السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل للشعر ضرورة؟

هل للشعر ضرورة؟
18 مايو 2016 22:58
د. سعيد توفيق طالما تحدث كبار الشعراء عن ضرورات الشعر أو لوازمه كفن وصنعة، حتى أن القدماء في تراثنا العربي كانوا يتحدثون عن «صناعة الشعر» أو «فن القريض» باعتباره فناً له أصوله وضروراته، ولكني هنا لا أتحدث عن شيء من ذلك... لا أتحدث عن ضرورات الشعر، وإنما أتحدث عن ضرورة الشعر ذاته! وربما يثير الحديث عن ضرورة الشعر التساؤل التالي الذي يطرأ أحياناً على أذهان بعض الناس: وما الحاجة إلى الشعر في عصرنا الراهن؟! طرح الفيلسوف الكبير هيدغر هذا السؤال على نفسه في مقال شهير بعنوان: «ما الحاجة إلى الشعراء؟!» وهو سؤال يصبح أكثر إلحاحاً في عصرنا الراهن الذي تسيطر فيه الصورة على أذهان الناس إلى حد أن هذا العصر أصبح يُسمى «عصر الصورة»، فضلاً عن أنه عصر تسيطر عليه التكنولوجيا أو منجزات العلم التطبيقية المتسارعة التي تفتن الناس يومياً. وعلى الرغم من أنني سوف أستفيد هنا من تأملات هيدغر في التماسه إجابةً عن السؤال: ما الحاجة للشعراء؟، إلا أنني لن ألتزم بها حرفياً، ولن أقف عند حدودها، بل سأحاول تجاوزها إلى رؤية أكثر ارتباطاً بواقعنا الإنساني المعيش. والوقع أن السؤال السالف - الذي يتخذه هيدغر عنواناً لأحد مقالاته الأساسية عن الشعر- مقتبس من شطر من بيت من مرثية للشاعر العظيم هيلدرلن بعنوان «الخبز والخمر»، يقول فيه متسائلاً: «.... وما الحاجة إلى الشعراء في عصر فقير (معدم)؟!». لقد أعاد هيدغر سؤال هيلدرلن، وأنا أعيده مجدداً مع بعض التحوير، ومع حفظ حرف العطف في مفتتح السؤال وإضافة علامة التعجب في نهايته: والعطف هنا لتوجيه الانتباه إلى أن السؤال موصول بشيء قبله، بواقع يفرضه، أما علامة التعجب فلتوجيه الانتباه إلى موقفي الذي أعلنه ابتداءً تعبيراً عن دهشتي من السؤال الذي يفرض نفسه، ولا أجد مفراً من مساءلته هو الآخر متخذاً نوعاً من الانحياز المسبق الذي لا يمكن استبعاده هنا، بالمعنى الهيدغري لمفهوم «الانحياز المسبق» الذي يفترض الفهم المسبق لموضوع ما قبل أن نتحدث عنه، فهذا الفهم المسبق يعني أن الموضوع الذي نريد فهمه قد شغلنا وتساءلنا عنه من قبل، وكانت لنا به خبرة وألفة. ومن ثم فلا يمكن لأحد أن يعلن أو يفصح عن موقفه من الشعر وضرورته دون أن يكون قد خبر ماهيته وأنبأنا من قبل عن شيء من حقيقته. لماذا نعيد السؤال؟ ولكن لماذا نعيد سؤال هيلدرلن الذي أعاده هيدغر من قبل؟ ألأن عصرنا أيضاً أصبح فقيراً معدماً؟ لقد كان هيلدرلن يقصد العصر الأوروبي الذي افتقد الشعور بالديني والمقدس الذي يوحد البشر معاً منذ موت آلهة اليونان والمسيح، ولكننا لا نتحدث هنا عن عصر أوروبي، بل عن عصر عربي، فليس هناك عصر مطلق، بل هناك عصر أو تاريخ متزمن في مكان ما. يظل السؤال واحداً، ولكن تطبيقاته وتجلياته تتباين من ثقافة لأخرى، فربما كان عصرنا يشارك عصر الغرب في الافتقار إلى الشعور بالديني أو المقدس الذي يُجمِّع ويوحد، ولكن من المؤكد أننا افتقدنا بإفراط أشياءً أخرى لها نفس الأولوية: افتقدنا الوعي بأهمية اللغة، بل بضرورتها كمأوى ووطن نقيم فيه، «كمسكن للوجود» على حد تعبير هيدغر، ومن ثم فقد افتقدنا- فضلاً عن ذلك- الشعور بالانتماء للوطن وبالهوية ذاتها! ويبدو أن الحديث عن الهوية - هوية أي شي ما، وليس هوية الوطن فحسب- ينشأ عندما نفتقد حضور ذلك الشيء وأهميته في حياتنا ووجودنا. وهذا ما يبرر السؤال عن الحاجة للشعر في عصرنا، فهو سؤال يفترض السؤال عن هوية الشعر. ولا شك أن السؤال السالف يصبح ملحاً بقوة أيضاً في عصرنا الراهن باعتباره عصر طغيان التكنولوجيا والعولمة، وهو طغيان يصبح معه الحديث عن ضرورة الشعر غير مبرر أحياناً إلا باعتباره ترفاً أو بلسماً لتخفيف أوجاع الإنسان في حياة رقمية نفعية لاهثة. وهذا التصور الساذج لدور للشعر يصبح أكثر سذاجة في عالمنا الذي لا يصنع التكنولوجيا ولا يُصدِّر العولمة، وإنما ينسحق أمامهما ويفتتن بهما فحسب في نوع من البلاهة التي تفتقر إلى الفطنة، والتي تكون غير قادرة على أن تراجع نفسها معرفياً. ولكننا نحاول هنا أن نبرهن على أن هذه الرؤية القاصرة تسيء فهم حقيقة الشعر وتزيف ماهيته: فالشعرية التي تكمن فيها ماهية الشعر ليست ظاهرة عابرة أو ثانوية في حياتنا، ولا هي حتى مجرد ظاهرة جمالية خالصة، وإنما هي ظاهرة إنسانية وقومية، ووجودية بوجه عام. وهذا يقتضي فهم معنى الشعرية ابتداءً. ماهية الشعر إن البحث عن معنى الشعرية هو بحث في ماهية الشعر، أي في كل ما يجعل أشكال القصيد تشارك في الشعر، وفحواها أن المعنى الذي تومئ له اللغة الشعرية يكمن في اللغة ذاتها بكل صوتياتها وإيقاعاتها وصورها الحسية. والحقيقة أن هذه الشعرية يمكن أن تتجلى عموماً في سائر أشكال اللغة أو القول، ولذلك فإن الحالة الشعرية يمكن أن تتجلى بدرجات متفاوتة في سائر فنون القول بحسب ثقل طرفي العلاقة بين الصوت والمعنى، فكلما كان المعنى مباطناً في حسية الكلمة، مال القول إلى الشعرية، بل إن الشعرية تتجلى أيضاً في سائر الفنون حينما تعمد إلى الإفصاح والقول من خلال لغتها الخاصة المرئية واللامرئية (بالمعنى الواسع للغة هنا)، وبهذا الاعتبار يمكن أن نتحدث عن شاعرية الرواية، بل عن شاعرية الصورة السينمائية على سبيل المثال. وهذا هو مناط أولية الشعر على غيره من سائر فنون القول أو الفنون التي تستخدم اللغة: فالشعر - كما أسميه دائماً - هو «فن القول في المقول» على الأصالة. غير أن هذا الفهم لمعنى «الشعرية» قد يوحي لدى البعض بأن الحالة الشعرية هي مجرد حالة جمالية خالصة تجعلنا أسيرين عالم اللغة بمعناها الواسع، بما في ذلك لغة القول والكلام. وهذا الإيحاء سيكون بلا شك مضللاً: ذلك أن المعنى الذي تومئ له لغة الشعر ليس مجرد صور شعرية تُسقطها تشكيلات لغوية، وإنما هو عالم إنساني متعين ووجود حميمي يتجلى في عالم خاص من اللغة، لأن اللغة هنا هي طريقة في التفكير في العالم والشعور به وتصويره، «فاللغة هي مسكن الوجود» كما أنبأنا هيدغر. ومن البدهي أن اللغة المقصودة هنا ليست هي لغة العلم، ولا هي لغة الحياة العملية أو الحياة اليومية الجارية، وهي - على وجه الإجمال - ليست لغة الاتصال، فمثل هذا النوع الأخير من اللغة المهيمن على حياتنا هو اللغة التي يخرج فيها المعنى من الكلام ولا يعود إليه أبداً على حد تعبير سارتر. أما لغة الشعر - وكل لغة تتحقق فيها حالة من الشعرية - هي لغة يسكنها المعنى دائماً بكل ما يحويه من عوالم خاصة، إنها لغة تجلب الخارج إلى الداخل دائماً. ولأن المعنى، ومن ثم العالم المتصور، يسكن هنا الكلام بكل صوتياته وإيقاعاته وصوره الحسية، فإن الشعر يستعصي دائماً على الترجمة، اللهم إلا على سبيل التقريب الذي يجعل الفهم والدرس والتحصيل ممكناً. وربما يكون هذا أيضاً هو أصل ارتباط الشعر بموطنه وقوميته، ومن ثم فهو أصل متين لتأكيد هوية الإنسان وانتمائه في مواجهة عالم متوحش يسعى لجرف كل ما هو حميمي وإنساني خاص. فجماليات الشعر لا تعني اغتراب الشعر عن الواقعي والمعيش، فالشعر مرتبط دائماً بموطنه وروح عصره كما لاحظ هيجل من قبل، وهذا يعني أنه مرتبط أيضاً بأسئلة اللحظة التاريخية. وعندما نقول إن الشعر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوجود، فإن هذا يعني أنه مرتبط بالحياة وبالمعيش، لأن الوجود الذي كان الشغل الشاغل لهيدغر كان يعني ببساطة عند نيتشه - كما لاحظ هيدغر نفسه - الحياة نفسها أو أسلوب العيش، إذ كيف يمكن لأي شيء ميت أن ‹يكون›؟! الشعراء الحقيقيون مشغولون بأسئلة الوجود، وهم في الوقت ذاته مشغولون بالإجابة عن تلك الأسئلة، ومن ثم كانت هناك دوماً صلة حميمة منسية بين الشعر والوجود. ولا شك أن مثل تلك الأسئلة تمس الروح: «فحينما ننتقل من الحواس إلى الروح لن يكون الشعر عندئذ مجرد حدث عارض ولا تفصيلاً، ولا تسلية أو لهواً. الشعر إذن ليس حالة أونطولوجية أو وجودية فحسب، ولا هو حتى حالة جمالية فحسب، بل هو أيضاً حالة وطنية وقومية. ولطالما أفاض فلاسفة كبار من أمثال هيجل في التأكيد على ما هنالك من خصوصيات في شعر القوميات المختلفة، بل في التأكيد على اختلاف هذه الخصوصيات عبر المراحل التاريخية المختلفة في الأمة أو القومية الواحدة (دون أن يتناقض ذلك بالطبع مع ما هنالك من طابع إنساني عام في كل شعر). إن هذه الحالة من الخصوصيات التي تسهم في تشكيل الهوية في مرحلة تاريخية معينة، يمكن أن نلاحظها بقوة في حالة الشعر الغنائي في تاريخ الشعوب، وهي حالة تبلغ ذروتها في الموال الذي يبقى رغم ضياع اسم مؤلفه، وكأن الموال في هذه الحالة قد شاء أن يبقى مرتبطاً بتراب الأرض ووجدان الناس وإن ضاع اسم صاحبه. وهذا هو جوهر الموال، وربما يكون جوهر الأغنية الذي يجعلها قادرة على البقاء في موطنها، وقادرة على توصيل هذا الشعور الحميمي في غير موطنها: ذلك الشعور بالصلة الحميمة بين الأغنية والوطن. وهذا أمر يستحق تأملاً آخر، ربما نعود إليه في مقال لاحق. مهنة شاعر لا عن هموم البشر في البيت وتحت السماء الوسيعة أحكي حيث بصورة أرفع من الحيوان البريّ يعمل الإنسان ويكسب عيشه، فهناك شيء آخر موكول إلى الشعراء! إنه الأسمى، هذا الذي من أجله نحن منذورون بحيث إنه دائماً يُغنّى من جديد، وأقرب، يحسه القلب الرفيق. أيتها الكائنات السماوية، وأنت أيتها الينابيع، أيتها الضفاف والحدائق والذرى حيث كان رائعاً عندما أمسكتِ بخصلات شعرنا، وما لا ينسى، كيف ظهر الروح الخلاق الإلهي على غير انتظار وعلينا استولى، فخرس فينا الحسّ وارتجفت مفاصلنا كما لو مسّها شعاع! من ديوان هيدرلن - ترجمة فؤاد رفقة ص 95
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©