الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعرة في مهبِّ الحب

الشاعرة في مهبِّ الحب
14 ابريل 2010 19:45
ذات لحظة، سرحت غزالة حمدة الشعرية، وتملكها هوس الرد على رسائل الأصدقاء (مسجّاتهم) بنصوص شعرية تلقائية، فولدت مجموعتها الشعرية “إس إم إس” التي أصدرها مشروع (قلم) في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، ضامة بين أعطافها رسائل شعرية، بدا كأن الشاعرة توزعها على الأحبة والأصدقاء من شرفة شعرية عالية.. لتحتفي بكل الذين أحبتهم وتحبهم، و”كل الذين عبروا زارعين حديقة في الذاكرة وجمرة في الشعر”، تماماً كما احتفت بهم في يومها العادي حين ردت على (مسجّاتهم) شعراً، أو شاغبتهم ذلك الشغب الجميل المحروس بـالمنطلق من وعي حاد يلمسه كل من يقرأ نصها الشعري بشكل عام. حمَّلت حمدة تلك الرسائل/ النصوص الشعرية المكثفة عتبها حيناً وشغبها آخر، وألبستها من حالاتها المشاعرية والشعرية ما شاء لها بياضاً يلفُ روحها في غلالة من حب الآخرين، وخلعت عليها من جمالها الشخصي وعذوبة روحها ما طاب لها من الصور والأخيلة، وأفاضت عليها من انبثاقات نهرها الشعري الخاص ما يخفف رتابة الحياة، ويأخذها إلى الألق الذي يتقن الحياة عندها والسكنى في جوارها. الشعري والتكنولوجي لكي تجمع شاعرة مثل حمدة خميس ديواناً شعرياً تحمله (مسجّاتها إلى الآخرين)، لا بد إذن من حكمة بل حكم لعل أولها تلك العلاقة الخاصة مع الزمن، علاقة المبدع في مواجهة الذاكرة وتبدلاتها، والطريقة التي يتفكر بها في المحو والنسيان حلماً أو واقعاً، وثانيها علاقته بالشعر وتجلياته. ولعلها الرغبة في تجاوز (الآني/ التقني) المرشح للامحاء والعطب إلى (الخالد/ المكتوب) المرشح للديمومة والبقاء (الهدف المقدس للشاعر)، في محاولة لتأبيد الذاكرة وتحرير الاتصال من عالمه الافتراضي إلى عالم أكثر صلابة، لأغراض شعرية وتوثيقية لا تتصل بالطبع بالمعنى الآلي للتوثيق، بقدر ما تطرح سؤال الشعر في علاقته بالمنجز التكنولوجي، والتي لطالما كانت علاقة مريبة مستريبة. ففي هذه المجموعة ثمة سعي لتحويل (المسج) اليومي والعادي، المصنوع لخدمة أغراض حياتية يومية اتصالية مألوفة، إلى نص شعري وحميم وبقدر غير قليل من التلقائية. هنا، يغادر (المسج) حقله الدلالي المحدود إلى حقل دلالي مختلف تماماً هو الشعر، وفي هذه النصوص ما يجعل التكنولوجيا (الموبايل) محرضاً على كتابة الشعر... ربما، بسبب اشتراكهما في الجذر والهدف. فالشعر في الأصل سعي للتواصل بين البشر، والتكنولوجيا بأدواتها الاتصالية المختلفة هي أيضاً تتغيا خلق التواصل بين الناس، لكن الفارق في نوعية التواصل وهدفه ومستواه في الحالتين. ولقد باتت (المسجات) من كائنات الشعر تسكن حديقته وتحمل وظيفة إبلاغية جديدة لا تتصل بمألوفيات السؤال اليومي بل تفتح قوساً واسعاً على أسئلة وجودية وإنسانية وفلسفية هي من صميم الاشتغال الشعري. وعلى صعيد العلاقة بين الشعري والتكنولوجي تنتبه حمدة أيضاً إلى مسألة الحرية المتاحة في عالم (المسجّات) والتي تتيح الكتابة بعيداً عن سيف الرقابة وصوتها وسوطها، فتأتي الرسائل النصية صريحة، جريئة، مبرأة من كل شبهة للتزلف أو النفاق، تتوافر على قدر من السخرية اللاذعة والتهكم المرير الذي جرى إنتاجه بعيداً عن الرقابة التي يزدهر في غيبتها الشعر كما يليق به الازدهار. هذه المقاطع الجميلة التي تقترب من الشعر حيناً، ومن الحكمة آخر، لم تأت على مستوى واحد من حيث شعريتها وجمالها وتوفرها على دهشة الشعري وخصائصه، وربما تفاوتت النصوص تبعاً لحالة الشاعرة ونوعية الرسالة التي وردتها، وبعض الرسائل حتماً يستنزل الشعر أكثر من غيره، لكنها في المجمل عكست حالة شعرية اقتراحية تتوافر على فكرة مبتكرة. مقام الحب منحت حمدة خميس جسد ديوانها الشعري لخمسة أقانيم هي: الحب، العتب، الاعتذار، المشاكسة والود. وإذ يفتح القارئ باب الحب يقع على لغة عذبة رائقة تتوخّى التعبير عن مشاعر الحب ودفقاته وتوتراته وحرارته وألقه ومختزناته واشتهاءاته الروحية والعاطفية في مقاطع تلقائية يصعب أن يتخيل المرء أنها ولدت فجأة كردٍّ على رسالة جاءت عبر (الموبايل)، لكن حمدة الشاعرة سكنها، على ما يبدو، هوس الشعر، فأرخت ظلال روحها له ومضت تستمطره فيمطرها بمثل هذه العذوبة: في غيابك النهار مثل الليل والساعات سلحفاة ضيعت طريقها! بهذه النصوص الشعرية القصيرة، أو الومضات السريعة المكثفة، استطاعت حمدة أن تقول لواعج القلب، وأشواق الروح إلى صنوها الآخر، والتوق الذي يصحو في القلب حين الكون يذهب إلى قيلولة أو ينام، وما يمور في النفس من ألم الفراق الذي يفرش ظلاله حتى على موجودات الكون الخارجية التي تشاركها شعورها باليتم في غيابه. هنا ينتقل النص إلى مستوى آخر من الكتابة، إلى أفق لغوي وشعري يبدو أكثر تماسكاً وقدرة على توليد المعاني والأفكار، وأبلغ أسلوبياً في الإفصاح وأكثر اتساعاً لاحتضان أساليب النداء والتمني والرجاء والأفعال: أمس رأيتك على شرفة الغيم تلوّح لي من قصي السماء: (تعالي) قلت لي فلم ارتبك ولم يختضَّ نبعي قلتُ: أنتَ تعالى تنزّل على عطشي قبلة ً ًوسحاباً وماءْ ! وحالما تدخل الشاعرة في الحالة الشعرية، تتخلص تماماً من مناخ الرسالة النصية لتكتب القصيدة، بكل غنائيتها وموسيقاها المنثالة كما نغم أو موج بحر: أجدفُ في بحار الشوق عاشقة ً فلا مجداف يوصلني ولا شط يناديني كأني زورقٌ ضاعت مراسيهِِ ودارتْ به الأمواجُ من تيهٍ إلى تيهِ! لكن للحب وجوهاً أخرى سرعان ما تعلنها الشاعرة في ردها على رسالة تأتي من الابن (قيس) فلا تملك إلا مغازلته ومداعبته بمقطع شعري لا يوصِّف فقط جمال الأمومة في مفهومها الرومانسي الشائع، بل يجسد حالة من التوحد الكامل مع الابن، حالة صوفية تتماهى فيها الشاعرة (نصاً وخطاباً) مع العابدة المتصوفة (رابعة العدوية)، ليغدو الابن كونها وفصولها وتخاطبه قائلة: أحبك حبَّيٍْن حبٌ لأنك بعضي ومني وحبٌ لأنك أذكى وأجمل من كل طيب التمني. مقام العتب تتسع النصوص للعتب الجميل، الحامل مشاعر الود والحب والتفكر والتأمل في ماهية العلاقات البشرية وما يعرض لها عبر تبدلات الحياة وصروفها، لكن الشاعرة وهي تشعرن ما عنَّ لروحها من الحالات لا تنسى أن تقرر هذه الحكمة الخالدة: الود منبعه / قلبٌ يضج بهِ/ وليس للنسيان/ حكم على الودِ/ إن شاء يذكرُ/ لا سلطان يردعهُ/ أو شاء ينسى/ لا عتبٌ/ سيوقظه!! وإذ يرسل أحدهم رسالة يعتذر فيها عن هفوة ما، ترد عليه الشاعرة ناقلة هذا الخطأ الشخصي الصغير المحدود إلى الخطأ البشري كسمة، محيلة القارئ إلى مستوى آخر من التعاطي مع ثيمة الخطأ والنسيان المتأصلتان في تكوين البشري. ولا تغادر الشاعرة روحها المتأملة وهي ترد على رسالة غاضبة، رغبة منها في التخفيف من حدة الموقف وتوتر الآخر أو استلال ما يمور به صدره من غضب. وإذ تعتب على الصيدلاني حين تجد هاتفه مغلقاً، تحمِّل الرسالة/ النص قليلاً من النزق أو السأم الذي يأتي هنا مُنغَّماً، مُوقَّعاً. ومن العتب إلى الاعتذار، تدخلنا حمدة خميس في طقس شعري آخر حيث تتجلى ثيمات الاعتذاريات الشعرية التي تصخب بحضور الأنا وتضج بنزعاتها وتقلباتها، وحيث الروح خضلة بالنبل والمثُل ومنسوب الإنسانية في أعلى مستوياته: أمد يدي وفي القلب وردٌ و ودُّ فهل يغفر الودُّ للتائبين وهل يشفع للشوك ما يضمر الورد؟ مقام الحال وتترك الشاعرة الاعتذاريات وأوجاعها لتدخل في الأحوال، وما أدراك ما الأحوال، إذ الروح في انفتاحاتها وإشراقاتها تعبر إلى التجلي، تهيم حيناً في مدارج التوق الصوفي أو تشتعل حزناً على واقع، أو تتشظى باحثة عن أمل يرتجى. هنا تصور النصوص حالات الروح، إرهاصاتها، عذاباتها وعذوبتها، تحليقاتها، فيوضاتها وهي تتخلص من أسر المادي إلى فضاء الروحي الشاسع: ليست الجنة لي/ ولي هذا الشغب جنتي من عنب الروح/ ومسرايَ ذهب وخمرتي كالصيف/ تصهرني كومضة الغموض/ في زرقة اللهب لكنني .../ كلما أوشكت أن أدنو../ نأى القلب كطير رفّ في الأفق/ شريداً ../ واغترب! وهي إذ تبحث عن (جنَّتها) الفكرية والإنسانية الخاصة لا تعنى بما تعنى به غيرها من النساء من المظاهر الزائلة، إنما غايتها (اللؤلؤ الخبئ الذي يعصى على التهشيم) والغريب أنها في رسالة نصية قصيرة تضمِّن أو تختزل حكاية المرأة مع الرجل وعلاقتها به في توتراتها وبحثها المضني عن الحرية والرغبة في التكافؤ وغيرها من الدلالات والترميزات والإشارات في نص مكثف، موحي، مثل رحيق الوردة بعد تقطيرها. تتسع رسائل حمدة خميس الشعرية للمشاكسة والحلم واللعب والود ولكل حالاتها وعوالمها ولكل أشياء الطبيعة التي تخلع عليها روحها وتسربلها بغلالتها الإبداعية وهي تغني روحها في “نضوج القطاف”، غير مكتفية بتصوير الألم في مستواه الحسي الأول، بل تصعده في توتر شعري ونفس درامي تتماهى فيه حركة الروح في الندم مع حركة الموج العدمية، التي لا تثبت بل تمارس فعل المحو الدائم، ثم تصعدها إلى مستوى أعلى حين تعممه على الأنثى بشكل عام، وتتخذ من نفسها ومشاعرها ومقاديرها نموذجاً تسقطه على المرأة، وهي تمشي وفق ما “خطه غيرها” في حين أنها تطمح إلى “القمة”. كما تتسع للمطر الذي تستعيره كرمز بكل ما يحمله الحقل الدلالي للمطر من الخصوبة والحياة والنماء، لتنجز مقارنة بينه وبين المرأة على مستويين: الفتنة والخصوبة. أما عبور السحاب فهو بالنسبة إليها رحلة خاطفة لكنها تكفي لكي تذكر فيها حياتها كاملة بين الطفولة والمشيب. والشاعرة امرأة معجونة بالطبيعة وكائناتها، تربيها في حجرها كما تربي الأم صغارها، تهدهد البحر والشجر والرمل والنوارس وتطعمها زاد القلب وزاد الشعر، من حالاتها تمنح حالات شعرية تقول الروح في سريانها الفجري على شاطئ عجمان. في حركة البحر الدائمة ترى حركة الحياة في مدها وجزرها، وفي خبوة نارها واستعارها، وفي حضورها وغيابها، لكنها تخرج من لوحة البحر بحكمة أخرى غير حكمة النسيان التي غالباً ما يرددها الشعراء: لكننا لا نشبه البحر في أسطر الموج ولا الرمل يمحو ما ينقش القلب من ولهِ الجسد فحبرنا من خفقة الروح وسطرنا من نطفة الأبد! ربما تذكرت حمدة أن ذاكرة (الموبايل) لا تتسع لكل نزقنا وثرثراتنا ورسائلنا، ما يحتم علينا محوها أولاً بأول، فقررت أن تنشر “مبتكراتها النصية الشعرية” لتحفظها من النسيان، لكنها، نسيت، رغم مديحها لقدرة (الموبايل) على حفظ الرسالة وتاريخها وساعتها، أن تنقل مع الرسائل تاريخ إرسالها، وتلك هي حمدة في علاقتها بالزمن، تشقه بشغف المغامر لتعلن رؤاها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©