الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصيدةٌ تبحثُ عن مجْهولهَا

قصيدةٌ تبحثُ عن مجْهولهَا
22 مارس 2018 01:39
محمد بنيس يكاد لا يفارقني تأمل القصيدة التي أراها مستقبل قصيدتي، لكن هذا التأمل في مستقبل القصيدة لا ينفصل تماماً عن تأمل ما كتبتُ في رحلة تعلّم كيف أكتبُ القصيدة، منذ أن كنت شاباً حتى اليوم. وهي رحلة قصيرة مهما طالت. أنظر إلى نفسي، وأنا في الستينيات، عندما كنت أزور بانتظام مكتبات المطالعة الصغرى بفاس، حتى لا يفوتني شراء ديوان جديد للشعراء العرب المعاصرين أو طبعة جديدة لدواوين الشعراء القدماء، الذين كانوا قريبين إلى حساسيتي الشعرية الناشئة. وتحضر أمامي القصائد الأولى التي كنت بها انتميتُ إلى القصيدة. عندما أقابل تلك الأيام بأيامي الحالية لا أجد فرقاً كبيراً. فالانتظام والحرص هما ذاتهما. لكن ثمة دواوين تحتفظ بمكانها الأقرب إلى اليدين، وأخرى فقدتْ ذلك الذي كان لها، ومحلها حلت دواوين من أزمنة ولغات. بشغف أتتبع وأقرأ. وأسعد لحظاتي هي تلك التي أعثر فيها على ما يعيدني إلى السؤال البدئي عن معنى القصيدة. ثم ها هو العطش يصرخ في عطش. ما تبدّل هو فعل المعرفة التي اكتسبتُها. ويبقى أهمها الشك في أغلب ما أكتب. فمع هذا الشك أحس جسدي يولد في بلد لا أدري من أين جاء ولا كيف، وأعثر على حواسي مهيأة لاستقبال ما يحيط بها. تعلُّم كيف أكتب القصيدة تجسّد في بحث القصيدة عن مجهولها. آنذاك، في الستينيات، كان عدد الشعراء المعاصرين المغاربة محدوداً، ولم يكن أيُّ واحد منهم أصدر بعد ديواناً، بل حتى القصائد المعاصرة التي كانوا يكتبونها كانت نادرة وغريبة فيما هي كانت ملتصقة بقصائد الشعراء العرب الرواد. كان بحث القصيدة عن المجهول اختياراً للمغامرة، لأنه كان اختيار التعلم أيضاً من أولئك الشعراء الذين دلوني على أن المغامرة هي مسكن القصيدة. شعراء عرب وغير عرب، في العصر الحديث. ما زلت أتذكر كيف كنت أسهر حتى الهزيع الأخير من الليل مع ديوان «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، في صمتٍ أقرؤه وأعيد. أتوقف عند قصيدة بعينها. أقرؤها ببطء شديد لمرات عديدة. أنتبه إلى عناية السياب ببناء كل بيت على حدة، بإظهار كلمات قديمة أو إخفائها، باختيار صيغ عربية دون غيرها، بالجرأة على استعمال كلمات تستغني عن الأفعال، بتبديد أصداء قصائد قديمة وحديثة في قصائده. أقرأ وأعيد، الأسبوع والشهور. وفي داخلي رياحُ الكون تمزق الأحشاء. ما كان يحدث لي مع السياب هو ما كان لي مع بودلير، أو رامبو، أو أدونيس أو هلدرلين. وتوالت القراءات كما توالى اكتشاف شعراء، حديثين وقدماء، وعوالم المغامرة في قصائدهم. حرية متعددة المنارات لأقلْ بأن الشعر كان حياتي العميقة التي لم أتنازلْ قط عنها. حياة فيها من الصمت والقلق أكثر مما فيها من فرح بمقطع أو مقاطع من قصيدة. جماليات كانت تتصارع في كتابتي. وكانت الدعوات الشعرية الحديثة بدورها مؤثرة عليّ بمثل ما كان الواقع، اليومي والاجتماعي، السياسي والتاريخي. سعادتي هي أنني لا أندم على الاستجابة لنداء القصيدة، الذي كان نداء الحرية. كيف يمكنني أن ألخص، اليوم، اكتشافي لروعة هذه الكلمة «الحرية»، وأنا أقبل آنذاك على القصيدة من مغرب يخرج لتوه من الاستعمار؟ حرية متعددة المنارات. حريةٌ نهايتها هي اللانهاية. بهذا أعطي الشعر مرتبة حياتي العميقة لأنه اللغة الأصفى التي تعيدني إلى ميلاد يظل جديداً على الدوام. تلك حقاً سعادتي، رغم أنني، بسبب الحرية التي تعلمتها من القصيدة، تعرضتُ لعزلة لا قاهر لها. ودائماً أقول: شكراً للقصيدة. إذن هي قصيدة الحرية وحرية القصيدة في آن. كلمة الوعد الأولى. بهذا المعنى كنتُ وقفتُ على وضعية اللغة في القصيدة. شيئاً فشيئاً أخذت الكلمات تغمض، والتراكيب تتغرّب، إيذاناً باللامُسمّى. هنا كان الوعيُ بمعنى اللغة في القصيدة ملحّاً عليّ في جزئيات القصيدة كما في بنائها الكلي. لا أقصد هنا صدمة الاستعارة وحدها. أقصد، قبل ذلك، الكلمات ونوع العلاقات التي تجد الكلماتُ نفسها متورطة فيها. وهي أوسع من الاستعارة. معجم أنتقيه حيناً وحيناً يفاجئني، حذف أدوات الربط، تحريك أسماء باتجاهات متباعدة من الأبيات، ترك جمل مبتورة، أو الاستغناء كلياً عن علامات الترقيم، حتى أصبحت وجهاً لوجهٍ مع الحبسة اللغوية، لكنني عثرت لاحقاً على الفضاء في كتابة القصيدة. في صفحة القصيدة. ذلك ما ضاعف الشهوة وسلّمني للانتشاء. بيت يفسح في المكان للذي يليه، ثم لا شيءَ غير البيت. اليد التي تخط السطر هي التي تتبادل مع الفضاء الغواية. وفي حركة اليد يهتز الجسد، ينحلّ، يتشظى أو يطير. نحو المعرفة الشعرية كان الشعر العربي المعاصر مفتوناً بالصوت، السمع، لكن القصيدة الحديثة خط، بصر، أيضاً. وكان ذلك بارتباط مع قراءاتي في الشعر الأوروبي الحديث، ومع أسئلة كنت أقرأ فيها بلاد المغرب والأندلس، من حيث هي تاريخ وحضارة، أو أرض شعرية مفتقدة في الخطاب الثقافي العربي المتداول. هناك كان استرجاعي الخط المغربي في القصيدة علامة على استكشاف تخوم الشطح، حيث لم يتعود الشاعر العربي الحديث عليه. كنتُ أرحل إلى أرض شعرية غير معلومة السمات. حقّاً، أنا من بين الذين يعتزون بأساتذتهم الشعراء، الذين تعلموا عنهم. وكنت تعرفتُ على الشعر من خلال دواوين الكبار، وسعيتُ إلى أن أتعلم من الكبار في عصري، شعراء وغير شعراء، مغاربة وعرباً وغير عرب. بهذا أنا محظوظ في حياتي، لأني تعلقتُ بهؤلاء الكبار وصادقت العديد من بين الذين عشتُ في زمنهم. محمد الخمار الكنوني، أدونيس، عبد الكبير الخطيبي، عبد الله العروي، عبد الوهاب البياتي، جاك دريدا، جمال الدين بن الشيخ، محمود درويش، برنار نويل. من هؤلاء تعلمتُ اختبار السراديب، واقتفاء أثر العابر الحدود، من ثقافة إلى ثقافة. لذلك فإن بحث القصيدة عن المجهول لم يعثر ذات يوم على طريق سيّار. منذ قصائدي الأولى كنتُ على صلة حميمة بالخطاب النقدي والنظري، قديماً وحديثاً. وتبيّن لي عندها أن دراستي يجب أن تخدم القصيدة، أن تكون من بين الطرق المؤدية إلى القصيدة. كنتُ، من جهة، أترصّد التقاليد التي كان القدماء يتوارثونها في تعلم الشعر، وكنتُ، من جهة أخرى، أتعلم من الرسامين والموسيقيين الذين يتابعون دراستهم في مؤسسات أكاديمية مختصة. هكذا حصلت على الإجازة في الآداب ثم دبلوم الدراسات العليا ثم الدكتوراه. لم أتعب ولم أندم. اختيار قاس جداً. كان همّي أن أعمق معرفتي بالقصيدة عبر تاريخها وتجاربها. أسمّي هذا الاختيار قاسياً، لأنه تطلب مني التعوّد على الجلوس إلى الكتاب، وقضاء أوقات طوال، صامتاً، أقرأ ما يفيد وما لا يفيد القصيدة. مع هذا لم ينازع الدرسُ العلمي القصيدة في مكانها الأسبق. معرفة أفدتُ منها كثيراً. وبها كنتُ في بداية الثمانينيات كتبت «بيان الكتابة». أردت من «البيان» أن أنبّه على أن من مبادئ «الكتابة» التفاعلَ بين الممارستين النظرية والشعرية. مبدأ تتأكد لي فائدته أكثر في زمننا هذا، الذي نكاد نفتقد فيه الشغف بالمعرفة. وفي «البيان» تعرضتُ لما زلتُ حتى اليوم متشبثاً به، أقصد تصوّر القصيدة في ضوء رؤية تنبني على مادية الكتابة، أيْ أنْ لا شيءَ وراءها. كنتُ آنذاك أحتاج إلى مساءلة تاريخ شعري مغربي، في ضوء مساءلة المغرب وثقافته، وتوضيح وجهة نظري في القصيدة. التصور ذاته هو ما يضيء لي (على الأقل) القصيدة التي أكتبها وأنا في الطريق إلى القصيدة. اللغة والفضاء، ثم الجسد والمجتمع. في اختبار الكتابة كان لي الهبوط إلى السراديب. هل كنتُ في هذا الهبوط أبحثُ عن بداية مختلفة؟ ربما. ما أعلمُ هو أن معارف تقاطعت في صياغة ما أصبحتْ عليه قصيدتي في الكتابة. الشعرية، الفلسفة، التاريخ، التصوف. معارف تلازمني جنباً إلى جنب مع الفنون التشكيلية، الموسيقى، المعمار. وهي (وسواها) مجتمعة تنصت إليها الكتابة في ممارسة تمتد في القصيدة مثلما تنتقل إلى المقالة أو الدراسة أو الترجمة. ومعها بناءُ القصيدة ينفتح على الموزون وغير الموزون، على الصفحة الواحدة والصفحة المتعددة، على البيت والآية، على العمودي والأفقي. تجربة تظل مفتوحة لأن الكتابة كلمة جسدٌ يقيم في الشهوة والشطح. وبدلاً من الانجرار إلى ما يتعارض مع القصيدة (أو يمنعها)، حولتُ وجهتي نحو العالم، أبادله التحية والحوار. في فسحة العالم رحمة هي بدورها تعضّد مقاومتي من أجل القصيدة وحريتها. وكثيراً ما دافعتُ عن هذا الاختيار، لا بالنسبة لنفسي وحدها، بل بالنسبة للشعراء المغاربة الذين كان متخيل مريض، عن أنفسهم وعن سواهم، يحتجزهم. وجهة العالم هي وجهة كل قصيدة حديثة. وهي، في الوقت نفسه، وجهة الاختيارات الشعرية الكبرى. كانت تلك وجهتي في شبابي من خلال القراءات والأسفار. على أن المعرفة الشعرية التي اكتسبتها أدتْ بي هي الأخرى إلى تبادل التحية والحوار مع العالم. وأبعدُ ما تعلمت هو أن القصيدة الحديثة لا حدود لها، وأن الدائرة المغلقة التي تزجّ فيها القصيدة العربية نفسها، بخلاف قصيدة الستينيات في كل من العراق وسوريا ولبنان ومصر، ليست معيار القصيدة الوحيد ولا مسارها الوحيد. زمن مضاد للأدب أنا اليوم قريبٌ من تاريخ قصيدتي أو بعيدٌ عنها. أطل عليها فأفزع من حماقات وإخفاقات. ذلك هو طريق البحث عن المجهول، عن المستحيل. وما أستخلصُه هو أن القصيدة تُكتب في الزمن وتنصت إلى الزمن. زمن القصيدة اليوم لم يعدْ هو زمن القصيدة في ما قبل التسعينيات من القرن الماضي. معنى اللغة، تحديداً. من تاريخ القصيدة أسأل من جديد: ما وضعية اللغة، اليوم، في زمن العولمة؟ ولأي شيء تنفع القصيدة في زمن ينفيها؟ سؤالان ليس بالإمكان الاستمرار في الكتابة دونما وعي بهما، في القصيدة وخارجها في آن. يعسر هذا أحياناً. فزمن ثقافة الإعلام والاستهلاك، الذي نعيشه، يقلص فضاء الرؤية حتى يختفي. ثمة انطباع بأننا نعيش اليوم زمن الرواية. إنه انطباع تستسلم إليه كل قراءة سطحية لا تلمس الأعمق في دلالة الزمن، الذي هو زمن ثقافة الإعلام والاستهلاك، أيْ أنه زمن مضاد للرواية بقدر ما هو مضاد للشعر، زمن مضاد للأدب. هنا تكون المعرفة صوتاً من أصوات المقاومة التي تتشبث بها القصيدة في مستقبلها. للمعرفة قوة العودة بالسؤال إلى الماضي، وقوة رفع الحجُب عن القصيدة. وإذا كانت القصيدة تتعرض في العالم لسياسة التخلص منها، فإن القصيدة تبادر بالمقاومة، جواباً عمّا تقودها العولمة إليه من هجران. مقاومة من أجل أن تبقى القصيدة، بما هي مستودعُ أسرار كبرى، أي لغة المجهول واللانهائي، حاضرة بيننا، تحتضن الإنساني الذي لا تتخلى عنه القصيدة. إنها ضرورة القصيدة، ولها مرتبة الحق. تلك الضرورة، كما تتشبث بها قصيدتي، تتمثل في استدامة اللغة. فالشعر جمرة اللغة. وهي العربية كما أسعى في قصيدتي إليها، حتى تستديم الميراث، لكن الجمرة تتقد، تتوهج وتستدعي الحُر والجميل، حينما تكون القصيدةُ سعيدة باستضافة الغريب، الأجنبي، وفقاً لآداب الضيافة. استدامة الميراث وضيافة الأجنبي، الغريب. بهذا تنصتُ القصيدة إلى زمنها، متحررة من وهْم تغيير العالم. وهي، بدلاً من ذلك، تقيم في أرض اللغة، حيث الخفيف، الموَشْوِش، اللامسموع، اللاشكل له، أجلَّ مكان تقاوم به القصيدة هجرانَ اللغة. هناك تبقى قصيدتي، وفية للمستقبل، وعداً يتقدم نحونا كلما أنصتنا إلى أصوات القصيدة. في ضوء المعرفة في اختبار الكتابة كان لي الهبوط إلى السراديب. هل كنتُ في هذا الهبوط أبحثُ عن بداية مختلفة؟ ربما. ما أعلمُ هو أن معارف تقاطعت في صياغة ما أصبحتْ عليه قصيدتي في الكتابة. الشعرية، الفلسفة، التاريخ، التصوف. معارف تلازمني جنباً إلى جنب مع الفنون التشكيلية، الموسيقى، المعمار. وهي (وسواها) مجتمعة تنصت إليها الكتابة في ممارسة تمتد في القصيدة مثلما تنتقل إلى المقالة، أو الدراسة أو الترجمة. ومعها بناءُ القصيدة ينفتح على الموزون وغير الموزون، على الصفحة الواحدة والصفحة المتعددة، على البيت والآية، على العمودي والأفقي. تجربة تظل مفتوحة لأن الكتابة كلمة جسدٌ يقيم في الشهوة والشطح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©