الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نهاية الصبر

نهاية الصبر
11 مايو 2008 00:29
فكرة مرعبة لم أتقبلها ولكنها بقيت تلح علي، لا يمكن أن أتنازل بهذا القدر· هذا لا يتناسب مع فكري وشخصيتي وكل ما حصلت عليه من شهادات· عشت في حالة عذاب· ترددت ألف مرة قبل أن تتحول الفكرة إلى فعل فالخطوة الأولى هي الأصعب دائماً· أخيراً اتصلت بتلك السيدة، بيدها مفتاح التغيير الذي أحلم به· قرأت مقابلة أجريت لها في إحدى الصحف· اتصلت بالصحيفة وأخذت الرقم، وبعد تردد طويل اتصلت بها· بصوت ضعيف لا أدري من أين جاءني، تحدثت معها، كأنني مقدمة على جريمة، نعم هي جريمة، فقد نويت أن أقتل وحدتي وآلامي كلها، جريمة إيجابية نتائجها لصالحي· ردت علي، وبخبرتها عرفت وضعي الحرج· ساعدتني على التخلص من خوفي وخجلي· شجعتني بكلماتها الواقعية· طلبت مني بعض المعلومات وصورة حديثة لي وخمسمائة درهم· هذا كل شيء، وسأنتظر المعجزة التي ستحول حياتي من حال إلى آخر· بعد أن قمت بكل شيء، عدت لألوم نفسي، ماذا فعلت؟ كيف تجرأت واتصلت بالخاطبة؟ واحدة مثلي، حاصلة على شهادة الدكتوراه، تتصل بالخاطبة؟ يا لها من فكرة منحطة، لابد أن شيطاني هو من وسوس لي بهذا الأمر، لابد انه هو الذي زين الفكرة وكبرها برأسي، ولكن الشيطان لا يأمر بالخير، والزواج هو خير واستقرار· لا اعتقد بأنه فعل شيطاني، ربما هي إرادة الله، نعم هذا هو المنطق، لقد رحمني ربي من عذابي ووحدتي وألهمني هذه الفكرة، لربما أيضاً هي وساوس نفسي التي لا تهدأ ولا تستقر ولا ترضى بقضاء الله وقدره، هل اتصل بالمرأة وألغي الأمر كله؟ كيف أستعيد كرامتي؟ ماذا فعلت بنفسي؟ كيف سأواجه الناس إن عرفوا بما فعلت؟ يا له من وضع لا أحسد عليه، ماذا لو كان الخاطب من معارفنا؟ بالتأكيد سيفضحني، وسينتشر الخبر بسرعة البرق، فلانة الفلاني، قصدت الخاطبة تبحث لها عن زوج، يا له من أمر يفوق الاحتمال· بين الشعور بالذنب والإحباط الشديد جاءني الاتصال الذي انتظرته، أغمضت عيني وقررت تجرع التجربة مهما كانت مرة، فما أعيشه من وحدة وفراغ هو أصعب من أي شيء آخر· العرض الأول والأخير رجل متزوج، زوجته خطبت له، تقول إنها مشغولة بأولادها ولا وقت لديها لتلبية متطلبات زوجها· هي مدركة بأنه يريد الزواج ومصر عليه، فلم ترد أن يفاجئها بالأمر، وقد قررت أن تكون طرفاً فعالاً في أمر زواجه كيلا تفقده وكي يبقى جميلها طوقاً في عنقه فلا ينساها ولا يقصر معها ومع أولاده بعد الزواج· إنها امرأة ذكية فعلاً، أما هو فإنه رجل حاصل على الدكتوراه في الطاقة، كان قد تزوج وهو في العشرين من عمره زواجاً تقليدياً حسب رغبة الأهل· وكان طموحاً جداً، فلم يقعده الزواج ولا مسؤوليات الأسرة عن التحصيل العلمي لكن الهوة الفكرية اتسعت بين الزوجين حتى لم يعد بينهما حديث مشترك· اقنع زوجته بفكرة زواجه من أخرى على أن تكون متعلمة ومثقفة وإن كانت كبيرة في السن فذلك ليس مهماً بالنسبة له، اتصلت الزوجة بالخاطبة وطلبت منها أن تبحث لها عن شريكة مثقفة لديها شهادات، فوقع الاختيار علي· تعرفت على الرجل وعائلته، شعرت بأنني انتمي إليهم، تحدثت مع الزوجة فوجدتها طيبة ولطيفة، والرجل كان وسيماً على الرغم من وصوله إلى سن الخامسة والأربعين، أي انه يكبرني بعام واحد، شعرت بأن في عينيه لغة، وأن في رأسه آفاقا، وفي روحه عوالم خفية من الفرح· أقدمت على الخطوة التالية، تزوجنا، شهر عسل، ما أجمل أيامه، سافرنا كلنا، أنا وزوجته وأولاده إلى استراليا· تمتعنا بشكل لا يوصف، لم أتصور بأن الحياة لها وجه جميل بهذا الشكل· لم اشعر بالغيرة لاهتمامه بزوجته وأولاده، وهي أيضاً لم يبدُ عليها أنها تغار مني، امرأة فلكها يدور حول أولادها، هم أفقها الوحيد، فكان زوجي بفكره وعقله كله لي أنا وحدي، نتحدث، نناقش القضايا، نحلل، نفلسف الأمور، وهي تنظر إلينا باستغراب، ثم تقول جملتها المعهودة: لماذا تدوّخون رؤوسكم بالكلام الفاضي؟ فننظر لبعضنا والابتسامة الشقية ترتسم على شفتينا، ''ياه''··· أشكرك يا ربي· لقد عوضتني أخيراً عن كل معاناتي السابقة، تصورت بأنني سأقضي عمري كله وحيدة، يا له من شعور مرعب، خصوصاً عندما تتقدم سنوات العمر، ما فائدة الشهادات؟ ما فائدة المال؟ ما فائدة كل الأشياء الثمينة التي نمتلكها؟ إذا لم يكن عندنا شركاء يشعروننا بقيمة الحياة، ما فائدة كل شيء عندما يأتي المشيب فلا يجد الإنسان أحداً يشاركه في شيخوخته، يستمع إلى أنينه؟ ما فائدة النجاح في الدراسة وفي العمل إذا كان المشيب كابوساً من الوحدة والعزلة؟ حكايتي كانت أمي مريضة طوال الوقت، لا أدري بالضبط ما هو مرضها، ولكنها كانت تشكو من آلام شديدة في أنحاء جسدها كله، ولم يعرف الأطباء ما سر ذلك التوجع المستمر، لأن نتائج التحاليل الطبية التي أجريت لها أظهرت أنها سليمة مئة بالمئة· ربما هي غربة الروح وعذاب البعد عن الأهل والأحباب، لأن والدي تزوجها وهي في السابعة عشرة من عمرها وأحضرها إلى هنا لتعيش حياة صعبة مع زوجته الأولى وأولاده· أنجبتنا أنا وأخوتي الأربعة في ظروف نفسية صعبة للغاية، وقد كان أفضل ما حصلت عليه بعد كفاح وصراع هو أن تستقل بسكن مستأجر بعيداً عن شريكتها· وقد كان هذا الأمر بالنسبة لوالدي كنوع من ليِّ الذراع الذي لم يتقبله، فطلقها وتزوج من واحدة أخرى غيرها· كنت في سن مبكرة، وقد شهدت كل تلك الصراعات وتحملت المسؤولية بشكل مبكر· تفوقت في دراستي وصارت لي سلطة قيادية في الأسرة· كنت استلم مبلغاً شهرياً من والدي، وكنت أتحكم بالميزانية بسبب مرض والدتي وعدم قدرتها على ذلك الفعل، أقود سيارة، أجلب كل ما يحتاجون إليه· عملت بشهادة الثانوية في بنك، ثم عملت في شركة عقارية· أكملت دراستي الجامعية وعملت بالتدريس· اشتريت بيتاً صغيراً ليضم أسرتنا، وقمت بتزويج أخوتي وأخواتي· أكملت دراستي العليا واعتنيت بوالدتي حتى توفيت رحمها الله· كنت أفكر أحياناً بنفسي، فأتألم لأنني كنت أشعر بحاجتي لتكوين أسرة، أحلم مثل كل البنات بزوج طيب محب وأولاد يملأون حياتي بالفرح والمسؤولية المحببة· كانت السنون تركض ولا وقت للتوقف والتفكير بنفسي، بعد أن حصلت على الدكتوراه صرت أُدرس في الجامعة وبالتدريج صار حلمي بتكوين أسرة يتضاءل مع تقدم العمر، فمعظم الشباب يفكرون بالزواج من فتاة في الثانوية، حتى الذين ينهون دراساتهم العليا فهم يفكرون في الزوجة الصغيرة، ولا يكترثون للفارق الكبير في المستوى الفكري، هذا هو الواقع، وأنا واحدة من ضحاياه· حاولت أن أشارك في أنشطة نسائية متعددة، لعبت دوراً في عائلات إخوتي وأخواتي وأبنائهم· كل ذلك لم يساعدني على تجاوز الشعور الرهيب بالوحدة والفراغ· كلما تسربت سنين العمر، أجد بيتي كئيباً مخيفاً، لا استطيع أن أنام فيه، حتى الساعات القليلة التي أقضيها في بيتي أجد أن السآمة تقتلني، كل شيء ساكن وشاحب وكأنه بيت الأموات· المراقبة كنت أخرج هاربة من وحدتي، أذهب إلى المطعم، أجلس وحدي وأتناول طعامي في غير شهية· أنظر من حولي، تلك امرأة طفلها يجلس على كرسي الأطفال بجانبها، تداعبه، يتحرك فترفعه من كرسيه وتحتضنه بين ذراعيها، ثم ينزلق من أحضانها، يحاول الوقوف ولكنه يفقد توازنه، قبل أن يسقط ترفعه لحضنها، يا لسعادتها بذلك الصغير· أتلفت من جديد فأجد امرأة أخرى حولها مجموعة من الصغار وهي منشغلة بهم، تتحدث وتبتسم وتوزع عليهم الأطعمة· ثالثة تجلس إلى جانب زوجها، يتحدثان في أمر ما، يسمعها باهتمام، يبدو أنهما منشغلان ببعضهما وكأن العالم كله لا يعنيهما، صور عائلية جذابة، تنتشر في كل مكان، لا أحد يقدر معنى الشعور بالوحدة والعزلة· معنى أن يعيش الإنسان وحيداً، معزولاً عن الفرح· أعود لبيتي والشعور المرهق يحطمني، كنت أفكر بطريقة لتغيير هذا الوضع، لست من النوع الذي يرضى بأن تمر الأشياء من حوله دون أن يتدخل في مجرياتها، يجب أن ألعب دوراً في التغيير، لا يهمني ما يقوله الناس، فلا أحد يعرف كيف أعيش، وما هي طبيعة معاناتي، قلبت الصحف فجذبني ذلك اللقاء مع الخاطبة، تصارعت مع الفكرة حتى صرعتها وتغلبت عليها· أحمد ربي أن معاناتي صارت مجرد ذكريات، وإن كانت مؤلمة إلا إنها ذهبت إلى غير رجعة، لست نادمة على تضحيتي، ولست نادمة على كل ما قدمته لأمي وأخوتي، ولست حاقدة على والدي، ولا أريد أن أتهم أحداً أو أدعو له بالشر، يكفيني أن ربي رحمني وأعطاني ما أريد في آخر لحظة، يكفي أنني استطعت تذوق حلاوة السعادة في سنين عمري الأخيرة، يكفي أنني لن أكون وحيدة بعد اليوم· سعاد جواد Suad-jawad@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©