الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في وطن الشِّعر

في وطن الشِّعر
21 مارس 2018 20:37
ترجمة : أحمد حميدة أن نلتقي الشّعراء على الأرضيّة التي يطأون، فإنّ ذلك يعني أوّلاً أن نلتحق بهم في قلب الوطن الذي داخله يتنفّسون.. وطن الشّعر. ويعني ذلك أيضا أن نواجه تساؤلات تستلزم، قبل أيّة مقاربة للنّصوص الشّعريّة، تحديد المفاهيم التي يتوقّف عليها منهج قراءة تلك النّصوص، وهي تساؤلات من قبيل: ماذا عسانا نقول عن القصيد حين نحاول الاقتراب من أعمال شعريّة؟ أيّة دلالات قد تكتسيها اللّغة الشّعريّة في تلك الأعمال؟ وأيّة معان تستكنّ داخلها؟ ما هو الشّعر؟ لماذا الشّعر؟ وما الذي قد يحملنا على التعلّق به؟ على هذا السّؤال الأخير، ليس للشّعراء من إجابة غير أنّهم بالشّعر يتلمّسون سبل التجذر في قلب الحياة والتوطّن في رحمها. أمّا عن سؤال لماذا الشّعر، فكلّ شيء في أعمال الشّعراء، يشي بحرصهم على الظّفر بوجهة بحث تمكّنهم من الحفر عميقا في المبهم والمُلغَز. غير أنّ وجهة السّؤال قد تتغيّر إن كان المتسائل هو القارئ ذاته، وإذا كان هذا الأخير، في سبيل معرفة أفضل للشّعر ولمبرّرات وجوده، وتثمين أدقّ للنّصوص الشّعريّة، يثير قبل كلّ ذلك مسألة تعريف الشّعر، وهو التعريف الذي سرعان ما سيغدو متفلّتا، متى واجه القارئ هذه المسألة بمنظومة مصطلحات متقادمة.. تعود إلى زمن بائد. أقاليم الشّعر لقد طال الحديث عن التحدّي الذي يطرحه الخطاب الشّعري، بالنّسبة لمن يروم تعريف الشّعر وتحديد منزلته، أو تسييج هويّته الفريدة داخل اللّغة. نحن نعرف أنّه بالانعتاق من عبء الوزن والقافية، أمكن لهذا الخطاب إرباك التّعارض القديم بين النّثر والشّعر، ذلك التعارض الذي تزعزع منذ أمد بعيد، بفعل مفاهيم مثل النّثر الشّعري، بل بإثبات ساخر يرى أنّه ولئن كان نُظّامُ الشّعر كثرٌ، فقلّة هم الشّعراء. غير أنّ ذلك الخطاب، وفي سياق المغامرة اللّغويّة، قد أثبت أن ليس ثمّة بحث لا تُختبرُ فيه اللّغة، وأنّه لا اشتغال على اللّغة.. لا يكون تمشّياً روحانيّاً يتشكّل عبره الفكر، الذي يكون قد اغتنى بالتّجربة الوجوديّة. وبالتّعارض بين النّثر والشّعر، تتضاءل أهميّة الشّكل والمضمون: فالقصيد ليس أسلوب صياغة ينضاف إلى معنى ما، ولكنّه بمخاض الكلمات.. خطاب يتمّ ابتكاره للإفصاح عن حضور ما في العالم، بكلّ التّعقيد الذي يعنيه أن نكون هنا، في قلب تلك التّجربة، تجربة المتعدّد والطّارئ، التي يتمّ من خلالها القبض على دقاق من الحقيقة. حينئذ.. بعيداً عن التمزّقات التي كانت تحبسه داخل قوالب جاهزة، يكون الخطاب الشّعري خطاباً متحرّكاً وعابراً لكلّ الحدود. متفلّتا عن كلّ فصل بين الأجناس، لأنه يخترقها جميعا، فهو يعمل على إبداع نصوص تنتظم وفق ضرورة داخليّة، ضرورة تمليها الكلمات، ولكن في نفس الوقت ضرورات الحياة والتفكّر الذي تولّده فينا. وسواء تعلّق الأمر بنصوص شعريّة أو بقصائد، فإنّ الكلمات المتداولة تكون بحاجة إلى التخفّف من عبء ماضيها. وافدة من زمن كان يُحكم فيه على الشّعر بالنّفي، تأتي تلك الكلمات وهي تسحب معها الفكرة المسلّم بها من أنّ القصيد يكون موهوبا للعين عبر عمليّة رصف للحروف، وللأذن عبر تأرجح لإيقاعاته. هكذا يترسّخ اعتقاد شائع يمنح القصيد ما لا يمنحه هذا الاعتقاد للنّثر، ويجعل البيت الذي يكون قد غدا «منفلتا»، كما الفراغات ومواطن الصّمت التي تتخلّله، رمزا للشّعر ذاته. ويكون القصيد بهذا المعنى هو تلك الذّبذبة التي تسري في الكلمات، فتحيلها إلى خطاب نابض بالحياة، أو إلى « نصّ مفصح عن تحوّل ثابت وموصول». ولا أهميّة أن يتعلّق الأمر بقصائد أو بنصوص نثريّة، طالما أنّ الكتابة تكون قد فعلت فعلها، واللّغة قد غيّرت حدود ما كان قد قيل من قبل وتمّ التفكّر فيه. حينئذ.. لو كان علينا، في غياب كلّ تحديد ممكن للشّعر، أن نعثر على كلمات تحاصر الشّعر وتحيط بمجاله، لكانت كلمتا جسارة وحفر، وكلمة صمت أيضا، تفضي إلى التّجربة الشّعريّة وتدفع إلى التأمّل والتحكّم الفعلي في الكلمات، الذي يثبته كلام الشّاعر حين ينبذ التصنّع والادعاء الزّائف. وباعتباره كذلك، أي تجاسر وحفر وصمت، لا يكون الشّعر اليوم مجرّد مطالبة بالحريّة، إذ هو في ممارسته لتلك الحريّة، يفصح عن حالة تعطّش جامح إلى المعرفة، ولا شيء قد يرويه. ويذكّرنا الفيلسوف أنّ الحقيقة ولئن كانت واحدة، فلا أحد باستطاعته الادعاء أنّه يمسك بها كاملة، حريّ بنا حينئذ أن نظلّ أوفياء لها وأن نمعن في البحث عن جذورها المنكتمة في سرّنا. ومن ثمّ، يكون الشّاعر هو ذلك المترحّل على صهوة الكلمات، الذي يرى أنّ تلك الكلمات تمكث هنا، لا من أجل الإذعان للأعراف، ولا للتقولب في ما يكون قد قيل من قبل، وإنّما للتوثّب إلى الأمام والدنوّ أكثر فأكثر من تلك الحقيقة المخفيّة.. المنطمرة في ظلمة الوعي، والتي يكون الشّاعر بحاجة إلى رفع الحجاب عنها. ولأنّه يأبى الانضواء تحت أيّما جنس مألوف، ويقيم وجوده في مكان ما آخر، فإنّ الشّاعر يحيك نصوصاً متنوّعة، فيجعلها متراوحة بين إثارة اللّحظات المشرقة، وتحليل المخاض الباطني الذي تتبلور وفقه الأحاسيس والمشاعر، ومنه إلى تأمّل في وساطة اللّغة، وفي حدودها وأوجه ثباتها، إذ لا يغدو الخطاب الشّعريّ قابلا للقراءة إلاّ متّى تمّ القبض علي عند مسار توثّبه واندفاعه. وأن نتعقّبه.. ونحن نطالع عملا شعريّا ما، فإن ذلك يعني أن نرافقه في مسيرة استبصار على صلة وثقى بالحياة أو باللّغة أو بالفنّ، وحركة الأحداث وإيقاعها في السرّ، كما يعني ذلك أن يتحدّث أيضا.. في خضمّ وجود لا يعدو كونه مغامرة، عن الألم والسّعادة، عن الوصل والفصل، وأن يتمدّد في الخيال، أو يغدو يقظا للآخريّة في هذا الوجود، أو أن يستعيد الشّعر في الموسيقى أو في الرّسم، في إشراقة الضّياء أو في احتباس اللّيل، وأن يتحدّث عن قدرات اللّغة أو عن خياناتها وصمتها.. كلّ ذلك يجعل الشّاعر في حالة نزال مع الكلمات، يرتطم بها وهو مأخوذ في مدّ وجوده، وفي تفيّض تلك الكلمات، في حركة اِقترانها وفي اغتنائها دلاليّاً. فأين يكون موضع الخطاب الشّعريّ في هذا النّزال الثّابت للشّاعر مع المادّة التي منها يشيد قصيدته... اللّغة. لغة الشّعر هنا أيضا، نحن بحاجة إلى أن نترك جانبا الأفكار المألوفة التي ترى في الصّورة والإيقاع والدّندنة اللّفظيّة، السّمات المميّزة الخاصّة بالقصيد، فيكون الأمر كما لو أنّنا لكتابة عمل شعريّ، قد لا نحتاج لغير التّأليف بين تلك السّمات والجمع بينها وتنويع تأثيراتها، وكما لو أنّ تلك السّمات قد غدت مقصيّة من الاستعمال الشّائع للمقول أو المنطوق. (...) غير أنّ الشّعر ليس مسألة كلمات فحسب، كلمات أو جمل تدخل في تركيب القصيد وتسهم في تعدّد معانيه، إذ هو يستلزم نَفَسا حيويّا، النّفسُ الذي يغدو تغريدة متى ساعد تناغم الإيقاع على ضبط ترتيب الكلمات ورنينها. حينها.. ومشتغلا على نحو دقيق، يسجّل الشّاعر على الورق مواطن الصّمت الذي ينتظم كلامه، وذلك حين تتجمّع في كلمة أو صورة.. الأحاسيس التي ظلّت قبل ذلك مشتّتة، حتّى تنكشف في عرائها.. موسيقى القصيد. (...) أمّا في ما يتعلّق بالكلمات التي تشكّل اللّغة، أي اللّغة التي يَقبس منها كلّ مقول.. مفردات الشّعر، فإنّها هنا من مقطع إلى آخر، تُجبل وتُوثق، بل وتتقلّص، كما لو أنّها باضطرامها في النّار الباطنة قد استعرت حدّ التوهّج. وإنّ هذا الاشتغال على اللّغة، التي تغدو وكأنّها حقل قُوًى إبداعيّة، والتي وهي تمنح المقول الشّعريّ كلّ كثافته، تهبه أيضا بتحوّل صوره وإيقاعاته، القدرة على التموقع دائما «في غمرة أنوار البدايات». حينئذ.. إن كان علينا الحديث من جديد عن القصيد للتّلميح إلى تلك المنجزات الأشدّ إحكاما والأكثر اكتمالا، حيث يجسّم الشّاعر على سديم الصّفحة، بالبيت أو بالمقطع الشّعريّ، نَفَسَ كلماته التي تكون قد استحالت تغريدة، يفصح الشّعر عن حضوره بمجّرد أن ينبثق من تلك اللّغة صوت نابض، يسري مستقصيا، متلكئا، ولكنّه صوت عنود يريد الإفصاح عن الكلمات التي تُبتكر عند «الطّرف المتقلّب والغامض للحركة».. المعنى.. الحقيقة المتملّصة في الأفق.. يكمن الضّياء الذي قد يخلّص الإنسان من «قدره المعتّم»، الضّياء الذي قد ينشأ من معرفة طالما اِلتمسها الإنسان، وقد تحلّ فيه في لحظة امتلاء صرف فتمنحه معنى للحياة، وأفق تلك المعرفة.. أفق متّصل لا انقطاع فيه. لا شيء هنا.. إلاّ ويكون متملّصا، ومع ذلك لا شيء لم تتمّ ملاحقته بلا كلَلٍ، فشديدة هي سطوة التعطّش إلى المعرفة، ملحّة هي رغبة الإنسان في إدراك الحقائق، وبالغة هي حاجته إلى التّفكّر في ما وراء ما تمّ التّفكير فيه من قبل: «إنّ المبهم ليقبض على حنجرتي متى أردتّ الإفصاح» (لوران غاسبار). ويظلّ المعنى متفلّتاً ومبهماً، غير أنّ الشّاعر لا يتوقّف عن طلبه والسّعي وراءه، والتقدّم منجذباً نحو وميضه، الذي وإن كان صعب المنال، فهو يلقي بالتحيّة محدّدا وجهة خطابه، مجدّدا تساؤله الذي لا آخر له، لأنّ «السّؤال هو ما ينشده الفكر» (موريس بلانشو)، وإنّها للرّغبة التي لا شفاء منها، حين يصطدم الشّاعر بالصّمت وبغياب أيّة إجابة. يقول غييوفيك: «تساؤلاتكم/‏ تساؤلات على التّساؤلات/‏ تساؤلات لا نهاية لها». هكذا يمضي الشّاعر، دائم التأهّب للرّحيل، متّكئا على الكلمات، محاولا بها وعبرها تفكيك رموز المبهم، أو على الأقلّ زحزحة المجهول إلى الوراء. ولعلّ الأمر الثّابت الوحيد والمتاح.. هو ذلك التّساؤل الذي لا آخر له، هو ذلك الترقّب الذي لا ينتهي للمعنى، الذي طالما عمل الشّعر على استكشاف تجلّياته وملامسته. تلك كانت قناعة إيف بونفوا وهو يقرأ أعمال لوي - رينيه دي فوري: «بعض من المطلق يمكث هنا (...)، في انجراف المعاني والتّساؤلات، ينكشف جوهر قدرنا بين العلامة المراوغة والمفارقة العسيرة». إنّنا بإزاء سبل تمرّ عبر الكلمات الأشدّ بساطة، تلك التي تتحدّث عن الإنصات إلى ذبذبات الوجود، وإلى الوشوشة الخفيّة المضمرة في الكائنات والأشياء، الشّعراء هم أولئك الذين يتحدّثون عن مغامرة أن يكون المرء إنسانا، أي «ذلك الإنسان العابر لجميع البشر والذي لا أحد من هؤلاء البشر يعرفه تمام المعرفة»، إنّهم أولئك الذين يسائلون الزّمان والمكان واللّغة والصّمت، واللّيل والنّهار..، وإنّ كلماتهم تلك لشبيهة بعدد لا حصر له من «جسور ملقاة فوق الفراغ، وتمتدّ نحو شاطئ خادع ومراوغ» (فيليب جاكوتيه). في مثل تلك السّبل يمضي القارئ، إن كان في الوقت الذي يقتحم فيه أعمال الشّعراء، يموضع خطابه في علاقة حيّة مع خطابهم، وهو الخطاب الذي يزعجنا إلى الإنصات ويستفزّنا إلى الحوار. نحن بحاجة إلى الشّعراء إنّنا لنظلّ بحاجة أكيدة إلى الشّعراء، لأنّهم يحملوننا على تأمّل العالم من حولنا، وسبر أغوار الأسرار المستكنّة في سرّنا والمتحكّمة في أقدارنا، ولأنّ كلماتهم تسعفنا لمواجهة حيرتنا وارتياباتنا. إنّهم يترصّدون ويتدبّرون ويعبرون الواقع وهم يتساءلون، ينصتون إلى اختلاجات هذا الواقع، وعن مظاهر تقرّحه وتشنّجه يترجمون. إنّهم لكَمَا وصفهم الشّاعر الفرنسيّ.. جاك فيال بيسّي، وهو يحتفي بذكرى وفاة فلاديسلاس ميلوش.. «مترحّلون نبلاء»: هم فرسان طوّافون يحلمون حياتهم وأحلامهم يعيشون في سديم المكان والزّمان متغرّبة.. متشرّدة.. هي عقولهم وهم على الدّوام مترحّلون وأبدا.. لا يتوقّفون جسارة وحفر وصمت لو كان علينا، في غياب كلّ تحديد ممكن للشّعر، أن نعثر على كلمات تحاصر الشّعر وتحيط بمجاله، لكانت كلمتا جسارة وحفر، ففيما تحيلنا كلمة جسارة على حالة توثّب يتّحد فيها المقول بالفكر وبفنّ الحياة، تحيلنا كلمة حفر على اختراق للسّطح كيما تنبثق من أعماق المبهم أنوار معرفة ما. ثمّ إنّها كلمة صمت أيضا، التي تحيل على حالة من التجرّد الباطنيّ (أن نحلّ بداخلنا الفراغ والصّمت).. تفضي إلى التّجربة الشّعريّة وتدفع إلى التأمّل والتحكّم الفعلي في الكلمات، الذي يثبته كلام الشّاعر حين ينبذ التصنّع والادعاء الزّائف. لا لغة للشعر نحن بحاجة إلى أن نترك جانباً الأفكار المألوفة التي ترى في الصّورة والإيقاع والدّندنة اللّفظيّة، السّمات المميّزة الخاصّة بالقصيد، فيكون الأمر كما لو أنّنا لكتابة عمل شعريّ، قد لا نحتاج لغير التّأليف بين تلك السّمات والجمع بينها وتنويع تأثيراتها، وكما لو أنّ تلك السّمات قد غدت مقصيّة من الاستعمال الشّائع للمقول أو المنطوق. لعلّنا بحاجة إلى التّأكيد هنا أنْ ليس ثمّة لغة للشّعر، وأنّ الشّاعر وحده مدعوّ إلى «إقحام اللّغة في الشّعر». لوران غاسبار
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©