الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحلة في ذاكرة فنان مشرّد

رحلة في ذاكرة فنان مشرّد
14 ابريل 2010 19:49
قدم المخرج البريطاني جو رايت قبل ثلاث سنوات من الآن فيلمه التحفة atonement الذي يمكن ترجمته إلى تعويض أو تكفير عن الذنب، والذي شاركت فيه الممثلة المعروفة كيرا نايتلي بأداء مشتبك تماماً مع المناخات الشعرية التي وفرتها رواية الكاتب إيان ماكوين والتي لم تخل أيضاً من جرعة التأنيب والألم الداخلي والشتات الروحي الذي عصف بأغلب شخصيات الفيلم. وسبق للمخرج تحويل رواية جين أوستن “كبرياء ومحاباة” pride and prejudice إلى فيلم دافئ ومشبع درامياً في العام 2005 مع كيرا نايتلي أيضاً التي رشحت لجائزة الأوسكار في ذلك العام عن تقمصها لدور الفتاة الجميلة اليزابيث بينيت التي تعيش في بدايات القرن التاسع عشر وتخضع لصراع داخلي مرير بين عاطفتها الحارة والحقيقية وبين شروط المنزلة الاجتماعية الضاغطة والمحبطة لتطلعاتها. إبراهيم الملا في فيلمه الجديد “العازف” the soloist اعتمد جو رايت على سيناريو الكاتبة سوزانا جرانت التي ذاع صيتها بعد تقديمها لسيناريو فيلم “إيرين بروكوفيتش” المثير للجدل والذي أعاد البريق السينمائي للممثلة جوليا روربرتس بعد فترة من الغياب والانطفاء الفني، جرانت بدورها اعتمدت في بناء هيكل ومعالم فيلم “العازف” على كتاب للصحفي ستيفن لوبيز الذي عمل ككاتب عمود متفرغ بجريدة “لوس أنجلوس تايمز”، ويعتبر كتابه توثيقاً لوقائع حقيقية جاءت على شكل سلسلة من المواقف والقصص الطريفة والمؤلمة التي وفرتها حكاية العازف المتشرد والمصاب بالشيزوفرانيا (ناثانيل آيرس). وللدخول في الأجواء البصرية والسمعية لهذه العلاقة المربكة بين الصحفي والعازف استعان المخرج بكامل عدته وخبرته الإخراجية لتكوين صيغة فنية عالية ودقيقة تترجم حالة الذهان والاختلال العقلي الذي أصاب العازف، وكذلك حالة التمزق الداخلي بين متطلبات المهنة وبين التواصل الإنساني الذي أصاب الصحفي. يستهل الفيلم أحداثه بتسليط الضوء على حياة الصحفي ستيفن لوبيز الذي يتعرض لضغوط في العمل من أجل العثور على قصص واقعية أو ساخنة تثري عموده الصحفي الشهير والذي يتابعه القراء في صحيفة “لوس أنجلوس تايمز”، وعندما يتعرف بالصدفة إلى عازف كمان مشرد يشعر لوبيز بأنه اقترب كثيراً من (الصيد الصحفي الثمين) الذي كان ينتظره، خصوصاً وأن هذا المشرد يملك موهبة غير عادية وأنه قادر على التعامل بحرفية عالية مع آلة الكمان، حتى ولو كانت آلته الموسيقية القديمة لا تحتوي سوى على وترين فقط، عندما يقترب لوبيز من العازف يكتشف أنه يعاني من مشكلة نفسية وعقلية وانه يتفوّه بعبارات وجمل غير مترابطة تترجم اضطرابه الذهني وتشتته الداخلي، ولكنه بين الحين والآخر يطلق جملاً وإشارات لفظية غاية في العذوبة والوعي المتزن، فهو يقول مثلًا إن آلة الكمان تشبه الطفل الذي يجب حمايته، ويقول أيضاً: “لا يهمني وجود وترين فقط في آلة الكمان، كل ما أريده هو أن أستمر في العزف”، ومن شدة تعلقه بالموسيقار بيتهوفن وبتمثاله الشهير في المدينة قال المشرد للصحفي مرة: “ألا يستحق بيتهوفن أن يكون حاكماً لولاية لوس أنجلوس”؟! أصوات وظلال أما الاكتشاف المذهل الذي يطور مسارات العلاقة بينهما فيكمن في أن هذا العازف المشرد كان قبل سنوات بعيدة منظماً لأكاديمية جوليارد الموسيقية العريقة في لوس أنجلوس، يفتح هذا الاكتشاف مجالًا مغرياً للاسترسال في الحكاية وتحويل العمود الصحفي إلى حلقات ممتدة وملفتة لانتباه القراء لدرجة أن إحدى القارئات تبعث للعازف من خلال الصحفي بآلة (التشيللو) الأثيرة على نفسها والتي لم تعد قادرة على استعمالها بسبب أمراض الشيخوخة، تتحول آلة التشيللو بدورها إلى وسيط ذهبي للعلاقة المتصاعدة مهنياً وإنسانياً بين الصحفي والمشرد. ومع توالي أحداث الفيلم يكتشف الصحفي أن مهمته الإنسانية الموجهة نحو إدماج العازف المشرد بأسرته وبالأكاديمية الموسيقية التي هجرها وبمجتمعه المحيط به هي مهمة دونها الكثير من الصعاب والعقبات التي لا يمكن تجاوزها، فالعازف المختل الذي تطارده الأصوات الداخلية المريبة وفوبيا الغرف المغلقة ومشاهد الطفولة المؤلمة والمشوشة والظلال والألوان والكوابيس الصارخة لا يمكن له بأي حال أن يخضع لعلاج نفسي أو اجتماعي يمكن أن يحول جحيمه الداخلي المتواصل إلى جنة مؤقتة أو هدنة روحية تستطيع إرشاده ولو تدريجياً لحياته السابقة والمستقرة. ولعل الحالة الدرامية اليائسة التي فرضتها واقعية الحكاية وخضوع السيناريو لهذه الواقعية، أسهمت في حيرة المخرج بين متطلبات القصة والمعالجات البصرية والسمعية لحكاية يجتمع فيها الجنون مع الموسيقا، حاول المخرج القفز فوق الرتابة أو التكرار الذي فرضته حالة الشد والجذب والرهافة والعنف والشغف والقسوة التي لونت العلاقة بين الصحفي الطموح وبين العازف المشوش فلجأ إلى حلول ثانوية ملأها بصور وخيالات وتداعيات شعرية خففت قليلًا من التوتر المشهدي المتواصل بين الطرفين، ففي لقطة ساحرة تتجلى فيها إمكانات المخرج نرى الحمامات البيضاء وهي تخرج من النفق الذي يعيش تحته العازف وتحلق في تناغم مرهف مع النوتات الموسيقية التي تغسل المدينة وتغسل البحر وتمر على بيوت المشردين الآخرين وتبث بينهم الأمل والأحلام المفترضة رغم هجوم الشرطة والجرافات المعدنية على هذه البيوت التي باتت تشوه المكان، ولكنها من وجهة نظر الكاميرا ومن وجهة نظر المخرج باتت تزيح الستار عن عنف المدينة ذاتها وعن جبروتها الأعمى إزاء الجذور الحقيقية لمأساة المشردين في أي مكان وزمان. ذاكرة متوارية ومن الالتقاطات الموفقة الأخرى التي استطاع المخرج أن يوازن فيها بين القيمة الموضوعية للفيلم وبين قيمته الفنية تلك المعزوفات الكلاسيكية لبيتهوفن التي أعادت الحالة الطهرانية للمكان وانتصرت لموهبة الفنان رغم إعاقته ورغم العاهة الجسدية والنفسية التي باتت ترافقه طوال حياته. استطاع المخرج جو رايت في الفيلم أن يصور المناخات البوهيمية لحياة المشردين، واستطاع أن يغوص أيضاً في عمق الحالة الذهانية المضطربة للعازف واستخراج الأصوات المتداخلة والمقلقة للمصابين بالوسواس القهري وبحالات الشيزفرانيا، كما استطاع أن ينقل الألوان الغريبة والمتداخلة التي يراها هؤلاء المرضي، والتي تم توظيفها في سياق راقص ومتوهّج بصرياً وبشكل يخدم ويترجم الشغف الموسيقي القديم والمتواري في ذاكرة العازف نفسه، وفي الأرشيف الغني لمقطوعات بيتهوفن الشهيرة. أما الممثل جيمي فوكس فاستطاع أن يملأ المساحة الأدائية للعازف المشرد رغم الغموض الكبير والمحيط بتشخيص حالته المرضية، كما استطاع أن ينقل لنا انفعالات العازف الخاصة في لحظات الهدوء والتأمل أثناء عزفه أو سماعه للموسيقا، وفي حالات الهياج والغضب أثناء شعوره بالحصر والرهاب النفسي، واستطاع روبرت داوني في دور الصحفي أن يثبت وفي كل دور جديد له أنه يملك مرونة أدائية مميزة، وقدرة خاصة في التجاوب مع الشخصية المكتوبة على الورق، وأثبت أنه قادر على تقمص الشخصيات المركبة التي تعبّر عن مقاومة داخلية هائلة رغم المتغيرات والتأثيرات الخارجية العاصفة وغير المتوقعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©