السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نازك الملائكة.. عاشقة الليل تتحرر من قيود البحور

نازك الملائكة.. عاشقة الليل تتحرر من قيود البحور
25 يونيو 2009 01:03
سنتان مرتا على انطفاء جذوة الشعر ووهج القوافي لشاعرة تيمها الحرف والقصيد... اشتغلت عليه جُلّ حياتها إلى حين أن أقعدها المرض والكِبَر بعد رحلة أربعة وثمانين عاماً، إثر هبوط حادٍ في الدورة الدموية في أحد مستشفيات القاهرة حيث كانت تُقيم، لتهدأ النفس وترحل إلى بارئها تعالى. بقيت الشاعرة نازك الملائكة عاشقة لفورة الحياة حتى وهي ترقد عليلة مُستسلمة لأوجاع مرضها الأليم: جسدي في الألم خاطري في القيود بين همس العدم وصراخ الوجود وسكوني حياة وظلامي بريق النجاة النجاة من شعوري العميق في دمي إعصار عاصف بالجمود وشضايا نار تتحدى الركود نازك الملائكة البغدادية العراقيّة شاعرة تمردت على قوافي الشعر وأوزانه الخليلية وخالفت الشعراء الأُول وجعلت من تجديدها التجريبية لترسل الغيث الهاطل من تفجير ينابيع الشعر المُورقة، كما صيّرت الكلمات تحلِّق للمرة الأولى في فضاء حُر طليق من قيود البحور الخليليّة التقليديّة لأبعد مدى. وما بين الولادة في بغداد 23 أغسطس 1932م والوفاة في مصر في 20 يونيو 2009م، نشأت نازك صادق الملائكة في عائلة تحتفي بالثقافة والشعر فكانت والدتها سلمى عبد الرزاق تهوى الشعر وتنشره في الصحف والمجلات داخل العراق باسم مُستعار هو «أم نزار الملائكة»، أما والدها صادق الملائكة فترك طائفة من المؤلفات العديدة من أبرزها موسوعته الضخمة التي أطلق عليها اسم «موسوعة دائرة معارف الناس» وأصدرها في عشرين مجلداً. أما لقب عائلة الملائكة فلأنّ بعض الجيران أطلقوه عليهم بسبب ما كان بيتهم يتسم من هدوء ثم انتشر اللقب وشاع وحملته الأجيال التالية. من السيرة كتب عن سيرتها العديد من الدارسين والباحثين في تراثها الشعري والأدبيّ، وتقول صبيحة شبر: درست الشاعرة الراحلة اللغة العربية في دار المعلمين العالية وتخرجت فيها عام 1944م في بغداد، كما درست الموسيقى بمعهد الفنون الجميلة، ثم درست اللغات اللاتينية والانجليزية والفرنسية وأكملت دراستها في الولايات المتحدة عام 1954م حيث حصلت بعد عامين على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكنسن. ونالت الملائكة درجة الماجستير في الآداب وكانت أول تلميذة تحظى بالدراسة هناك، حيث لم يبح القانون بدراسة المرأة بجامعة برنستون آنذاك، لذا قفلت نازك للعودة إلى بغداد، ثم توفرت لها فرصة أخرى للسفر إلى خارج العراق، للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن. بعدها عملت سنين طويلة في التدريس في جامعة بغداد، وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت، ومن ثم الإقامة في مصر إلى وفاتها رحمها الله. وكانت الشاعرة رقيقة الملامح رزينة وقورة هادئة الطباع، فقد حكى عنها المؤرخ الدكتور سيّار الجميل حين التقاها ذات يوم فقال: «تدهشني جدا هذه السيدة الوقور التي لم أتذكر منها غير جبهتها العريضة وإنصاتها للآخرين عندما يتحدثون وإذا تحدثت اندفعت الكلمات سلسلة غاية في الرقة والاتساق والروعة.. لم تكن تبتسم إلاّ قليلاً ومن كان يراها قبل عقود خلت من الزمن، يظنها تحمل فوق كاهلها هموم كل البشر... رقيقة المشاعر مرهفة الأحاسيس ولكنها منطوية على ذاتها وكأنها تختزن في أعماقها كل أحزان العراق منذ آلاف السنين! ومن يقرأ قصائدها اليوم، تلك التي كتبتها قبل عشرات السنين، يلمح كم كانت تتراءى لها الصور التي ستتوالد في يوم ما على مدينتها وعلى وطنها»... وأضاف الجميل: «لم تكن عاشقة للنهارات العراقية بكلّ تألقها وبريقها ووهجها وطعم أُويقاتها تحت النخلات الباسقات، أو عند ضفاف الشطوط.. كانت عاشقة عربية لليل بهيم دجي تبحث فيها عن غابة من نجوم وأنوار وأقمار وأصوات بعيدة لنايٍّ حزين وسحر بغداد قديماً لا طعم له إلاّ في أعماق الليل الدجية». ثقافة عالميّة اهتمت الشاعرة الراحلة بالأدب العالميّ واطلعت على القصص العالمي مُمثلاً، وفي هذا الجوّ المتفتح نسبياً إذا ما قورن بالجوّ العام الذي كان سائداً في ذلك الوقت في بلدها عاشت نازك وامتلكت من الاهتمامات ما لم يكن شائعاً بين مُعاصريها، لذا حرصت على الثقافة والإطلاع من مصادر غير اللغة العربية حيث كانت تمتاز بصفات مثل التحلي بالنظام والترتيب والمحافظة على الهدوء. أما ميدان الشعر والكتابة في مضماره فقد نظمت القصائد الوافرة منذ طفولتها المُبكرّة وأحسنت فيه فكان لها قصب السبق والريادة في حركة التجديد وإن ثار نقاش طويل حول مَن هو رائد الشعر الحديث، حيث اختلفت آراء نقاد الشعر بين ثلاثة شعراء من العراق: نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، عبدالوهاب البياتي، أو إلى الشاعر المصري صلاح عبدالصبور وغيرهم من شعراء الوطن العربيّ. ولكنّ رغم تلكم الاختلافات في مسألة الريادة الشعرية الحديثة للشعر العربيّ فإنّ إبداع الشاعرة نازك الملائكة حقّ لا يمكننا أن نبخس حقها فيه، فقد كانت مُجددة ولها بصماتها عليه، ورغم ذلك فإنها أتحفت المكتبة العربية بدراسة أثمرت عن مشروع كتابها المعروف «قضايا الشعر المعاصر» والذي قدمت فيه للقارئ والناقد على حدٍّ معاً أسباب الحداثة الشعرية التي جاءت بها والدفاع عن وجهة نظرها في حركة التجديد الشعري الحديث بعيداً عن نظام الخليل بن أحمد الفراهيدي البصريّ. و»نازك الملائكة تركيبة لغوية وشعرية إنسانية فريدة»، هذا ما قاله الشاعر الفلسطيني سميح القاسم عن الشاعرة، وهذا التوصيف يضعها دائما أمام عاصفة من القراءات، القراءات الباحثة، والكاشفة، تلك التي تبحث في أسرار الريادة أولاً، وفي إسرار ما استبطنته شعريتها من قوى غامضة وسريّة، ومن لغة شعرية مكثفة اختلط فيها الغناء بالتأمل مع قوة الجملة في مستوياتها الصورية والاستعارية ثانياً، على رأي الشاعر العراقي علي حسن الفواز في المدى، والذي يضيف لقوله: ولعلّ الاشراقات الأولى في تحديث الشعر العربيّ وبرغم كلّ الحراك الحادث والعاصف الذي اخذ بتلابيبها، فإنّ خصوصية نازك الملائكة تكمن في قوتها الباثة، المولدة، وليس لأنها «المرأة» الوحيدة في فضاء الذكورة الشعرية العربيّة، وأجد انّ استعادة نازك الملائكة بعد سنتين على وفاتها، وأكثر من ستين عاماً على ولادة مشروعها الشعريّ، هي قراءة «أثرها» الشعريّ والنقديّ ليس للمقارنة، أو فرضه كأيقونة، بقدر ما هو محاولة لضبط النسق المقطوع داخل اشتغالات حداثتنا الشعريّة، وترحيل مفاهيم معقدة وغامضة حول الحداثة الشعرية من جهات ومناطق باتت من التعدد والفوضى ما تضع هذا النسق أمام إشكالات تخص أصل منهجته وإجراءاته... بدأت الملائكة حياتها الشعريّة بنشر أولى قصائدها الحديثة المُتجددة والطويلة تحت عنوان «الموت والإنسان»، بينما أصدرت العام 1947م أول دواوينها بعنوان «عاشقة الليل». واحتوى ديوانها على مجموعة قصائد كتبتها على نمط الشكل القديم، لكنّها من ناحية أخرى جعلت البنية الفنية والمناخات الشعرية والصور والاحساسات بالديوان الجديد ذات ملامح جديدة وغير تقليدية كما هو مُتعارف عليه. وتقول في قصيدة «أنا»: الليلُ يسال من أنا أنا سرة القلق العميق الأسود أنا صمته المتمرد قنعت كنهي بالسكون ولففت قلبي بالظنون وبقيت ساهمة هنا أرنو وتسألني القرون أنا من أكون؟ والريح تسال من أنا أنا روحها الحيران انكرني الزمان أنا مثلها في لا مكان نبقى نسير ولا انتهاء نبقى نمر ولا بقاء فإذا بلغنا المنحنى خلناه خاتمة الشقاء فإذا فضاء. عاشقة الليل والكوليرا أصدرت الشاعرة بعد سنتين من «عاشقة الليل» ديوانها الآخر الموسوم «شظايا ورماد» الذي أودعت فيه نازك قصائد جديدة وفق الشكل الحديث والذي عُرِفَ باسم «الشعر الحُرّ». بينما نجدها أكسبت قصيدتها «الكوليرا» التي نشرتها العام 1947م، شُهرة واسعة في عموم الوطن العربيّ. حيث تُروى عن هذه القصيدة قصة فقد حدث في صيف عام 1947م أن حصد وباء الكوليرا آلاف الناس في مصر، وكانت كارثة هزّت مشاعرها فنظمت القصيدة أسمتها على عنوان المرض الذي اجتاح الناس المصريين، والجديد أنّ «الكوليرا» القصيدة الأولى نشرتها في ديوانها الثاني «شظايا ورماد»، وقد نسجتها الشاعرة نازك على غير السائد والمألوف في الشعر المُتعارف عليه فكتبتها بصورة حديثة في كلّ المقاييس وجعلتها تختلف في إيقاعها الغريب عن الأذن المتلقيّة، وسرعان ما تناقلها المهتمون والقراء حتى استطاعت أن تؤثر على ذائقتهم الشعريّة، ثم توالت قصائدها الأخرى على هذا الإيقاع الشعريّ الجديد. ومن ديوانها «عاشقة الليل» قصيدتها التي تحملُ اسمه: ظلامَ الليلِ يا طاويَ أحزانِ القلوبِ أُنْظُرِ الآنَ فهذا شَبَحٌ بادي الشُحوبِ جاء يَسْعَى، تحتَ أستاركَ، كالطيفِ الغريبِ حاملاً في كفِّه العودَ يُغنّي للغُيوبِ ليس يَعْنيهِ سُكونُ الليلِ في الوادي الكئيبِ هو، يا ليلُ، فتاةٌ شهد الوادي سُرَاها أقبلَ الليلُ عليها فأفاقتْ مُقْلتاهـا ومَضتْ تستقبلُ الوادي ألحانِ أساها ليتَ آفاقَكَ تدري ما تُغنّي شَفَتاها آهِ يا ليلُ ويا ليتَكَ تدري ما مُنَاها كذلك كتبت نازك هذه القصيدة متأثرة بوباء الكوليرا الذي انتشر وقتذاك في مصر، وجاءت الصدفة أن في نفس هذا الوقت كتب الشاعر بدر شاكر السياب قصيدته المعروفة «هل كان حباً» التي نشرت في ديوانه الأول «أزهار ذابلة»، والتي قال فيها: هَلْ تُسمّينَ الذي ألقى هياما؟ أَمْ جنوناً بالأماني؟ أم غراما؟ ما يكون الحبُّ؟ نَوْحاً وابتساما؟ أم خُفوقَ الأضلعِ الحَرَّى إذا حانَ التلاقي بين عَينينا، فأطرقتُ، فراراً باشتياقي عن سماءٍ ليس تسقيني، إذا ما؟ جئتُها مستسقياً، إلاّ أواما ثم كتبت الملائكة في العام 1962م في مقدمة الطبعة الخامسة من كتابها المذكور: «أدري أن هناك شعراً حُراً نظم في العالم العربي قبل سنة 1947م سنة نظمي لقصيدة «الكوليرا» وفوجئت بعد ذلك بأنّ هناك قصائد حُرة معدودة ظهرت في المجلات الأدبية منذ 1932م وهو أمر عرفته من الباحثين لأنني لم أقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها»، وتقول فيها: سكَنَ الليلُ أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ في عُمْق الظلمةِ, تحتَ الصمتِ, على الأمواتْ صَرخَاتٌ تعلو, تضطربُ حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ في كلِّ فؤادٍ غليانُ في الكوخِ الساكنِ أحزانُ في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ هذا ما قد مَزَّقَـهُ الموت الموتُ.. الموتُ.. الموتْ يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ. قرارة الموجة وسيرتها تتابعت إصدارات شاعرتنا الراحلة من الدواوين، فحمل ديوانها الثالث اسم «قرارة الموجة» العام 1957م، ورابع دواوينها أصدرته العام 1978م بعنوان «الصلاة والثورة»، بعدها تواصلت في نشر كتاباتها وقصائدها إلى أن انقطعت عن النشر استمرت نازك في كتاباتها الشعرية إلى بداية السبعينات من القرن الماضيّ. ولم تغفل الشاعرة نازك الملائكة وهي المهمومة في مقام الشعر وقوافيه أن تخصص فسحة من الوقت لكي تنثال على الورق حكاية سيرتها الذاتيّة فأنتجت لنا كتابها «من سيرة حياتي وثقافتي»، وهي التي عشقت طفولتها البغداديّة كثيراً وتمنت مراراً لو تمكنت من العودة إلى تلك الفترة الذهبيّة الجميلة: «ليتني لم أزل كما كنت طفلاً ليس فيه إلاّ السَنا والنقاء كلّ يوم ابني حياتي أحلاماً وأنسى إذا أتاني المساء. وتقول في قصيدتها «الزائر الذي لم يجيء»: ومرّ المساء، وكاد يغيب جبين القمر وكدنا نشيع ساعات أمسية ثانية ونشهد كيف تسير السعادة للهاوية ولم تأت أنت … وضعت مع الأمنيات الأخر وأبقيت كرسيك الخاليا بشاغل مجلسنا الذاويا ويبقى يضج ويسال عن زائر لم يجيء وما كنت اعلم انك إن غبت خلف السنين تخلف ظلك في كل لفظ وفي كل معنى وفي كلّ زاوية من رُؤايّ وفي كلّ محنى وما كنت أعلم أنّكَ أقوى من الحاضرين وإنّ مئات من الزائرين يضيعون في لحظة من حنين. ومن إصدارات الشاعرة الملائكة إضافة إلى الدواوين الثلاثة السابقة ديوان شجرة القمر العام 1965م، مأساة الحياة وأغنية للإنسان العام 1977م، للصلاة والثورة العام 1978م، يغير ألوانه البحر الذي طبع عدّة مرات. فضلاً عن مُجلدين لأعمالها الكاملة صدرا بطبعات مُتعددة، ومن كتبها الأخرى: «التجزيئية في المجتمع العربيّ، الصومعة والشرفة الحمراء، وسيكولوجية الشعر». جوائز باسم الملائكة ولقد قامت مصر بعمل جائزة باسمها تكريماً لها، فقررت وزارة الثقافة المصرية تخصيص جائزة شعرية تحمل اسم نازك الملائكة على أن تخصص للشاعرات العربيات؛ لأنّ نازك هي قدوتهنّ جميعاً، وهو الاقتراح الذي قدمته الروائية سلوى بكر. أما في العراق فتمّ يوم الأربعاء 18 يونيو الجاري في مقر الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق توزيع جوائز مسابقة القصة القصيرة جداً التي أقامها منتدى نازك الملائكة والتي شارك فيها العشرات من الكتاب والكاتبات، وتشكلت من أجلها لجنة تحكيمية برئاسة الناقد فاضل ثامر رئيس الاتحاد وجهاد مجيد وإيناس البدران، وجاء إعلان الجوائز مع الاحتفال بالذكرى الثانية لرحيل الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة، والذي حضرته الشقيقة الصغرى لنازك السيدة سها الملائكة مع نجلها وسط احتفالية كبيرة بإبداع الشاعرة الرائدة.. قالت إنها لو لم تبدأ حركة الشعر الحر لبدأها صاحب «أزهار ذابلة» نازك الملائكة والسياب.. ثنائية التضاد المتكامل د. سامي علي جبار كلاهما ولد في مطلع القرن العشرين، نازك في عام 1923 والسياب في عام 1926، لم يتجاوز السياب عامه الثامن والثلاثين إذ توفي عام 1964 أما نازك فبلغت أكثر من ضعف عمر السياب إذ ماتت عام 2007 عن 84 عاماً والتقيا في المرض الذي أعاد السياب من اغترابه بعد تطواف في لندن وروما وبيروت والكويت ليعود إلى مسقط رأسه البصرة. أما نازك فقد حملها المرض إلى القاهرة التي غيرت مسيرة حياتها الأدبية. وكان مرض الكوليرا الذي تفشى في مصر عام 1947 فكانت ولادة قصيدتها (الكوليرا) في يوم الجمعة 27/10/1947 ثم دفعتها إلى النشر فنشرتها مجلة (العروبة) في بيروت في 1/12/1947 وعلقت عليها في العدد نفسه. وظهرت بعد ذلك في ديوانها الثاني «شظايا ورماد» عام 1949 الذي تضمن مقدمة نقدية وقعت في اثنتي عشرة صفحة وذيلتها بتاريخ 3/2/1949. أما السياب فقد أصدر في القاهرة عام 1947 أي قبل نازك بعامين ديوانه البكر «أزهار ذابلة» فيه قصيدة «هل كان حباً»، نظمها عام 1946 أي قبل نازك بعام أيضاً.. ولكنه تأخر عن نازك عاما في الكلام عن هذه التجربة فقد أصدر عام 1950 (مطبعة الغري الحديثة ـ في النجف) ديوانه الثاني «أساطير» صدره بمقدمة في أربع صفحات قال فيها: «وأول تجربة لي من هذا القبيل كانت في قصيدة «هل كان حباً» في ديواني الأول «أزهار ذابلة» وقد صادف هذا النوع من الموسيقى قبولاً عند كثير من شعرائنا الشباب أذكر منهم الشاعرة المبدعة الآنسة نازك الملائكة لكن نازك الملائكة لم تذكر السياب في مقدمة «شظايا ورماد» وكانت متفوقة على مقدمته اللاحقة في «أساطير» بل كانت مقدمة «أساطير» ظلاً باهتاً لمقدمة نازك شاركتها في بعض الإشارات إلى الغموض والإبهام والرمزية لكن عمق مقدمة نازك دل على ثقافة عميقة في الفلسفة والفن وعلم النفس فضلاً عن اللمحات النقدية التي عمقتها في كتبها «قضايا الشعر المعاصر» و»الصومعة والشرفة الحمراء» و»سايكلوجية الشعر ومقالات أخرى» الصادر في بغداد سنة 1993. ويرى د. إحسان عباس في كتابه عن السياب ص135 «إن للسياب قصيدة واحدة نظمها عام 1948 يزعم فيها أنه اهتدى إلى شكل جديد، ولكنها قصيدة لم تنشق عن الشكل القديم إلا انشقاقاً جزئياً طفيفاً.. بينما أصدرت نازك عام 1949 ديواناً يجري أكثره على هذا الشكل الجديد. وفيه محاولات عامدة لابتكارات وتنويعات في داخل هذا الشكل نفسه، وفيه مقدمة نقدية دقيقة تدل على وعي بأبعاد طريق جديدة، بينما تمثل مقدمة السياب لديوان «أساطير» (1950) خلطاً صبيانياً وسطحية في الفهم للشعر الإنجليزي. فمن الغرور أن يزعم السياب لنفسه انه هو الذي أوجد طريقة حاكاه فيها الآخرون». وقد ظلت نازك في المقابلات معها تؤكد أنها رائدة الشعر الحر ولكنها اتفقت مع السياب في أن المهم هو الإبداع كما صرح السياب بحسب ما ذكره محمود العبطة في كتابه عن السياب ص37 ـ 38 (د. إحسان ص136). أما نازك فقد نشرت في مجلة «الهلال» (آب 1973) مقالاً بعنوان: «أنا والشعر الحر» قالت فيه: «والواقع إنني كنت في ذلك الوقت، قد آمنت إيماناً راسخاً بأنني لو لم أكن قد بدأت حركة الشعر بالدعوة الرسمية إليها عام 1949 في مقدمة مجموعتي «شظايا ورماد» لكان بدأها زميلي بدر شاكر السياب «رحمه الله»، ولو لم نكن أنا وبدر قد بدأناها لكان بدأها شاعر عربي آخر غيرنا». التقت نازك والسياب في دار المعلمين العالية وشهدت أواخر الأربعينات ظهور مجموعتيهما «أزهار ذابلة» و»شظايا ورماد» ليكونا ثنائياً في حركة الشعر الحر لكن السياب تفوق على نازك في الإبداع الشعري فيما تفوقت نازك في (التنظير النقدي) ومن ثم في (التطبيق النقدي) اشترك كلاهما في قراءة التراث النقدي والتأثر بالأدب الإنجليزي فكان اليوت وكيتس وشكسبير زاداً شعرياً مشتركاً في تطوير مضمون القصيدة الحرة فضلاً عن تحولاتها العروضية والشكلية. لعل فضيلة السياب عند النقاد أنه ظل وفياً للشعر الحر، فيما اتهم النقاد نازكا بأنها ارتدت عن الشعر الحر في كتابها قضايا الشعر المعاصر لأنها تحدثت عن عيوب الشعر الحر ودعت إلى العودة إلى كتابة شعر الشطرين وقد أكدت ذلك في مقدمة ديوانها «شجرة القمر» (بيروت 1968) إذ قالت «واني لعلى يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها. وليس معنى هذا إن الشعر الحر سيموت وإنما سيبقى قائماً يستعمله الشاعر لبعض أغراضه ومقاصده من دون أن يتعصب له ويترك الأوزان العربية الجميلة». وقد أساء بعض النقاد الفهم فظنوا إنها تخلت عن الدعوة إلى الشعر الحر مما دعاها للدفاع عن موقفها في كل مقابلاتها وقد ختمت دفاعها في مقالها «أنا والشعر الحر» في مجلة الهلال آب 1973. ولعل النقاد الذين انحازوا إلى نازك في ريادة الشعر الحر لم يمنعهم ذلك من الانحياز إلى السياب متجاوزين التأريخ إلى الإبداع فالدكتور إحسان عباس نشر أهم كتاب عن السياب دون نازك، وما كتب عن إبداع السياب الشعري أكثر بكثير مما كتب عن شعر نازك.. مع أن حياة السياب كانت دون الأربعين لكن شاعريته كانت أخصب من شاعرية نازك فكانت توجهاتها الأكاديمية قد أخذت من وقتها فانصرفت إلى التأليف.. فضلاً عن إن الظرف الاجتماعي والنفسي للسياب وموهبته المتميزة وموته المبكر شجع الباحثين على الاهتمام بشعره. وجانب آخر ميز السياب عن نازك.. أو ميز أحدهما عن الآخر.. فقد جمعت رسائل السياب بعد وفاته وطبعت في بيروت 1975 بإشراف ماجد السامرائي.. وقد عدت هذه الرسائل وثائق في تحليل حياة السياب وشعره كما فعل د. إحسان عباس في دراسته. أما نازك فقد نشرت صفحات من سيرتها في حياتها (ينظر: الشعر في حياتي ـ ضمن كتاب: في قضايا الشعر العربي المعاصر/ دراسات وشهادات ـ تونس 1988 ص 251 ـ 262 والأعمال الشعرية الكاملة ـ القاهرة 2002 ـ 1/29 ـ 46) وقد أعلن إن سيرة نازك الملائكة معدة للطبع بعد وفاتها فضلاً عن كتاب المرحومة الدكتورة حياة شرارة المطبوع في بيروت «صفحات من حياة نازك الملائكة» وهو كتاب وثائقي ظهرت بعض فصوله في مجلة «الأقلام» تحت عنوان «تلك أيام خلت» وبعضها نشرت في صحيفة «الجمهورية» البغدادية. غير ان (رسائل السياب) على قلتها أفادت الباحثين كثيراً لصلتها الوثيقة بشعر السياب، فيما لم تظهر فصول (سيرة نازك) غير سرد تاريخي تكرر كثيرا في مقابلاتها المنشورة. ولعل السياب قد ظهر في جانب آخر فكانت مذكراته في «كنت شيوعياً» مظهراً من مظاهر تحولاته السياسية، وقد ظلت هذه المقالات حبيسة صحيفة «الحرية» البغدادية، وقد تولت الناقدة فاطمة المحسن إخراجها في كتاب طبع مؤخراً. ويبقى السياب متفوقاً في جانب الترجمة إذ ساهم في ترجمة بعض الكتب والفصول النقدية والأدبية عن اللغة الإنجليزية. وعدا الشعر فإن السياب قد كتب بعض القصص والمسرحيات، ولكنها قليلة، فيما كتبت نازك عدة قصص جمعتها في كتاب «الشمس التي وراء القمة» وظهرت نازك باحثة اجتماعية في كتابها «التجزيئية في المجتمع العربي» بيروت 1972. عدا مقالات نقدية في القصة منشورة في مجلات مختلفة. أخيرا فقد شكل السياب و نازك ظاهرتين ثقافيتين شغلتا الثقافة العربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين.. ومثلما عدت وفاة السياب عام 1964 ولادة جديدة لشعره وإبداعه.. فإن وفاة نازك الملائكة في 20/6/2007 ستكون ولادة لها.. ولا شك في أن الانقسام في ريادة الشعر سيتحول إلى البحث عن الجديد في ما لم يكن قد بحث وسيتولى النقد إعادة النظر بعد سنوات الانقطاع التي أعقبت اعتزال نازك بسبب المرض إنهما حقاً المتضاد المتكامل في ثنائية (الشاعر/ الشاعرة) و(الشاعر/ الناقدة)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©