الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر الذي لم يعد يصنــع المعجزات

الشعر الذي لم يعد يصنــع المعجزات
21 مارس 2018 20:16
عبده وازن ماذا يستطيع الشعر أن يفعل اليوم، في عصرنا الاستهلاكي الذي لم يعد يبالي بهذه «الصنعة» القديمة وبأصحابها الشعراء الذين لم يعد يُسمع لهم صوت؟ هذا السؤال يسعى بعض الشعراء والنقاد إلى طرحه باستمرار. أضعف الكائنات ليس المطلوب من الشعر اليوم أن يصنع المعجزات، فقد ولّى أصلاً زمن المعجزات، وبات الشعر وقفاً على قلّة تتضاءل يوماً تلو يوم. لقد مُدح الشعر كثيراً منذ فجر الإنسانية وما برح يُمدح حتى الآن، لكن هذا المديح لم يحل دون تراجعه اجتماعياً و«جماهيرياً» ووظيفياً حتى أضحى الشعر أضعف الكائنات وأكثرها عزلة وانكفاء. وبات الشعراء يعللون أنفسهم بالأماني، منتظرين عودة القراء إلى رشدهم، واستعادة القصيدة رهبتها التي كانت لها في يوم ما. تتضاءل فرص الشعر في عالمنا العربي نشراً وقراءة، وتضيق المساحات التي كانت مفتوحة له سابقاً. يبحث الشاعر الذي لم يعد شاباً عن دار تتبنى ديوانه السابع أو الثامن ويعجز عن وجود تلك الدار سواء في بيروت أم في القاهرة أم في دمشق وسواها... يختار أن ينشر ديوانه على حسابه أو أن يدفع للدار كلفته كاملة. وما إن يصدر الديوان حتى ينام على الرفوف أو في المستودع. أين هم قراء الشعر؟ أين أصبحوا؟ يسأل الشاعر عنهم فلا يجدهم ولا يتمكن من تحديد ملامحهم وهمومهم! إنه يجهلهم مثلما باتوا هم يجهلون الشعر نفسه. ملجأ الإنترنت يلجأ شعراء كثر إلى نشر دواوينهم في مواقع إلكترونية بعدما سئموا عالم النشر والناشرين. هكذا يختصرون همّ النشر وينادون أصدقاءهم ليقرؤوهم على الشاشة الفضية، وكفى. أسقط مثل هؤلاء الشعراء فكرة القراء والجمهور من حساباتهم مكتفين بالقراء الحقيقيين الجديرين بقراءة هذا الشعر. وقد افتتح شعراء مواقع لهم في الإنترنت، وبعضهم أنشأ مواقع للمختارات الشعرية والشعر العربي والعالمي. وفي مقدم هؤلاء الشاعر البحريني قاسم حداد الذي وفر للقراء عبر «جهة الشعر» صفحات لا تحصى عن الشعر والشعراء، يقرؤونها ويتصفحونها عندما يشاؤون. لكنه على ما يبدو أطلق قبل أيام صرخة مدوية، معلنا يأسه ومقرراً إغلاق هذا الموقع الفريد. وإغلاقه إذا تم حقيقة سيكون خسارة كبيرة للشعر والشعراء والقراء. مشكلة النشر تواجه اليوم أي شاعر عربي لا ينتمي إلى جيل الرواد أو إلى مرتبة الشعراء «المكرّسين» و«النجوم». معظم دور النشر تغلق أبوابها في وجه الشعراء الجدد والشباب. فالشعر لا يخترق السوق ولا يجذب القراء، على خلاف الرواية أو الكتاب السياسي أو الديني... بل إن هذه الدور لا تبالي بالشعر والشعراء ولا تسعى إلى رصد الحركة الشعرية عبر طبع الدواوين وتوزيعها كما يجب. يدفع الشاعر من جيبه كلفة الديوان لكنه لا يجده في المكتبات أو المعارض. هذا نشر شبه افتراضي. لا ينطبق هذا الكلام على كل الشعراء ولا على كل الناشرين. دار الجديد اللبنانية غامرت طوال عقد ونشرت الكثير من الدواوين ساعية إلى احتضان حركة شعرية بكاملها. ولكن لم تمضِ تلك الفترة حتى نعت الشعر وشيّدت «مقبرة» للكتاب الشعري في أحد معارض بيروت للكتاب وتوقفت عن نشر الشعر بعدما عجزت عن تحقيق أهدافها. وكانت مؤسسة رياض الريس غامرت في لندن المغامرة نفسها في أواسط الثمانينيات من القرن الفائت ونشرت سلاسل شعرية عدة وأنشأت جائزة باسم الشاعر يوسف الخال، لكن المغامرة ما لبثت أن انكفأت. غير إن بضعة ناشرين جدداً يغامرون بدورهم، غير آبهين بأي عائق، مصرّين على تحقيق أحلام الشعراء، والأمل بألاّ يصابوا بالخسائر. آلاف.. وآلاف أحصى معجم البابطين الذي صدر قبل بضع سنوات زهاء ثلاثة آلاف شاعر في العالم العربي، وهم شعراء أحياء يرزقون، وقد استبعد الشعراء الشباب الذين لا يُعرف عددهم. أين هم هؤلاء الشعراء؟ ترى لو أقدم نصفهم على شراء الدواوين التي تنشر هنا وهناك أما كان لمشكلة النشر أن تلقى حلاً؟ لكنّ الشعراء العرب هم إما لا يقرؤون شعر أمثالهم أو لا يتجشمون مهمة شراء الدواوين الشعرية. وعندما يفتح المرء هذا المعجم ويواجه هذا الكم الهائل من الأسماء يسأل نفسه: لماذا كل هؤلاء الشعراء والشعر لا يُقرأ؟ ولعل ما يثير في الأمر كله، أن القارئ لا يتحمل وحده تبعة هذا «الكساد» الشعري ولا الشاعر ولا الناشر ولا الموزع... هناك قدر مأسوي يواجه الشعر ليس في عالمنا العربي فحسب، وإنما في العالم اجمع، لكن هناك دوماً حالات استثنائية ومفاجئة جداً في أحيان. وما يلفت أيضاً إن الفنون كلها أخذت الكثير من الشعر ولم تعطه في المقابل شيئاً. السينما أخذت منه، المسرح والرواية والتلفزيون والصورة الفوتوغرافية... أما الشعر فوقع في ما يشبه العزلة والحصار، مع أن المدائح تكال له دائماً ولا تتوقف لحظة. إنه باختصار أبو الفنون كلها لكنه أيضاً أشد الفنون انعزالاً واغتراباً أو استلاباً. قرأت مرة حواراً مع الروائي والشاعر الفرنسي ميشال بوتور يقول فيه: «على الشعر أن يحارب ديكتاتورية الصورة التي تسود عصرنا، بل عليه التصدي لها أكثر من أي وقت مضى». هذه مهمة تضاف إلى مهمات الشعر ذات الطابع «الرسولي» غالباً، ولا أحد يدري إن كان الشعر قادراً وحده على هذه المواجهة، هو الكائن الضعيف والمرهف. كان بورخيس يقول إن الحياة مكونة من الشعر وإن الشعر يترصد الحياة عند المنعطف فيطل كالأعجوبة. مثل هذا الكلام يعزّي فعلاً ويخفف من وطأة المأساة التي يحياها الشعر والشعراء. وقد قيل مثله الكثير على مر العصور. لكن هذا الكلام لم يتمكن يوماً من زيادة عدد القراء أو من الحد من تقهقرهم حيال هذه «المهنة» الخالدة. وقد يصل يوم يصبح القراء فيه قلة قليلة، فيحيا الشعر حينذاك أقصى حالات العزلة، لكن هذه العزلة لن تعني البتة موت الشعر، هذا الفن الذي تضرب جذوره في تربة الحياة نفسها! احتفاء بـ«الأزمة» يزداد عدد الشعراء في العالم أما قرّاء الشعر فلا. حتى الشعر نفسه يكاد يصبح «كائناً» معزولاً في عصر لم يبق فيه إلا مساحة ضئيلة للهموم الشخصية و«الصناعات» الفردية الخافتة والشعر في مقدمها. ليس الشعر في أزمة، بل قراءته أولاً ثم موقعه في هذا العالم أو دوره أو رسالته. هل يمكن عالماً يُغرق في ماديّته أن يصغي إلى أصوات الشعراء، أولئك الهائمين في غابة اللغة والحلم والماوراء؟ حتى الشعراء الواقعيون المحتجّون والطامحون إلى «تغيير» العالم فعلاً لا رؤية، أصبحت أماكنهم قليلة جداً في مسرح هذه الحياة، حياتنا الراهنة. يحتفي العالم بما سمته منظمة الـ«يونيسكو» «اليوم العالمي للشعر». هذا اليوم حظي به الشعر وحده دون «الأصناف» الأخرى، كالرواية والقصة والمذكرات والسيرة... مثله مثل المسرح الذي خصته الـ«يونيسكو» بيوم عالمي أيضاً، ولكن ليس كنص مسرحي بل كصناعة شاملة يتشارك فيها الكاتب والمخرج والممثل وسواهم... الشعر وحده بين فنون «العزلة» استحق هذا اليوم. الكائن الأضعف والأرقّ يحتاج فعلاً إلى من يتذكره ولو ليوم واحد، يحتاج إلى هواء العالم وشمسه، يحتاج إلى أيدٍ تفتح كتبه وإلى أعين تقرأ سطوره. ليس الشعر في أزمة وإن دار الكلام كثيراً عن أزمته. متى لم يكن الشعر في أزمة؟ أليست أزمة الشعر هي جوهر كينونته؟ أليست أزمته هي أزمة الحياة نفسها، هذه الحياة التي لا يمكنها أن تتقدّم إن لم تعرف الأزمات؟ أزمة الشعر هي حافزه على التجدد وعلى مماشاة الزمن الذي لا يرجع إلى الوراء. هذا ما علّمنا إياه تاريخ الشعر، تاريخه الطويل والشاسع الذي لا نهاية له. لكنّ الأزمة اليوم هي أزمة قراءة الشعر، أزمة القارئ الذي أصبح شخصاً نادراً، أزمة القراء الذين يتراجع عددهم سنة تلو سنة، لا سيما في عالمنا العربي الذي طالما اعتبر الشعر فيه «ديوان» الأمة. أرقام المبيع في هذا الصدد مدعاة لليأس. فالدواوين الشعرية تحلّ دوماً في أسفل لوائح السوق. والشعراء الكبار الذين كانت تنتشر أعمالهم كالخبز في مراحل سابقة يكادون أن يفقدوا بعد غيابهم رقعة قرائهم. أفول الأسماء شاعر مثل نزار قباني استطاع خلال حياته أن يكوّن لنفسه «شعباً» من القراء، أضحى جمهوره الآن قليلاً وقد انحسرت أرقام مبيعه، ولعلها إلى المزيد من الانحسار. والأمر نفسه يكاد ينسحب على شاعر «شعبي» كبير مثل محمود درويش وبدأ ناشره الشرعي يعاني فعلاً من تكدّس أعماله في المستودع. الناشرون يفسّرون الظاهرة هذه بغياب «الأثر» الذي كان يمارسه مثل هؤلاء الشعراء على قرائهم في حياتهم. في معارض الكتب كان نزار قباني يصاب بحال من الإعياء من شدة ما كان يوقّع، وكان القراء يقفون أمام طاولته في صفّ طويل. أما محمود درويش، فكان قامة كبيرة، شخصاً ورمزاً، وكان يحسن للكثيرين أن يستظلوا به وبقصائده. معظم قراء مثل هؤلاء الشعراء يعنيهم الشعراء أنفسهم أولاً، أما شعرهم فيأتي لاحقاً. تُرى ما يكون شأن الشعراء الآخرين الذين لا يملكون جمهوراً يُسمّى باسمهم؟ ما حال الشعراء الكبار الذين ذهبوا بعيداً من الجمهور وتوغلوا في غابات الشعر الصرف؟ الأرقام، مرّة أخرى. أرقام المبيع مدعاة لليأس. لكنّ ما يكسر هذا اليأس أنّ الشعر ما برح يجذب الكثير من الشباب. الأسماء تزداد وخريطة القصيدة تتسع والدواوين تتوالى وإن لم تلق قراء، بل وإن نامت على الرفوف أو في الخزائن. ولعلّ الطرافة هنا أنّ الشعراء أنفسهم لا يقرؤون. هم ليسوا بقراء. فلو أقبل الشعراء العرب، على اختلاف أجيالهم ومشاربهم على شراء الدواوين لنفدت بسرعة. في العالم العربي اليوم لا يحصى عدد الشعراء. إنهم بالألوف حتماً... ومع ذلك ينحسر مبيع الدواوين ويتضاءل. قد لا يجوز التشاؤم في هذا اليوم العالمي للشعر. فرنسا مثلاً تحتفل به وكأنه يوم خاص أو فريد. إنها تستبقه معلنة «ربيع الشعر» الذي تتوّجه في هذا اليوم العالمي. معظم المدن الفرنسية تحتفل بهذا اليوم. المترو، المدارس، الجامعات، المستشفيات، السجون، حتى السجون يمرّ بها هذا اليوم. بلجيكا أعدت بدورها أسبوعاً حافلاً لتستقبل هذا اليوم. وكذلك هونغ كونغ والبرتغال ودول أميركية لاتينية شتى... أما العالم العربي فيمنح هذا اليوم اهتماماً خاصاً، وتحتفي به مدن عدة وتمنحه الصحافة حيزاً مهماً من صفحاتها. شعراء مكشوفون عدد الشعراء العرب اليوم لا يُحصى. فتحت صفحات الإنترنت كما أشرت، أمامهم فرصة ذهبية ليكتبوا كما يشاؤون وبحرية تامة، وينشروا من غير أن «يطاردوا» الناشرين، الذين باتوا يأنفون علانية من نشر الدواوين، ما خلا أعمال الشعراء البارزين و«الجماهيريين» والشعراء الجدد الذين يدفعون المال مسبقاً. وكم من شعراء مهمّين اختاروا الإنترنت لنشر جديدهم إلى جنب قديمهم بعدما يئسوا من النشر العربي ومن التوزيع والقرّاء الذين يتضاءلون يوماً تلو يوم… ناهيك عن المواقع والصفحات التي تضم الأعمال الشعرية الكاملة وما يرافقها من مقالات وسير وإضاءات. وما يمكن أن يقال هو أنّ الأعداد كثيرة ولو أنّ الشعر قليل، بل إن الشعر يقلّ كلما ازداد العدد، تماماً كما كان يحصل في زمن الشعر العمودي، حين كان كثر من الشعراء العموديين يُوصفون بالمتكلّفين والمتصنّعين والمفتعلين، وكانت الأوزان تحميهم وتخفي هزالهم. أما الشعراء اليوم، فهم مكشوفون، لا أوزان لديهم يحتمون بها، ولا تراكيب جاهزة ومستهلكة يختبئون وراءها، وبخاصة شعراء قصيدة النثر والقصيدة الحرة المتحررة من نظام التفاعيل. وفي هاتين القصيدتين لا يصمد إلا الشعراء الحقيقيون، الشعراء الذين ينعمون بـ«ملكة» الكلمة واللغة والصورة والرؤيا والإيقاع الداخلي الذي لا تخوم له. يزداد الشعراء ويقلّ الشعر، ويكاد قراء الشعر ينقرضون. الشعر لم يبق كما كان، «ديوان» العرب، بل هو لم يعد يعني الشعراء أنفسهم على ما يبدو، وليس القراء فقط. لو كان الشعراء وحدهم يقرأون لأحدثوا حالاً من الازدهار الشعري، ولراج نشر الشعر وانتعشت الدور الناشرة أيضاً. آلاف من الشعراء لا يُقبل إلا نذر ضئيل وأقل من ضئيل منهم على شراء الدواوين. كائن منقرض الشعر كائن ينقرض في أمة كان يسمى الشعر ديوانها، وهي الأمة نفسها التي قالت إحدى جماعاتها قديماً إن آدم أبا البشرية كان يقرض الشعر بالعربية، مقفى وموزوناً، وإن إبليس أخذته الغيرة منه مرة فرد على إحدى قصائده عمودياً أيضاً. هذا ما يورده أبو زيد القرشي في كتابه البديع «جمهرة أشعار العرب». الشعراء العرب كثر لكنّ الشعر قليل. الشعراء كثر إلى حدّ لا يحتمل، كثر إلى حدّ الملل. «سحقاً للشعراء/‏‏‏ لولا ضجري منهم/‏‏‏ لما كتبت الشعر…»، كتب أنسي الحاج في إحدى قصائد ديوانه «الوليمة». ليس قصد شاعر «لن» هنا أن يهجو الشعر والشعراء، بل هو يسعى إلى مدحهم من باب هجائهم. لكنّ هذه الأسطر الشعرية تعبّر عن شعور عام بات شبه رائج اليوم، شعور بالسأم من الشعراء والشعر… «لقد مللنا الشعر»، تسمع كثرة من القراء، وحتى من الكتّاب والمثقفين ترددها بلا حرج، وفي أحيان كثيرة لا يتوانى بعضهم عن التذمر من الشعر، مبدين عجباً عجاباً من أنّ ما زال هناك من يكتب شعراً ويسمي نفسه شاعراً… وقد لا تُفاجأ إذا رفضت مرة ومرتين ومرات، أن تعرّف بنفسك أنك شاعر، فأنت تعرف أنهم لو علموا أنك شاعر لفتحوا عيونهم استغراباً وربما شفقة، فصفة الشاعر أضحت مستهجنة في عالم مادي واستهلاكي و«عملي» وغير وجداني وإنساني… هل بدأ زمن «كراهية الشعر» في عالمنا؟ هل هجرت «ربات» الشعر الإغريقيات عصرنا إلى غير رجعة؟ أستعير عبارة «كراهية الشعر» من عنوان كتاب للفيلسوف والشاعر الفرنسي جورج باتاي في غير سياقها، فهو قصد بها كراهية الشعر الباهت والعديم، الشعر الذي لا يلتقي فيه «الكذب وحقيقة الرغبة» في حال من «العذوبة اللامتناهية التي ليست سوى نهاية البؤس». الخوف، كل الخوف، من أن يكون زمن «كراهية الشعر» الذي بدأ يلوح في عالمنا هو زمن الكراهية في معناها الحقيقي وليس المجازي. الخوف أن تقتحم الكراهية هذه تخوم المجاز والحقيقة في آن واحد. شهادة من يفهم الشعر؟ عباس بيضون «يوم الشعر العالمي» يمرّ ليذكّرنا بأزمة الشعر في بلادنا وفي العالم. ومن الواضح أن الشعر يتهافت ويفقد مكانته وجمهوره. لم يعد الشعر الفن الأول، ولم يعد له قرّاؤه، ولم تعد له جاذبيته التي لا ينبغي لها أن تغيب. فالشعر منذ سنوات منعزل ووحيد. إنه فن نخبة تقلّ شيئاً فشيئاً، بحيث أن ميشال فوكو الذي زيّن كتبه الثلاثة الأخيرة عن «تاريخ الجنسانيّة» بمقولة للشاعر رينيه شار، صرّح بأنه أورد هذه المقولة من دون أن يفهمها. إذا كان أمثال ميشال فوكو لا يفهمون الشعر، فمنذ الذي سيفهمه إذاً؟!.. من هنا، على ما يبدو، صرنا نقرأ عن مبرر رواج «مقولة» أن الشعر بات لا يقرؤه إلا الشعراء أنفسهم، وأنهم وحدهم باتوا يتداولون قصائد بعضهم بعضاً؟ أزمة الشعر تتلخصّ في أنه لم يتكيّف بسهولة مع عالم التجارة، ولم يتحوّل بيسر إلى فن جماهيري. لقد خرج الشعر عن خطّته التي نشأ عليها، فهو في ما نعلم كان في خدمة الحياة وفي خدمة الأمل؛ كان يجمّل الحياة ويفسح للأمل والفرح. لم يدم الشعر على هذه الحال. لقد لحق الثقافة التي باتت أكثر فأكثر سلبية ونقدية... هكذا بات الشعر أيضاً سلبياً ونقدياً. بلى، وضع الشعر قوته السحرية في مكان آخر. لم يعد سحره في خدمة الأمل والتبشير في الحياة. لقد بات سحراً مضادّاً، سحراً سلبياً ومتشائماً. هكذا فقد الشعر جمهوره حين لم يعد داعية للحب والطبيعة والجمال، حين صار يؤثر الحقيقة على المديح وعلى التغنّي، حين لم يعد غناؤه نفسه برّاقاً، بل تحوّل غناؤه إلى نعي مكتوم. لقد صار الشعر في جانب الحقيقة أكثر منه في جانب التجميل. يمكننا في «يوم الشعر العالمي» أن نرثي الشعر الذي لم يندمج كما ينبغي في عالم «الميديا» والمال. لقد بقي أميناً للغة وللإنسان. بعض الشعراء يؤثرونه كذلك، ولا تهمّهم جماهيريته بقدر ما يهمّهم صدقه. لست واحداً من هؤلاء، إذ لا يهمّني أن تكون الوحدة أو العزلة علامة الصدق والبراءة. العزلة قد تنتهي بالذهول والموت؛ والشعر أثمن من أن يموت. إنه القول الأول، القول الذي تجتمع فيه كل ثقافة.. القول الذي وحده يصحّ أن يكون بديلاً عن الثقافة كلها. إنه فكر ولغة في آنٍ معاً، ولن تربح الثقافة بموته وزواله. أرى أن الأمر يحتاج إلى مساومة، وعلى الشعر أن يقبلها وأن يبادر إليها. لا يخسر الشعر كثيراً في هذه المساومة، بل ربما يغتني بها ويزداد تجربة. يحتاج الأمر إذاً إلى مساومة، ولست الوحيد الذي يقول ذلك... أظن أن عودة شعراء إلى الوزن هي في هذا السبيل. ربيع الشعر فرنسا تحتفل باليوم العالمي للشعر الذي أعلنته «اليونيسكو» وكأنه يوم خاص أو فريد. إنها تستبقه معلنة «ربيع الشعر» الذي تتوّجه في هذا اليوم العالمي. معظم المدن الفرنسية تحتفل بهذا اليوم. المترو، المدارس، الجامعات، المستشفيات، السجون، حتى السجون يمرّ بها هذا اليوم. بلجيكا أعدت بدورها أسبوعاً حافلاً لتستقبل هذا اليوم. وكذلك هونغ كونغ والبرتغال ودول أميركية لاتينية شتى... أما العالم العربي، فيمنح هذا اليوم اهتماماً خاصاً، وتحتفي به مدن عدة وتمنحه الصحافة حيزاً مهماً من صفحاتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©