الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شعرية السرد وغرائبية الواقع

شعرية السرد وغرائبية الواقع
15 مايو 2008 02:03
تحتوي المجموعة على ''''20 قصة قصيرة، وما يلفت الانتباه فيها هو تعدد أساليب الخطاب بين اللغة الشعرية أولاً وانزياح هيئة المعاني في النص فجأة إلى التفسيرية ثانياً، والغرائبية أخيراً· اللغة الشعرية عندما نقرأ قصة ''تعذبني أشياؤه'' لا يمكن إلا أن نتخيل أننا نقرأ قصيدة في خطاب شعري لامرأة تتحدث عن جزئيات عالم آني، يحصل في زمن السرد بما يعني أن زمن القصة يتطابق مع زمن السرد، وهذا التطابق جزء من بنية الشعر الحديث·· رجل يتحول إلى خزانة ملابس وإلى مرآة·· يتحول إلى زجاجة معبأة بالملح، ''ويتحول إلى أشياء أخرى كثيرة تجعلني لا أنام، تحول إلى أشياء أعرفها أحياناً، وتؤلمني أحياناً كثيرة، تحول إلى ساعة حائط ثم تحول إلى سفرة طعام·· تحول إلى باب خشبي قديم ثم تحول إلى سرير نومنا·· تحول إلى جوارب ثم تحول إلى قلامة أظافر·· تحول إلى زر في قميص ثم تحول إلى شاب متهور عاكسني في الشارع وأنا تلميذة فشتمته ثم شيئاً فشيئاً أصبحت زوجته'' ص·11 هذه التحولات جميعها ليست تحولات لذات الشخصية- الزوج، بل هي تحولات لتاريخ علاقة الساردة الزوجة بالمسرود عنه/ الزوج، عبر هذه التحولات تعطي روضة البلوشي كل تاريخ الساردة بالمسرود عنه·· هي بانوراما استخدمت نظاماً خيالياً لتحكي من خلاله تاريخ علاقة تمتد بعيداً بين زوج وزوجة حتى تختتمها بهذه العبارة ''تحول إلى مئات الصور الموزعة في أرجاء المنزل وفي البومات الصور التي احتفظ بها بعد رحيله عن حياتي منذ عام وبضعة أيام'' ص·11 اللغة التفسيرية من خلال تلك التحولات بوصفها نمطاً أسلوبياً يتضمن لعبة متخيلة، ليس من الضرورة أن تفصح لنا روضة البلوشي كل أدوات لعبتها السردية لتقرر عباراتها التفسيرية التي لا مبرر لها ''بعد رحيله عن حياتي منذ عام وبضعة أيام''· وهنا نتساءل أليس من المفترض أن تتوقف عند ''وفي البومات الصور التي احتفظ بها''·· كي تمنح المتلقي فسحة من التأويل وإدارة المعنى بل البحث عنه وتخيله إلى ما لا نهاية·· شعرية فاضت بخيال خصب وبتقنية ليست عادية بالرغم من أنها بنيت على طريقة السرد المتوالي، وفي الخاتمة يأتي الواقع ليقمع خيالات ما هو شعري· كذلك في قصة ''مثل شاة مريضة تقفين'' ثمة بناء لغوي هيمنت عليه شعرية اللغة تحكي قصة فتاة تحب فتى·· وتروي بعذوبة حواراً مفترضاً بينهما·· إلا أن المعضلة أن أهلها اكتشفوا حملها، ارتجافات الموت تحاصرها مع فضيحة مرتقبة·· النص يتحرك بهذا الاتجاه·· صحيح أن الحكاية لا تمتلك غرائبية إلا أن ما هو غرائبي تجلى في لغة النص الشعرية، وفجأة وفي المقطع الأخير تقول: ''الممرضة اللعينة هي السبب·· أخطأت نتيجة الفحص، والملف كان لمريضة أخرى'' ص,·32 ذلك هو المأزق الثاني الذي يقود النص إلى التفسير فلم تعط فسحة ولو ضئيلة للمتلقي في التفكر·· في إمكانية تخيل النهايات المفتوحة وكأن عالم القص يجب أن يغلق لكي تتحقق لذة النص عند المتلقي، الذي لا تشبعه لذة إلا بالبحث عنها في التأويل· النهايات الغرائبية ''حكاية إبراهيم'' هي الأجدى بهذا التوصيف·· إبراهيم الطفل الذي ارتبط بحضن أمه ''العقدة الأوديبية'' بعد رحيل أبيه عنهما، يرتبط بصداقة مع السارد الذي يصف مشيته بقوله: ''يجرجر قدميه المثقلتين بسلاسل مجدولة حول قدميه''، ''ويستمر يمشي مشيته المضحكة'' ص23 حتى وهو قد بلغ العشرين عاماً· أمه لا تريده أن يهرب مثل أبيه، والقرية تعرف الحكاية، وقد رمت الأم المفتاح في فتحة ''مرحاض'' في بيتها القديم على حد زعم النسوة في القرية· وإبراهيم المخبول يتعذب من رؤية الآخرين وهم يتجولون في الشوارع بحرية أقدامهم·· وسط هذا النص تروي روضة البلوشي بسياق انسيابي لا يشعرك بالإقحام حكاية الأب الهارب مع امرأة أخرى، وابراهيم لا يشبه أصدقاءه خليفة، وسعود، ومبارك· وفي صباح ليس كمثل الصباحات الأخرى وحينما كان الأولاد يلعبون عند التل كانت عيونهم تبصر إبراهيم وقد أطلق قدميه للريح، ركض خلفه الجميع الأم· الأطفال، النساء، الرجال، القرية كلها كباراً وصغاراً ولم يلحقوا به بعد أن تخلص من قيوده، من سلاسله الآسرة· حيث تلاشى وتلاشت ملامحه في الأفق البعيد خارج القرية· هنا لا نجد شعرية في النص بقدر ما نجد شعرية في الحكاية، إذ الحكاية تخلق شعريتها أيضاً· ولأن الحكاية واقعية، حادة في واقعيتها فإن غرائبيتها في هذا التحول والمطابقة، تحول إبراهيم من الأسر إلى الحرية ومشابهته أو مطابقته لفعل الأب المهاجر·· ولأن روضة البلوشي لابد أن تتعدد في تناولاتها لعوالم مختلفة في الواقع لذا تجدها تلعب على التقنية الغرائبية ومثال ذلك قصة ''في الواحدة وعدة دقائق'' التي لا تجد غرائبية في القصة ولا في اللغة، بل تجدها في التقنية ذاتها، أي أن الشعرية لم تعد لديها مقتصرة على الحكاية كما في قصة ''حكاية ابراهيم'' وليست مقتصرة على اللغة كما في قصة ''تعذبني أشياؤه'' بل نجدها هنا في التقنية/ الصنعة·· إذ يتحول الزمن في قصة ''في الواحدة وعدّة دقائق'' إلى بطل رئيسي في القصة· البطل فيها هو الزمن، والحكاية عادية جداً· رجل ينهض في الـ9 صباحاً بعد أن نام في 3 مساء وفي التاسعة و5 دقائق يغسل وجهه، وفي الـ9 و10 دقائق يفرش أسنانه وفي الـ9 و11 دقيقة ينتهي منها· ويستمر الزمن متوالياً دقيقاً في السرد، ليصبح الزمن هنا هو الشخصية المحكي عنها·· حتى لينتبه المتلقي إلى تحرك الزمن لا إلى تحرك الرجل·· حياة ترصد لساعات حتى الساعة 12 و30 دقيقة عندما دخل غرفته·· وانتحر، وبعد 10 أيام اكتشف موته، كل النص يتحرك في إطار زمني، ليس هناك إلا الزمن راوياً، ومروياً· النص المؤسس في أي مجموعة قصصية لابد يسترعي انتباهك نص تتجلى فيه كل الطاقة الإبداعية للمبدع من جهة تقنيتة أو موضوعته أو لغته، وأعتقد أن قصة ''حفيف المرآة'' لروضة البلوشي هي النص الذي يؤسس لنواة إبداعية مستقبلية، لكونه نصاً مركزياً في محور الإبداع لديها· ''فيروز خان'' سائق حافلة ينقل فتيات المدرسة·· وبين سباب الفتيات وتعليقاتهن المحتقرة يعيش عالم ''الآن الحاضر''·· وبين عذابات عالم جوعه في بلده يعيش عالم ''الهناك/ الماضي''·· وكل ذلك تعكسه المرآة المحدبة أمامه·· المرآة تجسد الحاضر حينما ''تتوغل عيناه من جديد في المرآة·· يتكشفن في فضائها ويضرجن بمفاتنهن في تجمعات كلامية غير عابثات بالطوفان الجاثم وراء ظهورهن·· تنتشله المرآة إلى زمن آخر، تتلاطم صور إخوته في وطن الدم·· تضيع معالم أبيه الذي قتل في معركة عشائرية''·· ''تفوح رائحة بيت الطين الذي حمل لهم ليالي باردة وأياماً سوداء دون غطاء'' ص·15 المرآة هنا تتحول إلى عاكس للذة مقهورة في الحاضر وإلى قهر متمثل في الماضي· حيث استخدمت روضة البلوشي تلك الآلة بوصفها آلة سردية مهمتها توصيل حكاية ماضية إلى النص وعكس مشهد آني في الحكاية المعاشة· لذا تقف المرآة وسطاً بين الماضي والحاضر، الماضي القاسي المفقود والحاضر القاسي الموجود، وعندما يتذكر عبر المرآة ويشاهد كل هذه الصور ''يعدو بالحافلة حين يرى الشارع خالياً·· فتباغته إحدى المطبات قبل أن ينتبه لها وتصطدم بالإطارات بقوة'' ص16 يسمع صوتاً ''فتح عينك يا حيوان''·· فيفتح عينه ليرى المرآة قد تهشمت· مع انتهاء عرض الحكايتين في الماضي والحاضر لم تعد هناك قيمة للمرآة لأنها وسيلة العرض التي لابد أن تنتهي مع انتهاء الحكايتين، وهذا ما تحقق فعلاً·· نص مدروس بإتقان ونهاية لا تحتمل إلا هذه الخاتمة التي تطابق فيها الفعل والقص معاً·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©