الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مفاتن اللغة.. العصيّة

مفاتن اللغة.. العصيّة
21 مارس 2018 20:22
د. أم الزين بنشيخة المسكيني يبدو أنّ نثر الأسئلة على بساط اللغة نهج طريف يشترك فيه الفلاسفة مع الأطفال ومع الشعراء أيضا. أيّ رابط حميم يجمع بين الطفولة والفلسفة والقصيدة حينئذ؟ دريدا الفيلسوف الفرنسي المعاصر كتب ذات مرّة «أنّ الفلسفة تصلح لطمأنة الأطفال». ورنسيار الفيلسوف الذي لا يزال حيّا بيننا كتب من جهة أخرى ما يلي: «إنّ مدينة بلا شعراء لا تصلح الاّ لهدهدة الرضّع». وباديو الشيخ الذي لا يزال ينسج خيوط هذا العصر يصرّح بأنّ «القصيدة هي باحة استقبال اللامتوقّع في الفلسفة». غير أنّ اللامتوقّع هو بحوزة الأطفال فقط لأنّه يأتينا دوماً من جهة المستقبل. «هل غادر الشعراء من متردّم» إذن؟ ها نحن نبدأ من مكان قصيّ في روحنا العميق، نحن الذين نسكن لغة الضاد كأخصّ عالم يناسبنا، لأنّا لا نستطيع أن نسكن غيرها وفق عبارة رشيقة جاءت على لسان فيلسوفة العصر حنّا آرندت أنّه «بوسعنا أن نتكلّم لغات عدّة لكنّنا لا نستطيع أن نسكن غير لغة واحدة هي اللغة الأمّ». استصلاحات الشعراء الشعر هو اقتدار اللغة الأمّ في تبذير رموزها وغموضها ومفاتنها العصيّة في شكل جمل لا تنتهي.. ندخل باحة الشعر اذن من معلّقة عنترة ابن شدّاد (525م 608م) التي يفتتحها تسآلاً عن «المتردّم» بما هو باحة فعل الشاعر. والمتردّم لغة هو الموضع الذي يُسترقع ويُستصلح من وهن أصابه. وقيل في شرح معلّقة عنترة أنّ الشاعر هنا انّما ينكر أن يكون ثمّة وهن لم ينهض الشعراء باستصلاحه. والسؤال الذي يهمّنا هنا هو: هل لا يزال الشاعر اليوم يملك مثل هذا الادّعاء، أي القدرة على استصلاح كلّ أشكال الإعياء الميتافيزيقي والروحيّ التي أصابت عالمنا؟ لنقل بادئ الأمر أنّ لأسئلة الشعراء أصداء كونيّة غير متوقّعة، لأنّ الشعر هو «روح العالم» كما يقول نوفاليس، وعليه ثمّة صدى لهذا السؤال حول مدى اقتدار الشعراء على استصلاح أفق المعنى في ثقافة ما، صدى الانصات الى نداء الكينونة في لغات أخرى وفي أزمنة لاحقة على عنترة العربي، صدى يأتينا تحديداً من مقطوعة «الخبز والنبيذ» للشاعر الألماني هولدرلين (1770 1843)، هو السؤال الثقيل «لماذا الشعراء في زمن البؤس»؟ سؤال كرّره هيدغر في تكريم لريلكا «لأيّ شيء يصلح الشعراء؟».. لكنّ أسئلة الشعراء لا تنتظر إجابة ولا تتسوّل أيّ شكل من المعنى من خارج جسد القصيد نفسه. وهو ذات الأمر الذي صرّح به هيدغر عن سؤال هولدرلين قائلاً «نحن بالكاد نفهم اليوم السؤال، فكيف بمستطاعنا فهم الإجابة التي قدّمها هولدرلين». نعم هولدرلين يعلّمنا كيف يصلح الشعراء في الزمن الرديء من أجل عبور ليل بؤس العالم.. بالرغم من طول ذاك الليل حيثما تنحسر مساحة المعنى، وتسطو على العالم سياسات إنتاج ثقافة البضاعة، وإنسان الاستهلاك وحضارة الأرقام والأموال. سيكون السؤال حينئذ هو التالي: كيف بوسع الشعراء جعل العالم قابلاً للسكن؟ كيف بوسع القصيدة إعادة العالم إلينا بعد أن اتسعت الهوّة بيننا؟ فلنفترض من باب الحيطة الجماليّة أنّ أسئلة الشعراء ليست قابلة دوما للفهم وللاختراق.. لكنّ مقصدنا الدقيق ههنا هو التالي: أيّة منزلة للشعر اليوم في حضارة السوق حيث تزداد هشاشة الإنسان من جهة، وحيث تنتعش أجندات اللاهوت من جهة ثانية، مما أدّى الى تفقير المعنى واختلال الروح وتصحّر الثقافة وتسطيح قيم الذوق الجمالي؟ إعادة تأهيل بوسعنا الإشارة هنا الى مفارقة يعيشها الشعر اليوم في الفكر المعاصر: من جهة ثمّة إعادة تأهيل فلسفية مكثّفة للشعر اتفق حولها أقطاب الفلسفة المعاصرة منذ هيدغر ومن بعده دريدا وباديو ورنسيار ونانسي ونيغري وأغمبان. ومن جهة ثانية صارت القصيدة ضرباً من الجنس الفنّي المهمّش منذ أن أعلن بودلير «لقد فقد الشعر في المدينة الحديثة مجده». بحيث انتصرت عليه الرواية بوصفها تعبيرة فنّية أكثر انتشاراً وأكثر قبولاً بين الجماهير. بيد أنّ باحة الشعر تشهد عالميّا منذ عشرينات القرن الماضي الى اليوم، على ولادة جنس جديد من القصيد هو القصيد الجديد أو القصيد الحرّ أو القصيد النثري. حيث تكثّفت التجديدات الحاسمة صلب القصيدة، وعليه يصحّ الحديث عن نوع من التعدّد الأجناسي في فنّ الشعر المعاصر يجسّده ظهور القصيد المسرحي أو الأدائي، والقصيد الرقمي، والقصيد الغنائي والقصيد الحيوي الذي أنتجه فنّ «البيو آرت»... وفي الحقيقة يتعلّق الأمر بتحولات عميقة شهدتها القصيدة كجنس أدبي منذ براديغم «الشعر المطلق» (نوفاليس 1772 1801)، والشعر الهرمسي أو المستغلق (مالارمي 1842 1898) و»الشعر الخالص» (فاليري 1871 1945). وقد أرّخ الفلاسفة لهذه التحوّلات من خلال مفاهيم استكشافية عديدة ومختلفة هي: عصر الشعراء، (باديو)، وموت القصيد (أغمبان)، وولادة الشعراء/ العمّال الذين يخترعون صلب الجماهير أشكالاً جديدة من الحياة (نيغري). ولا يمكن أن تمثّل هذه الطرق الفلسفية في الاحتفاء بالقصيد الجديد غير تشريف للشعراء الذين التحقوا بالفكرة يقتنصونها وينثرونها على أعتاب عالم صمتت حواسّه وتكلّست مشاعر الفرح والابداع فيه. إنّ الشعراء مطالبون أيضا بأن يلتحقوا بسرعة العالم، وأن يخترعوا باستمرار لغات مغايرة لجعل ما يحدث في العالم أخفّ وطأ على سكّانه الحاليين. وربّما قد ينتهي كلّ من لا يزال قابعاً حذو «دار عبلة» صلب بحر الكامل بالغرق في قاع تاريخ لا يعيد نفسه إلاّ في شكل مهزلة. فلقد غيّرت «عبلة» من عنوانها والتحقت بالقصيد الحرّ الذي لا بحر له غير نثر العالم من أجل مساعدته على أن يكون. لكن نثر العالم شعراً من أجل أن يكون ثمّة عالم ضدّ كل العدميين الحاليين والمدمنين على فلاحة الخراب، يمنح القصيدة الجديدة مهمّة أنطولوجيّة أساسيّة: إنّها قصيدة تفكّر. القصيدة المفكّرة لكن بِم تفكّر القصيدة؟ بهذا السؤال الذي ارتضاه الفيلسوف الفرنسي المعاصر ألان باديو عنواناً لآخر كتبه (نوفمبر 2017)، يقع تحرير القصيد من قصيد سجين»لاهوت الكلمة» وقواعد أباطرة التفعيلة، الى القصيدة الجديدة بما هي فعل تفكير. ههنا يحصل اللقاء بين الفلسفة والشعر بوصف الشعر هو «شرط الفلسفة نفسها». وهو ما يكتبه باديو قائلاً «إنّ القصيدة لا تقصد ولا تفترض ولا تصف.. إنّها فعل تفكير». والمقصود بذلك تحديداً هو «أن تسأل القصيدة الحضور الحسيّ فيما يتضمّنه من ألغاز ومفارقات». ذلك أنّ حضور الأشياء لا يمكن إدراكه الاّ صلب اللغة، والقصيدة هي في جوهرها اختراع لغوي. لكنّها ليست محدودة بقواعد اللغة الجاهزة التي تنظّم عملية التواصل. ينبّهنا باديو في هذا المعنى الى التحوّل العميق الذي تجريه القصيدة المعاصرة من «ثمّة حدث ما» (موضوع القصيد الكلاسيكي) إلى «الانبثاقة الخالصة»، حيث تصبح القصيدة اقتداراً على استضافة اللامتوقّع بما هي بحث عن الفرادة الضائعة. وحده الشاعر قادر على تحمّل كثافة التفاصيل. ليس الشعر إذن مجرّد تجربة فنّية أجناسيّة، وهو بالتالي لا يمكن أن يبقى بين أيادي النقّاد فقط، بل إنّ الشعر تجربة فلسفية ووجوديّة بما هو لا يقف في مستوى المعاني والرموز والاستعارات إنّما بوسعه أن ينتج الحقيقة. وهنا بالضبط يقع تحرير الشعر من التصوّر التقليدي له. نعم، الشعراء لا يكذبون، ولا هم يهيمون ولا يتوهّمون. وفي هذا المعنى يقع الإعلاء من قيمة الشعر كي يسمو إلى مرتبة الرياضيات. يقول باديو: «إنّ الشعر الى جانب الرياضيات هو السند الأساسي لتكوين لغة فلسفية بوسعها إدراك الحقائق التي لا يزال عصرنا المريض قادراً عليها». الشعر ههنا هو أحد الأركان الأربعة لاختراع الكينونة: وهي الرياضيات والحبّ والسياسة والقصيدة. غير أنّ باب الإعلاء من قيمة الشعر الذي افتتحه للمعاصرين هيدغر بعد شيلنغ الذي كان يحلم بكتابة الفلسفة في شكل قصيدة مطوّلة، لم يقف في مستوى جعل القصيدة شرطاً للفلسفة بعد أن كانت حكراً على اللغويين، بل صارت تحت قلم الفيلسوف الإيطالي نيغري إلى براديغم جديد يحمّله نيغري مسؤوليّة اختراع نمط جديد من البشر يسمّيه «الإنسان الشاعر» في مقابل «الإنسان الاقتصادي». ويوسّع نيغري من باحة هذا المفهوم من أجل الإعلان عن «الشعراء العمّال» أو «البييتاريا» بدلا عن «البروليتاريا»، هذا النمط الجديد من البشر القادر على إنتاج أشكال مغايرة من الكينونة، من أجل مقاومة فراغات عالم أنهكته ثقافة البضاعة وصحراء التكنولوجيا في سطوتها المذهلة على أجساد البشر وعقولهم ومشاعرهم. وهو ما نقرأه ضمن كتاب له حول «أنطولوجيا ليوباردي» (2006). ولقد اخترعت القصيدة على يد الشاعر الإيطالي ليوباردي (1798 1837) مثلما نقرأ في قصيدة له تحت عنوان اللامتناهي ما يلي: «..إنّي أخترع في ذهني فضاءات لامحدودة، أشكال من الصمت ما بعد الإنساني».. ذاكرة الصمت عن سؤال «لماذا الشعر؟» يجيب الشاعر العربي الكبير محمود درويش ما يلي: «لأنّي أستطيع أن أقول فيه أو أن افعل فيه ما لا أستطيع قوله أو فعله خارج الشعر». ويقول أيضا «لا أستطيع في القصيدة إلاّ أن أكون حرّاً». إنّ فكرة الحريّة هي إذن الشرط الوحيد لكتابة الشعر. وبوسعنا القول إنّ القصيدة هي اقتدار جذري على «حريّة حرّة» (فتحي المسكيني). وكلّ من يعارض فكرة الحريّة هو لا يقدر على الترحال في ثناياها الوعرة. فالقصيدة ههنا مغامرة لغويّة جذريّة، ترحال في الداخل، تسطر الأعماق وتعيد تنشيط أناشيده البريّة. إنّ الشعراء لا يكتبون ضمن تاريخ الكلام بل هم يدوّنون ذاكرة الصمت، صمت من لا صوت لهم. صمت ما يحدث في كواليس العالم، صمت الضحايا ومن يقبعون على حدود أنفسهم. وهو ما كتبه ريمبو يقول «إنّي أكتب أشكالاً عديدة من الصمت والليالي، وأدوّن ما لا يقبل التعبير عنه..». لذلك اعتبر هيدغر الكلمة الشعرية كلمة مقدّسة بوصفها نداء الكينونة التي لا تستقي شرعيّتها من أيّ دين. لم تعد القصيدة سجينة عمود الشعراء التقليديين بل صار عليها تجديد شكلها من أجل مقاومة عصر الاكتئاب والتوتّر والخوف من نهاية العالم في أيّ لحظة. لذلك فالقصيدة مطالبة باختراع عالم قابل للسكن، حواسّ جديدة ومشاعر فرح صار يندر بين أبناء البشر كلّ يوم. من أجل أن تنجح في ذلك، عليها ألاّ تنخرط ضمن عدمية هذا العصر، بأن تساعد البشر على إعادة اختراع الحبّ في كلّ مرّة. فالحبّ يفكّر هو أيضا. هل غادر الشعراء من متردم؟ عنترة بن شداد بن قراد العبسي (525م - 608م) هو أحد أشهر شعراء العرب في فترة ما قبل الإسلام، واشتهر بشعر الفروسية، وله معلقة مشهورة. ولد عنترة في الجزيرة العربية في الربع الأول من القرن السادس الميلادي، وبالاستناد إلى أخباره، واشتراكه في حرب داحس والغبراء فقد حدّد ميلاده في سنة 525م. وتعزّز هذه الأرقام تواتر الأخبار المتعلّقة بمعاصرته لكل من عمرو بن معدي كرب والحطيئة وكلاهما أدرك الإسلام. أمه كانت أميرة حبشية يقال لها زبيبة ررغر، أُسرت في هجمة على قافلتها وأعجب بها شداد فأنجب منها عنترة، وكان لعنترة أخوة من أمه عبيد هم جرير وشيبوب. وكان عبداً أيضاً لأن العرب كانت لا تعترف ببني الإماء إلا إذا امتازوا على أكفائهم ببطولة أو شاعرية أو سوى ذلك. معلقة عنترة بن شداد، التي مطلعها «هل غادر الشعراء من متردم؟»، هي إحدى معلقات الشعر، نظمها بعد أن عايره رجل بأنه لا يقول الشعر وأنه عبد أسود، وذكر محبوبته عبلة. تحتوي هذه المعلقة على 84 بيتاً. وفي المعلقة يصف عنترة الفراق، ثم يذكر عبلة (محبوبته) وخطابها، ثم يذكر شجاعته وفروسيته وهزيمة أعدائه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©