الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فرنسا والعلمانية القلقة تجاه المسلمين

فرنسا والعلمانية القلقة تجاه المسلمين
15 مايو 2008 01:29
بقدر ما كانت العلمانية الغربية اكتشافاً إيجابياً ومُبدعاً، بما أتاحته من فرصٍ سياسية لفكّ الاشتباك الذي كلّف المجتمع الغربي عشرات الحروب، بسبب الصراع على الدمج بين الدولة والاعتقاد الفكري، تُهدد العلمانية المعاصرة المتحولة إلى دين أو أيديولوجيا بتخريب الوعي السياسي والنضج المجتمعي وتعميق الخلط، تالياً، بين سلطة الدولة ومذهب الفرد وعقائده· وفي أفق هذا التحول، تتبلور أزمة العلمانية الغربية في أقصى تجلياتها ومفارقاتها· ولعل النموذج العلماني الفرنسي (وهو أحد النماذج العالمية -لا الغربية فحسب- الأكثر تشدداً في علمانيته، (وهنا تحديداً تكمن خصوصيته) من أهم الأمثلة التي تعكس بشكل صارخ معالم هذه الأزمة، والتي تبدو مُجسّدةً-بكل وضوح-من خلال تعاطي الدولة الفرنسية مع قطاع مهم من قطاعات الشعب الفرنسي، والمقصود بالطبع مسلمي هذا البلد بفئاتهم وشرائحهم كافة· إن مقتضى ''الفرادة'' التي تُميز النموذج العلماني الفرنسي، كما يقدمه مؤيِّدوه، هو اعتماد النظام السياسي والاجتماعي والثقافي لهذا النموذج على تقديس حرية الفرد ومساواته مجرداً من انتمائه الديني أو الإثني· ويدور لبّ المنطق الفرنسي على حشد المواطنة خلف قيم الجمهورية على نحوٍ يُعيد ترتيب الفرد وفق نموذج الجمهورية الجماعي· وواضح أن نموذج فرنسا في مسألة الانصهار الاجتماعي يختلف عن ذلك الأنجلوساكسوني الذي يتأسس على فكرة تعايش المجموعات بالاحتفاظ بخصائصها الإثنية والثقافية والدينية في مقابل احترام الآخر ضمن الوطن الكبير وقواعده· علاقة فرنسا بالإسلام بعيدة الغور في التاريخ وقديمة جداً، ولا شك أنها الأقوى مقارنةً بالدول الأوروبية الأخرى، إذا استثنيت حالة إسبانيا المعقدة· وقد تلقت هذه العلاقة دفعة قوية واكتسبت طابعاً خاصاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تحت تأثير مُقتضيات إعادة الإعمار والتي جعلت فرنسا تُكثِّف من سياسة الاستقدام للعمال الأجانب من المستعمرات، والتي بدأت مع البربر الجزائريين منذ عام ،1906 فشرعت في استقدام العمال المغاربة، الذين زاد عددهم عن المليون في الستينيات· يتراوح عدد المسلمين في فرنسا حالياً بين خمسة وستة ملايين شخص، وعليه تعتبر فرنسا أكبر دولة أوروبية في تعداد المسلمين، وإذا أخذنا في الاعتبار التقدير الأعلى، فستكون نسبة عددهم حوالي عُشْر عدد السكان· وفي العلاقة بين هؤلاء والدولة الفرنسيـــة، ظلّ الرهـــان الأساسي هو مدى قدرة الجانبين على التعاطي والتفاعل مع قضيــــة ''دمج'' المسلمين في المجتمــــع، ومـــن ثم ''اندماجهم'' بصورة سليمــــة وكاملـــة يُمكِن أن تُشكل نموذجاً مُشجعـــاً في سائر أنحاء القارة الأوروبيـــة· ما لا تدركه العلمانية الفرنسية على أن النموذج العلماني الفرنسي للاندماج ما فتئ منطوياً على إشكالٍ جوهري، فهذا النموذج ينطلق من ضرورة كسر التجمعات الإثنية والدينية، ويُعطي لها هامشاً أقل من التعبير الثقافي المستقل مقارنة بالنموذج الأنجلوساكسوني· فمن الصعب أن نجد في فرنسا كنائس مغلقة على السود أو على الآسيويين فقط، كما لا ينظُر هذا النموذج بعين الارتياح لهؤلاء المسلمين الذين يرتدون أزياءهم التقليدية أثناء ذهابهم إلى المساجد أو أثناء سيرهم في الشوارع، ويعتبر أن التماهي وأحياناً التطابق مع قيم النموذج الفرنسي يكسر-أولاً-الانغلاق العرقي، ويعطي-ثانياً- فرصاً أكبر لأبناء هذه الجاليات في الترقي داخل السلم الاجتماعي والسياسي بمنحهم فرصاً متساوية عن طريق دمجهم في قيم الجمهورية الفرنسية وليس من خلال بقائهم في تجمعات إثنية ودينية مغلقة· ومع أن المؤسسات الرسمية الفرنسية تُعلن مراراً وتكراراً أنها تعمل على إنصاف مواطنيها المسلمين، إلا أنها لم تحقق نجاحات ملحوظة· فعلى سبيل المثال، تصل نسبة البطالة بين المسلمين ذوي الأصول الجزائرية والمغاربية إلى 30% بينما هي لدى الفرنسيين بعامة لا تزيد عن 10%· ثم أن الوظائف التي تُعرض على هؤلاء أكثرها مؤقت، وليست من الدرجات التي تتفق مع المؤهلات· ما لا تدركه العلمانية الفرنسية (أو هي تدركه وتحاول أن تتجاهله)، أن الاندماج لا يسعه أن يتحقق من طرف واحد، وأنه ينبغي أن يكون هناك اثنان لإنجاحه· وأنه بالحكمة والسياسات بعيدة المدى وغير التمييزية يمكن التوفيق بين القيم الجمهورية والهوية الإسلامية العصرية، ويبقى خطراً إلى حدّ كبير ذلك الانطباع عن عنف الإسلام أو عن افتراقه عن قيم الجمهورية الفرنسية· ويتبقى لنا في الأخير، التأكيد على أن العلمانية تعني حماية الدولة من الدين، ولا تعني مطلقاً إعطاء الدولة الحق بإلغاء مظاهر الدين (أيّ دين) أو تهميشها ومحاربتها، وإلا تحولت العلمانية إلى دين جديد يُلغي بقية الأديان ويُرغم الأفراد على اعتناقه· أي أن فكرة العلمانية-في أرقى صورها- تقوم على خلق مجال عام يحترم حرية الفرد ويرفع عنه صور الإكراه ويحميه من ضغط الانتماء الخاص، أما حين تخلق العلمانية لنفسها سلطة منع الفرد عن التعبير عن ذاته وهويته، فإنها تكون ناقضة لمقاصدها وحقيقتها· وفي فرنسا، البلد الذي يفتخر بكونه مهد فلسفة الأنوار، يظل جوهر المشكلة -للأسف- قائماً: تريد العلمانية الفرنسية استيعاب المسلمين، لكن دون أن تتغير هي ذاتها، ودون أن تراجع أسسها وتبحـــث عن توازنــات جديدة تُوسع من طاقتها الاستيعابية· هل هذا ممكن؟ العلمانية تحمل تاريخها، وهو تاريخ تفاعلها مع تحديات عرضت في مسارٍ تاريخي يمتد أكثر من مائتي عام· غير أنه حيال تحديات جديـــدة لا يسع العلمانية الفرنسيـــة -وقد باتت أقرب ما تكون إلى عقيدة نقاء وطهر لا تجربة إنسانية تُخطئ وتصيب- أن تطالب بالولاء لها وأن ترفض التفاعل الخلاق مع ''الآخر'' في الوقت نفسه··· وإلى أن تستوعب تماماً هذه الحقيقة، ستظل تراوح ''أزمتها'' وقلقها ولو إلى حين! محمد سيف حيدر باحث وكاتب يمني ينشر بترتيب خاص مع خدمة مصباح الحرية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©