الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إغراءات وتعويضات للبناء في الصحراء

25 يونيو 2009 01:05
أعود بالذاكرة إلى أول إجازة قمت بها بعد وصولي إلى أبوظبي في الأول من يناير 1971. كانت بالتحديد في أغسطس من العام نفسه ولم تكن تزيد عن أسبوعين نظراً لأنني لم أقض عاماً كاملا في العمل من جهة ولحاجة العمل إلي من جهة أخرى. كانت العائلة قد سبقتني إلى القاهرة حيث أقامت في شقة كنت قد استأجرتها منذ التحاقي كطالب في جامعة القاهرة عام 1961 في حي اسمه العجوزة بالقرب من المهندسين. ونظرا للذكريات التي حملتها تلك الشقة التي شهدت زواجي وميلاد أول ولد لي فيها فما زلت أحتفظ بها حتى اليوم لا لأن الإيجار كان بسيطاً (خمسة جنيهات شهرياً) ولكن جريا على عادة الشعراء بالارتباط بالمكان. كم منزل في الأرض يعشقه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل كنت أدفع ستين جنيهاً في السنة للمالك ومائة جنيه لذلك الحارس الصعيدي الطيب (بدر) رحمه الله. قبل عشر سنوات، قال المالك على سبيل المزاح: بواب العمارة يتقاضى منك أكثر من مالك شقتك. قلت: ولماذا لا تبيعها لي وتستثمر الثمن فيكون لك ضعف ما يأخذ الحارس؟ وبعشرة آلاف جنيه فقط تملكت الشقة التي لا أستخدمها الآن ولكنني أحرص على زيارتها بين عام وآخر مسترجعاً ذكريات الشباب والدراسة والحب والزواج وأشياء كثيرة لم يستطع الغبار الذي يتراكم فيها بسرعة غير عادية أن يغطيها. فرحة العودة عندما التقيت بالعائلة والأولاد في الإجازة الأولى وجدتهم جميعا يطلبون مني العودة إلى أبوظبي، لقد بدأ الحنين يشدهم من أول غياب. عندما عدنا كانت الفرحة تغمر وجوههم والسعادة تسكن في نظراتهم وكلماتهم. ولا أنسى تلك التهليلات التي ارتفعت عندما ظهرت مدينة أبوظبي من نافذة الطائرة. ورغم أن الصحراء كانت هي اللون الغالب في ذلك المشهد إلا أن اللون الأخضر الذي بدأ ينتشر في المدينة كان يؤشر إلى التغير الذي حدث وإلى التغيير المنتظر حدوثه ليس في مدينة أبوظبي وحدها بل في المنطقة المحيطة بها. لم تكن المدينة حينما نظرنا إليها من الطائرة إلا ورشة عمل فالعمارات محدودة، والارتفاعات أيضا لا تزيد عن خمسة طوابق والشوارع ضيقة بما فيها أوسع وأفخم الشوارع آنذاك وهو شارع الكورنيش. الآن، عندما أطل من نافذة الطائرة وأشاهد تلك النهضة العمرانية والامتداد الأفقي والعمودي لحركة العمران والإنشاءات، أدرك كما لا يدرك غيري ممن لم يواكبوا حركة البناء في الإمارات أن القائد زايد رحمه الله لم يكن يحلم وهو يحدثنا عما سنصل إليه من تقدم وحضارة. ولم يكن ربط مناطق الإمارة بالطرق المعبدة إلا محاولة للتوسع في الحركة العمرانية وتطبيقا لخطة قهر اللون الأصفر للصحراء بزيادة المساحات الخضراء وغابات الغاف والسدر والنخيل ومزارع المواطنين. كان الساحل الشرقي الممتد من جزيرة أبوظبي إلى حدود إمارة دبي خالياً من أي بناء، وكان ذلك الساحل يغري الشباب دائما بزيارته وقضاء العطلة الأسبوعية على شواطئه العذراء الساحرة. ولكن تلك الرحلة لم تكن متاحة إلا لمن يملك سيارات الدفع الرباعي حيث لم تكن هناك طرق معبدة تصل إلى تلك الشواطئ. رحلات في الصحراء ومنذ السنة الأولى لوصولي إلى أبوظبي وتعرفي على معالي الدكتور مانع العتيبة شاركت في هذه الرحلات المليئة بالمغامرات والمتعة التي لا تنسى. لم نكن نحتاج إلى الخيم، فالرمال كانت فراشا وثيرا والجو كان دائما معتدلا لا نحتاج فيه حتى إلى الغطاء. كانت المتعة الحقيقية لنا تتمثل في جمع الأعواد أو بقايا الألواح الخشبية التي ألقت بها الأمواج على الشاطئ لإشعال النار وممارسة الطبخ والاستغراق في الأحاديث والحكايات المرحة إلى وقت متأخر من الليل. تحولت تلك الرحلات فيما بعد إلى قيام بعض المواطنين باختيار مواقع على الشاطئ وبناء بعض البيوت البسيطة وجعلها بمثابة منزل بحري يلجأ إليه ذلك المواطن مع عائلته وأولاده. ورغم أن تلك البيوت بنيت بغير رخصة وعلى أرض لا يملكها أولئك المواطنون إلا أن المغفور له بإذنه تعالى الشيخ زايد طيب الله ثراه كان يطلب من المسؤولين عدم التعرض لهم أو مخالفتهم، وعندما كانت المشاريع العمرانية تصل إلى تلك البيوت العشوائية كان يعتبر أصحابها من المحظوظين جدا حيث يتقاضون تعويضا عن البناء يعادل عشرة أضعاف التكلفة الحقيقية على الأقل. أذكر عددا من هؤلاء المواطنين في منطقة غنتوت والذين حصلوا على مبالغ هامة كتعويضات عن بيوت أو غرف بسيطة قاموا ببنائها بشكل عشوائي. تشجير الصحراء كان رحمه الله يشجع أبناءه على تعمير الصحراء والبناء في المناطق النائية منها بل ويقدم لهم المساعدات لتحقيق ذلك، سألته في أحد الأيام وكنا في قصر الجرف، عن حكمة تشجير الصحراء وإقامة العمران في المناطق الصحراوية ولماذا لا يركز على المدن بدلا من هذا الانتشار المكلف، إن كل شجرة يغرسها في الرمال تحتاج إلى الماء والسماد والرعاية، وهي في النهاية شجرة غير مثمرة أو إذا كانت نخلة فإنتاجها أقل من تكلفة رعايتها. أذكر يومها أنه نظر إلي بمحبة وانسابت كلماته بسيطة واضحة لتلامس قلبي وتنغرس فيه، قال: قد يبدو لك الآن أن الأمر مكلف، ولكن عندما تتحقق الخطة وتتحول الصحراء كلها إلى مدن ومزارع فستدرك أن ما تحقق أكثر بكثير مما صرفناه من أجله، البترول ثروة ناضبة غير متجددة فلا نريد يوما يعلن العالم عن نضوب النفط أن نعود إلى الصحراء كما كنا نعيش على الحرمان، يجب أن يكون لدينا البديل الذي لا ينضب ولا ينتهي، ولو كان بمقدوري أن أحول بحر الخليج كله إلى ماء عذب لفعلت، لأن الماء هو الحياة، هو الثروة الدائمة. اليوم، بعد رحيل ذلك الرجل الحكيم، أدرك كم كانت نطرته بعيدة، وهو يشجع أبناءه على التعمير والبناء وكان صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد «حفظه الله» ومنذ كان ولياً للعهـد ورئيسا للمجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي يتبنى النظرية نفسها ويشجع كوالده جميع المواطنين على البناء والتعمير، حتى إن لجنة خليفة كانت تتولى بناء جميع القطع الأرضية للمواطنين وتقوم بتأمين التمويل كاملا وتعطي نسبة مجزية للمواطن من الإيجارات التي تجمعها فلا ينتظر ذلك المواطن إلى أن يتم تسديد التمويل بل يستفيد من إيجار عمارته منذ السنة الأولى لتأجيرها. ثوب الرمال لا أخفي مدى ما أشعر به من فخر واعتزاز وأنا أتجول في صحراء الإمارات شرقا وغربا، شمالا وجنوبا فأرى المدن الجديدة والطرق التي لا حصر لأطوالها والفنادق والمنتجعات في مناطق كان من المستحيل الوصول إليها حتى في سيارات الدفع الرباعي. ومع كل قرية أو مدينة جديدة تطل علي ترتسم صورة ذلك الإنسان العظيم الذي رحل عن الإمارات بعد أن أقام فيها وفوقها ما لا يزول وما لا ينضـب. وأسترجع أبيات قصيدة قالها الدكتور مانع العتيبة عام 1997: ولما أشاعوا بأن الصحارى تعاني كمن فيه داء وعله ولا زرع ينبت فوق الرمال ولا النيل فيها ولا نهر دجله تحدى وسار على درب فعل وشاهد شعب الإمارات فعله وبالجد والجهد بدل حالا وقدم للأرض أجمل حله وطرز ثوب الرمال الجميل بخمس وعشرين مليون نخله تداعبها نسمات الخليج مداعبة المستهام الموله وفي حر شمس النهار تراها تجود علينا بأحلى مظله وأن النخيل تراث الجدود يقدس في كل دين ومله
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©