الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فيزياء الكم.. عندما تغيّر العالم

فيزياء الكم.. عندما تغيّر العالم
7 يناير 2015 20:40
تعطي الانتصارات التي حققتها العلوم التجريبية الكلاسيكية في ميدان الميكانيك وعلم الفلك وبقية التخصصات الأخرى انطباعاً بأن كل شيء تقريباً أصبح محسوماً، وأن العلم بإمكانه أن يعرف كل ظواهر الكون كبيرها وصغيرها. قيل في هذا الصدد مثلا أن ماكس بلانك حينما أراد دراسة الفيزياء نصحه أستاذه بالابتعاد عن هذا العلم لأنه لا يعد بشيء كبير في المستقبل فكل شيء قد تم اكتشافه. لقد بدت قوانين نيوتن في الحركة والجاذبية كما لو أنها قوانين إلهية لا يمكن الشك فيها. تتكون الطبيعة في الأساس، حسب التصور الميكانيكي النيوتوني للكون، من جوهرين لا يلتقيان هما: المادة والطاقة. والكون برمته خاضع لحتمية دقيقة يمكن التنبؤ بها، كما أن عمليات القياس التي يجريها الإنسان للظواهر هي عمليات دقيقة وموضوعية لا علاقة لها بالذات المجربة التي تقوم بهذه القياسات. طبقا لهذه المبادئ كانت الطمأنينة تخيم على المجتمع العلمي، فالعلم النيوتوني الظافر هو الذي ستكون له الكلمة الأخيرة في كل المشكلات التي يمكن أن تعترضنا في المستقبل. طمأنينة كاذبة لم يكن لهذه الميكانيكا النيوتونية السعيدة أن تستمر طويلاً في سباتها الدغمائي، وسرعان ما ستستفيق منه بفعل مجموعة من المعضلات التي لم تستطع حلها والخاصة بالعالم المتناهي في الصغر عالم الذرة والجزيئات الصغيرة. لقد بات من المؤكد أن قوانين نيوتن لا تنطبق إلا على العالم الكبير أما هذا العالم المجهري فهو مثل العالم العجيب ل أليس (1) حيث الغرابة والممكن هما المسيطران وليس الوضوح والدقة. كان هذا إعلانا بميلاد الفيزياء الجديدة فيزياء الكوانطوم مع العالم الألماني ماكس بلانك، وكلمة الكوانطوم معناها أن المادة تصدر طاقة متقطعة على شكل حزم وبالتالي تكون الحركة هنا غير مستمرة إنها قفزات عكس مفهوم الحركة النيوتونية التي هي شيء متصل في المكان. داخل هذا العالم الغريب الذي ابتكرته فيزياء الكم يمكن القول بأن الإليكترون يلعب دور البطولة المطلقة، وهي البطولة التي أهلته لأن يحتل مكان الصدارة في ثورة فيزياء الكم التي هي في نهاية المطاف ثورة إليكترونية، وما الأجهزة الإليكترونية التي أصبحت تحيط بنا إلا أكبر دليل على ذلك: (جهاز الكمبيوتر والهاتف المحمول وأجهزة الإنذار وGPS وألواح الطاقة الشمسية وغيرها من الصناعات). فالإليكترون هو كائن له كينونة خاصة تقلب كل تصوراتنا عن الطبيعة، إنه أولا جزيء متناهي في الصغر إذ لا تتجاوز كتلته (31?10) وبسبب ضآلة حجمه هذا فهو يتصرف بطريقة غير مألوفة في حياتنا العادية. لقد لاحظ نيلز بور أن قوانين الحركة النيوتونية لا تنطبق على حركة الإليكترون، إنه لا يقطع المسافة كما هو معهود بل يقفز داخل الدرة من مدار إلى آخر بطريقة فجائية بوساطة كم متقطع من الطاقة، وبتغييره المدار الذي يسير فيه يستطيع أن يغير طاقته ويضبطها على هذا المدار الجديد. ولكن المرور إلى هذه الصورة الجديدة للطبيعة والكون لم يكن بالأمر الهين ليس فقط على عامة الناس، بل حتى على العلماء أنفسهم، إذ رفض قسم كبير منهم التخلي عن المفاهيم الكلاسيكية للفيزياء النيوتونية، فأينشتاين مثلا وعلى الرغم من مساهمته في بداية الأمر في بعض فتوحات النظرية الكمية إلا أنه سيتخلى نهائيا عنها بعد ذلك. وينسب أيضا إلى شروندينغر قوله: «إذا كان على المرء أن يخلص لهذه القفزة الكمومية اللعينة، فإنني سأندم طوال عمري على انغماسي في هذا الموضوع» (3) يقول فريد ألان وولف:» كان ميكانيك الكم لقمة أكبر بكثير من أن يستطيع ابتلاعها مجموعة كبيرة من الفيزيائيين الرجعيين يقودها واحد من مبتدعي فكرة الكم اسمه ألبير أينشتاين» (ألان وولف مع القفزة الكومومية ص 60). ثورة واعدةتمثل فيزياء الكم اليوم ثورة طليعية في مجال العلوم والتكنولوجيا، وهي واعدة على جميع الآفاق منها مثلا إمكانية الوصول إلى طاقة نظيفة وإيجاد علاج لبعض الأمراض المستعصية. وربما هذا ما جعل فريد ألان وولف يرى أننا أصبحنا نعيش داخل «العصر الكمومي» (ألان وولف مع القفزة الكومومية ص 11). إن انهيار التصور الميكانيكي للطبيعة يدل على أن هذه الأخيرة مع فيزياء الكم لا يمكن تصورها على أنها مجرد آلة تتحرك بتروس قابلة للحساب والتحكم فيها، وأن كل مكون من مكوناتها تتماسك فيما بينها بشكل مستمر، بل إن الطبيعة في العمق هي في غاية الغرابة، فسلوك الجسيمات يسير بشكل متقطع وفجائي والأشياء يمكن أن تتحول من طبيعة إلى أخرى والظواهر قد تحدث من دون سبب مادي ملموس إلى غيرها من الظواهر غير المألوفة في حياتنا العادية تقوم فيزياء الكم على جملة من المبادئ الأساسية وهي كثيرة (3) لا يتسع لها مقالنا، لكننا يمكن استعراض أهمها بشكل مركز كما يلي: الطبيعة المزدوجة للضوءالضوء ذو طبيعة طاقية موجبة وجزيئية مادية في الآن ذاته. هذا هو ما تثبته تجربة الشق المزدوج مثلا (4). إن الصفة الازدواجية الطاقية والجسيمية للمادة هي واحدة من أهم الأفكار التي جاء بها لوي دوبرلي سنة 1923، فالجسيمات المادية المكونة للضوء أي الفوتونات يمكن أن تتصرف أيضا بشكل مَوْجي، وهكذا يمكننا أن نتحدث عن موجات المادة. الفكرة نفسها انتهت إليها نسبية أينشتاين من خلال الصيغة الرياضية الشهيرة (E=mc2)، فالطاقة والمادة يمكن أن يتبادلا الأدوار مع بعضهما بعضاً ضمن شروط فيزيائية معينة. إن هذا هو ما يسمى أيضا بمبدأ تكافؤ الكتلة والطاقة. مبدأ الشكإذا كان مبدأ الملاحظة والقياس هو أحد أهم المبادئ التي قامت عليها الفيزياء الكلاسيكية، فإنه في مجال فيزياء الكم يتعذر تحقيق هذا المبدأ، في عالمنا الطبيعي يمكننا أن نعرف بدقة بالغة متى وأين سيكون القطار إذا عرفنا السرعة التي سينطلق بها من مدينة معينة، لكن من المستحيل معرفة المكان الذي سيكون فيه الإليكترون إذا عرفنا سرعته. لقد حطم هيزبرغ بمبدئه هذا قانون الحتمية الكلاسيكي الذي جاء به لا بلاس وغيره والذي طبقا له لا بد أن تكون هناك علاقة ضرورية بين السابق واللاحق، وأنه يمكننا التأكد مما سيحصل في المستقبل إذا حسبنا بدقة ما يحدث في الحاضر، غير أن ميكانيكا الكوانطوم تقوم فقط على تنبؤات احتمالية غير مؤكدة، وهو أمر لم يستسغه العديد من العلماء، ومن بينهم أينشتاين الذي أطلق صيغته الشهيرة التي ستثير العديد من النقاش: «إن الله لا يلعب بالنرد». على عكس مبدأ الحتمية تؤكد معادلة الارتياب على أنه من المستحيل تقديم وصف شامل للظواهر، فإذا قسنا موقع الإليكترون ينفلت منا سرعته، والعكس صحيح، لأننا إذا أردنا أن نقوم بعملية القياس فإننا نفعل ذلك بوساطة الفوتون، وهذا الأخير هو طاقة تزيد في حركة الإلكترون وسرعته. لقد أكد شروندنغر تبعا لهذا السلوك الغريب الذي يقوم به الإليكترون أنه من المستحيل أن نحسب موقع الإليكترون وسرعته في الآن ذاته. طبقا للمعادلة الشهيرة التي قدمها في هذا السياق، وأصبحت اليوم من المعادلات الكلاسيكية في فيزياء الكم. الترابط واللاانفصال La non séparabilité إن الترابط هو أيضا واحد من الظواهر الغريبة التي تقوم عليها فيزياء الكم وربما أغربها على الإطلاق، فالترابط أو اللاانفصال هو وجود جسيمين دخلا في احتكاك مع بعضهما ثم فصلا بعد ذلك، فلو أجرينا تأثيرا معينا على أحدهما فإن الآخر يتأثر بدوره حتى ولو كانت المسافة كبيرة بينهما. الأمر يشبه توأمين إذا حدت مكروه لأحدهما يحس به الآخر. فهل الجسيمات والإليكترون هي كذلك ايضاً؟ لقد دفع هذا البعض إلى القول بأطروحة الوعي، إن هذا الأخير ليس خاصا بالإنسان بل هو ظاهرة تسري في الكون برمته. هل المادة واعية بدورها؟ هذا شيء جديد على العلم، فالفيزياء تبدو كما لو أنها تغادر الأرض الخاصة بها: دراسة حركة المادة وقوانينها. بصفة عامة هل يمكننا أن نستفيد من هذا المبدأ للقول بأن الفضاء الزمكاني ونسيج الكون برمته يمكن أن يتواصل مع بعضه بعضاً على الرغم من المسافات الهائلة التي تفصل بين أطرافه، والتي تبلغ كما هو معروف سنوات ضوئية؟ هل معنى هذا أن الكون يتواصل مع بعضه بعضاً بشيفرة معينة؟ أو هل يمكننا أن نؤثر على شيء معين من مسافات بعيدة. لقد أصبح الآن معروفا طبيعة التحولات التي أصابت مفهومنا للمادة والحياة والكون، حيث كان ينظر إلى هذه الأشياء قديما على أنها سرية مغلقة على ذاتها أو على أنها ثابتة لا تتغير خاضعة لقوانين ميكانيكية جامدة، لكننا اليوم على يقين من أن هذه المفاهيم وإن كانت لم تفقد سحرها وغموضها فهي مع ذلك ليست منيعة على المعرفة كما كان يعتقد كانط، والشيء الأهم هنا هو أنها تتطور باستمرار هذا التطور الذي لا يمس فقط الحياة البيولوجية بل أيضاً المادة والكون ذاته مما سيدفعنا حتما إلى تطوير فهمنا وتصورنا لمفهوم قانون الطبيعة ذاته، بل إن المسائل الميتافيزيقية الكبرى التي ترسخت في تاريخ الفلسفة منذ اليونان وإلى غاية المرحلة الحديثة حول الوجود والصيرورة والأنا والوعي والمطلق... ينبغي أن تبحث اليوم في ضوء روح التفكير العلمي الكمي، ذلك أن تصورنا للكون والحياة لا يمكن أن يكون في منزلة إيبسمولوجية رفيعة من دون استثمار معطيات الثورة الكمية. هوامش 1 - المقصود القصة الشهيرة «أليس في بلاد العجائب» للكاتبة لويس كارول. 2- ألان وولف مع القفزة الكومومية ترجمة أدهم السمان، دار طلاس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1994 ص 168. 3 - بول ديراك مبادئ ميكانيكا الكم ترجمة محمد أحمد العقر وعبد الشافي فهمي عبادة، نشر كلمة الطبعة الأولى 2010. 4 - هي واحدة من التجارب التي أصبحت الآن كلاسيكية في الفيزياء الكوانطية، لكنها مع مازالت تثير العلماء ليس فقط بغرابتها بل أيضا بنتائجها هذه التجربة التي تثبت بوضوح التداخل الموجود بين الملاحظ والشيء الملاحظ، وكذلك الطبيعة المزدوجة للضوء، فالفوتون يتصرف كجزيء حينما نلاحظه ونرصده، أما حينما نكف عن ذلك فهو يتصرف كموجة. نيوتن والسببية إن قانون السببية النيوتوني هو قانون لا يمكن التخلي عنه في نظر أينشتاين الذي اختتم في خطاب الاحتفال بمئوية نيوتن قائلاً: «هل هناك من يجرؤ اليوم على أن يزعم حسم مسألة ما إذا كان قانون السببية والقانون التفاضلي وهما الدعامتان النهائيتان لوجهة النظر النيوتونية اتجاه الطبيعة يجب التخلص منها نهائيا؟». * كتاب «ألبير أينشتاين.. أفكار وآراء»، ترجمة د. رمسيس شحاتة، الهيئة المصرية للكتاب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©