى أكمل الجامعة وأتوظف، فيكون لي راتب يحميني من التذلل والحاجة، وفعلاً انهمكت في دراستي حتى أنهيت الجامعة بتفوق وعملت بوظيفة جيدة. الفرصة الثالثة والرابعة والخامسة في مجال العمل، أعجب بي أحد الزملاء وتقدم لخطبتي، كنت مقتنعة بشخصيته وسلوكه اللطيف المحترم، ولكن بعد أن سأل الأهل عنه، عرفوا أنه سبق أن خطب فتاة وعقد عليها ثم فسخ العقد لمشاكل حدثت بين الأهل؛ وجدوا السبب كافياً للرفض، ولم يكترثوا لاعتراضي. مرت – كم سنة – أخرى فتقدم لخطبتي رجل متزوج، فرفضه أهلي طبعاً، لأنهم لا يريدون لابنتهم أن تتزوج من رجل لديه زوجة أخرى وأطفال، ثم شرحوا لي صعوبة الارتباط برجل متزوج، وعددوا لي المشاكل التي يمكن أن تحدث بسبب وجود الزوجة الأولى وأطفالها في حياته، ولكثرة نصائحهم الغالية، اقتنعت برفضهم، مع أني كنت قد وصلت إلى أعتاب الثامنة والعشرين، ومن غير المعقول أن يتقدم لي شاب، قد نسيه الزمن ولم يتزوج حتى سن متأخرة، وهذا الشيء نادر طبعاً، ولكن ما باليد حيلة كما يقولون. بعد سنة واحدة تقدم لخطبتي رجل كبير في السن يعيش وحيداً، وهو يحتاج لمن تؤانسه في أيامه الأخيرة بعد أن رحلت زوجته المخلصة التي أمضت معه العمر كله بحلوه ومره، وعلى الرغم من كون الرجل غني، إلا أن الأهل رفضوه كالعادة بعد أن أقنعوني بصعوبة العيش مع رجل يعيش سنينه الأخيرة، وقد غزت جسده الأمراض المزمنة فهو يحتاج إلى ممرضة أكثر من زوجة، هذا بالإضافة إلى – الحنَة – أي الاعتراض وعدم الرضى والتمرد على كل شيء، التي تصيب العجائز في آخر العمر، بفعل المعاناة والأمراض وثقل السنين التي راكمت التعب والثقل على نفوسهم. بالطبع كان رأيي موافقاً لرأي أهلي بعد كل الذي سمعته. الفرصة الأخيرة أحد المراجعين في العمل، كان شاباً وسيماً للغاية، لاحظت أنه يختلق الأسباب لمراجعتي يومياً، ثم الاتصال بي بحجة المتابعة لإنهاء المعاملة، ثم بدأ بالتحدث معي يومياً مختلف الأحاديث، في النهاية أخبرني بأنه معجب بي، بسلوكي وشخصيتي، واحترامي لنفسي، وإخلاصي الشديد في العمل، ثم أخبرني بأن صفاتي نادرة في هذا الزمن، ثم توسعت دائرة الحديث بيننا، فأصبحت أسعد بكلماته الجميلة الرقيقة التي ملأت حياتي بالأمل والبهجة، عدت للاهتمام بنفسي، بعد أن أشرقت روحي من جديد، فقد استطاع أن يتسلل إلى أعماقي المظلمة وأن ينورها بمشاعر حلوة لم أجربها من قبل. صرت متلهفة لاتصالاته، انتظرها بشوق شديد وقد قلت في نفسي: كل تأخيره فيها خيرة!! هذا الذي سيعوضني عن كل ما فاتني من الحب والحنان. ثم بدأت بالتخطيط لتحقيق حلمي العزيز بتكوين أسرة وبأن الفرصة ما زالت ممكنة في أن أكون عروسة جميلة في كوشة الفرح والسعادة. للأسف، فإن سعادتي لم تكتمل، فقد وجدت منه مراوغة ولفا ودورانا، خصوصاً كلما فتحت له سيرة الزواج، وبعد أن سألت عنه جيداً اكتشفت أنه مجرد شاب مخادع، وهو يرمي شباكه لاصطياد الفتيات اليائسات في مثل سني، فهو يعلم جيداً أنهن يملكن المال الكافي فيغدقن عليه بسخاء، مقابل بعض كلمات الحب والغزل، لأنهن في حالة من التعطش الشديد للاهتمام والعاطفة المفتقدة في حياتهن، وكل واحدة منهن تعيش على أمل تحقيق حلم الزواج، وهو بالطبع غير جاد بالارتباط بأي واحدة منهن، وإنما هو يريد اللعب والتسلية، وكسب الهدايا والمال بهذه الطريقة المنحطة. هكذا مرت السنوات واقتربت من الخامسة والثلاثين، فصارت فرص الزواج بالنسبة لي شبه مستحيلة. الحلم الغريب إحدى صديقاتي تجاوزت هذه العقدة فتزوجت بشاب مسلم من بلد عربي، وقد راقبت تجربتها وكل الصعوبات التي مرت بها، من بداية رفض الأهل ومقاطعتهم لها، ولغاية حصولها على الموافقة الرسمية التي طالت مدتها بشكل كبير، وقد تحقق لها ما أرادت أخيراً وتزوجته، فوجدتها سعيدة سعادة لا توصف بعد الزواج، فهو يعاملها باحترام وتقدير، ويسمعها أجمل كلمات الحب والغزل، وهو يعطيها حقها في كل شيء، وهي المتحكمة الوحيدة في كل الأمور، لأنها الجهة المنفقة لأنه يعمل عملاً بسيطاً مع أن لديه شهادة جامعية. اكتملت سعادتها بعد أن رزقت بطفلة جميلة تشبه والدها، كانت تطلعني على كل تلك التفاصيل، ثم تؤكد قائلة: كل هذه السعادة التي أعيشها مقابل بعض المال!! فما قيمة المال ان عاش الإنسان وحيداً في آخر أيامه؟ فلم التردد والانتظار، وهذا الحلم الجميل يمكن أن يتحقق وبشكل أجمل من الخيال؟ اقتنعت بوجهة نظرها، خصوصاً أنني زرتها في بيتها، فوجدت أن كل ما قالته حقيقي، وأن زوجها يعاملها كملكة ويسمعها أجمل الكلام وأحلاه، وهو يغمرها بالحب والمودة، فأبديت لها رغبتي في أن أجرب مثلها، وقلت لها: ولكن أين أجد إنساناً رائعاً مثل زوجك؟ لم تمر سوى أيام حتى دعتني صديقتي للعشاء عندهم، هناك وجدت شاباً جميلاً أصغر مني بكثير، بسرعة فهمت بأن صديقتي قد تصرفت بهذا الشأن ولعبت دوراً فعلياً لمساعدتي. أعجبني الشاب وأسلوبه وثقافته وشخصيته، وفي نهاية الجلسة أخبرني بأنه قد أعجب بي وهو مستعد للزواج مني، فأعلنت عن موافقتي وحددت له موعداً لزيارة أهلي. كنت أعلم جيداً أن أهلي لن يتقبلوا الفكرة، ولكني قررت الوقوف أمام رفضهم بقوة وصلابة كما فعلت صديقتي، وبالفعل فقد أعلنوا رفضهم القاطع لمثل هذه الفكرة وقالوا لي بصريح العبارة: احترمي سنك وأبعدي عن رأسك مثل هذه الفكرة الشائنة. ثم بدؤوا بإقناعي بأن هذا الزواج سيكون مبنياً على المصلحة المادية، والاستغلال، والكثير من التمثيل فلا صدق بمشاعر شاب يتزوج امرأة بعمر والدته، ثم صاروا يتحدثون عن قصص كثيرة، كانت ضحيتها المرأة التي تبيع نفسها بهذا الشكل، وكم حدثت مشاكل للنساء، حيث أخذ الرجال أطفالهن إلى بلاد بعيدة. بعد كل ما قالوه، اسود الحلم الأخير أمام عيني فرفضته، وطويت تلك الصفحة إلى الأبد. الآن وقد وصلت إلى سن الخامسة والأربعين أعيش كشجرة يابسة وحيدة، بعد أن توفي الوالدان، وأنصرف الإخوة والأخوات إلى شؤونهم وحياتهم، أنظر بعين الحسرة على حلمي الضائع، وحياتي المملة الرتيبة والكل من حولي منشغل بنفسه وأسرته، فلا أحد يعنيه أمري.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©