الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجسد شاعراً ومحاوراً

الجسد شاعراً ومحاوراً
2 مارس 2011 18:27
من الطبيعي جداً أن يرافق أي عمل راقص نص يحكي قصة العمل، نص ارشادي يقود المتلقي/ المشاهد إلى معنى النص ويفصح له عما يجري من حكايات وما يسرد من أفعال، تلك هي طبيعة هذه العروض التي عادة ما تتسم بالغموض، بفعل إشاراتها وانعدام اللغة فيها. هذه الأعمال تأخذ من المسرح خشبته وأبعاده وعلاقة الشخوص المؤدين للنص مع الجمهور وإمكاناتهم في استثارة العواطف حزناً أو فرحاً، وتحفيز الجمهور على التفاعل الكلي مع النص الراقص. هي إيماءات وحركات وقفزات بلا لغة محكية ولا ألفاظ سوى لغة عظيمة عرفها الإنسان منذ أقدم الأزمان وتغنت بها الشعوب منذ أن وجدت: إنها لغة الجسد. في لغة الجسد توزع بين الأيدي وحركتها، والأقدام وإيقاعاتها، والوجوه وانفعالاتها والأكتاف واهتزازاتها، والرؤوس وإيماءاتها.. الجسد طاقة لا حدود لها، طاقة غير متناهية الأبعاد، خلقت من خلاله شعوب الأرض حركاتها الخاصة بطيئة وسريعة، هابطة أو صاعدة، أفقية أو عمودية، تموجية أو ساكنة، من خلال إحدى هذه الحركات نعرف تماماً انتماء المؤدي وحتى لو كان بارعاً بقدرته على الانتقال من شكل موروثي إلى آخر فإننا نستطيع ـ إلى حد كبير ـ أن نقتنص الحركة الخالدة التي أوجدتها الشعوب وتفردت بها دون غيرها حينها نؤشر على انتماء هذه الرقصة. تجيء مقدمتنا هذه بمناسبة تقديم العمل الادائي المسرحي الراقص “صندوق الكاثاك” ضمن فعاليات الموسم الثالث لمهرجان المسرح العالمي بالتعاون بين هيئة أبوظبي للثقافة والتراث والمجلس الثقافي البريطاني على مسرح أبوظبي، وقد صممت الرقصات الفنّانة البريطانية سونيا صبري وأدى العمل عدد من الفنانين الشباب من مختلف شعوب العالم. يستمد العرض أجواءه من العوالم والفنون الهندية والفارسية معتمداً على فكرة الصندوق الحكائي الراقص الذي يفيض شعراً وموسيقى وأداء وحركات واضحة على الوجوه من أجل توصيل المعنى باعتبار أن هذه الحركات بديل عن الكلام كون الكلمة عائقاً، للتواصل بين الشعوب باختلاف لغاتها. وربما يريد صانع الصندوق أن يتمثل وجود كافة فنون الشعوب في صندوقه، كأنه الحاوي الذي يرقص الجسد بما يريد أن يتمثله، ويشجع “صندوق الكاثاك” الجماهير على التفكير خارج صندوق الأفكار المألوفة. إنه صناعة موسيقى بلا آلات، اعتماداً على تلك الآلة الأولى، الفم والقفص الصدري والحنجرة واللسان وقدرتها جميعاً حين تتوافق برومانسية وعذوبة على خلق موسيقى تعني فكرة وتلخص معنى. يخلق الراقصون الموسيقى ويخلق الموسيقيون الحركة وكأننا إزاء ثلاثي متجسد في: الموسيقى، الجسد، الحركة. الصندوق الرحم يروي كل فرد من الراقصين حكايته ويتعجب منها الراقصون ويحاولون مساعدته والتعاطف معه، يبكون لبكائه ويفرحون لفرحه. لا وجود للغة، لا وجود للكلمات لا وجود لفواصل وفراغات بين الشعوب، حيث تتجمع البشرية كلها لتتحدث لغة واحدة هي إيماءات الجسد وحركات الأكتاف واهتزازات الرؤوس وضربات الأقدام الحافية على خشبة المسرح ـ ما أعذبها ـ كنت أتساءل، وأنا أشاهد العرض، ما المغزى من ذلك؟ وهل يحاول الإنسان عبر هذا الصندوق اكتشاف عذريته الأولى، الرجوع إلى الرحم الأول الذي لا وجود للغة ولا للاختلاف بين الوجوه والأحاسيس والرغبة في الحياة. كنت أتساءل حقاً هل أن فكرة “صندوق الكاثاك” عودة للرعوية، حيث لم يكن الإنسان قد امتلك الآلات الموسيقية، حيث لم يبتدعها بعد، وكان يصغي لحفيف الشجر وقفزات الحيوانات الرشيقة وأنغام صوت مجهول وهو يتلوى بين مسارب الغابات وعبر حفيف الأشجار وخرير مياه الشلالات الساقطة. كنت أتساءل حقاً هل خرجت كل هذه الآلات الموسيقية التي نراها اليوم لتقتل إبداع الإنسان الأول، لتأخذ جانباً كبيراً من قدرته الصوتية، وهل هذه الآلات ما هي إلا ترجمة لتلك الأصوات الموسيقية التي كان يطلقها الإنسان من حنجرته. “صندوق الكاثاك” هو الشعر والقصة والحكاية والخوف والمسرة والحركة و”الراب” و”الهيب هوب” والتمثيل، بكل اللغات، الهندية والإنجليزية والأوروبية والشرقية. كان المسرح خالياً من أي ديكور وهو أشبه بالصندوق الفارغ المفتوح من جهة الجمهور وليس هُناك سوى الجدران الثلاثة كما هي وبدون أي تغيير، ما عدا الجدار الثالث المواجه للجمهور في عمق المسرح فقد رسم عليه مجموعة من المستطيلات المتوازية والمتناظرة باللونين الأسود والرصاصي، كما نجد أرضية المسرح وقد خططت بمربعات توازي أو تشابه لعبة “الصبة” الموروثية في الإمارات والمنطقة الخليجية والعربية والتي عادة ما تلعبها الفتيات، وهي من الألعاب الشعبية التي يبدو أنها إحدى ألعاب العالم الآسيوي. المشهد التمهيدي يخرج 11 راقصاً بملابس يومية ليس فيها أي تخطيط مسبق لخلق عالم غير مألوف، ثم تظهر إحدى الفتيات ليكتمل العدد 12 داخل الصندوق. الفتاة الجديدة ساردة لحكاية، الغناء طريقة جديدة لسرد قصتها، وينتهي المشهد برقص إيمائي. بعد هذا المشهد التمهيدي نبدأ بتلقي مجموعة من المشاهد على مدى 90 دقيقة طول مدة العرض، ويفصل المشاهد إغلاق الصندوق بالظلمة، فحالما ينتهي أي تنطفئ أضواء المسرح لثوان قليلة ليعود المسرح حافلاً بمشهد جديد والذي يعني حكاية جديدة، وقضية جديدة وساردا جديدا. يبتدئ المشهد الثالث بخمس فتيات يمثلن دور الحيوانات في استخدام بارع لصوت الحيوان ولحركته وتنقلاته في تجسيد لكل ما يمكن أن نصوره فيه، هنا يقف المشهد للحظات وتبدأ إحدى الفتيات لتروي حكاية. في مشهد جديد تبدأ القصة باستخدام موروث صيني بأغنية تشترك فيها المجموعة بأكملها في محاولة عبر الأصوات الصينية المتقطعة أن يصور المشهد أصوات الآلات الموسيقية الصينية ومضارعتها. هُنا ندرك تماماً أننا أمام عمل يريد أن ينقل لنا موسيقى الشعوب وطبيعتها وتنغيمها حيث يوحي العزف الجماعي بـ”الأفواه” وهي تصف تلك الموسيقى “تقلدها” أنها رقصات كلاسيكية يعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد حيث كان الإنسان مقلداً لكل الأشياء حوله. المشهد الأفريقي الكاثاك حركات تعبيرية تحاكي العادات والتقاليد الشفوية في الهند المنقولة من الملاحم والأساطير في تجل واضح لعلاقة الفن الراقص بالسرد الحكائي. في المشهد الرابع حيث يبتدئ بتجسيد الظلمة التي تعني أن الصندوق أصبح مقفلاً ولابد لنا من أن ننتظر ماذا سيقدم لنا، نشاهد 7 شخوص راقصين على المسرح بعد أن يضاء المسرح من الأعلى بلون بنفسجي خافت، وثمة مربع ساقط على أرضية المسرح. هُنا نجد أفريقيا تخرج من بين تلك الظلمة الشفيفة، ويبدو لي أن هذه المشابهة بسيطة وغير عميقة. هذا المشهد يكرس حالة امتزاج للأبيض بالأسود، يظل 5 راقصين على المسرح وهم يحاولون تجسيد عنصرين هما “أفريقيا” رقصات الغابة و”اليابان” عبر حركات “الكونغو”.. تبدو الدلالة هنا بسيطة، لا عمق لها، وتقليدية، ولكن حالما يدخل الفن الهندي تنطلق الايحاءات بمجملها وكأننا هنا نجد اقتراناً حقيقياً بين الحركة وصوت الموسيقى في تجانس جميل إلى حد بعيد. يبدو أن ثمة صراعا على جودة الأداء، في محاولة للتباهي بالجمال الراقص تولد بين الراقصين، هذا الصراع نراه سريعاً قد تمثل براقصين “فتاة وفتى”، في رقصتين متناظرتين هما: أولاً: الفتاة الهندية المتباهية والمتحدثة بلغة الحركة (حوار الشرق). ثانياً: الفتى الأوروبي المتباهي والمتحدث بلغة “الهيب هوب” (حوار الغرب). تستخدم الفتاة الهندية الأقدام والجسد والأيدي وتنتهي بالحركة وتوقفاً بارتفاع يديها المتضرعين إلى الفتى، ويستخدم الفتى الأوروبي حركة جسده ورأسه وتقطع مفاصل الجسد وسرعة دوران الأرجل ليجسد حواره ويقف في دهشة على رأسه. يظل الحوار قائماً.. الفتاة تقدم عرض الأفعى بصمت، والفتى يقدم عرضاً مشابهاً، وينسحب الفتى أمام جمالية عرض خصمه، وتحاول الفتاة أن تعيده إلى مربعه الذي يقدم فيه حركته. ويتداخل الراقصون الخمسة معهما ويشكل الجميع حركة جماعية في صمت لاهث، تنعدم فيه الموسيقى، تماماً. موسيقى الشفاه صوت للطبل، صوت للناي، صوت للنحاسيات، تدخل فتاة هندية لتروي عبر صوتها المنطلق كصوت بشري في غابة مليئة بالأشجار، صوت حزين ويد ممدودة بتضرع إلى السماء، حوار عالٍ بأنين ووجع مستمر بلوعة. يستغل الموروث الهندي بأقصى طاقات “صندوق الكاثاك” حيث الصوت الحزين الذي يمتد طويلاً بأنين وحسرة وبكاء والحبيب البعيد الذي تمتد له الأيدي المتضرعة. يزحف الجسد على الأقدام.. اليد ممدودة والوجه باك.. هي سمة هذا المقطع. من أنت؟ يتقابل فتى وفتاة فينشأ حوار بينهما.. كلاهما يسأل الآخر: من أنت؟ ويقدمان نفسيهما عبر ألفاظ نجهلها، لا تمتلك معنى، ليس لها دلالة سوى أنها تمتلك نبرتها الموسيقية. الفتى “كتو ابي توهي” الفتاة “سيكا. كاكا. سيلاكاسي”. الفاظ لا توحي بشيء وتعبير ايقاعي زاخر بالحركة، وهي كما يبدو محاولة لايجاد رقص هندي جديد يمد جذوره للاستفادة من الفن الغربي، فيتحول النص من رقص هندي إلى رقص ذي مسحة غربية واحدة وهو المقصود بـ هو أم أي” من أنا؟. فن للايقاع فن للجسد فن للإيماءة فن للعظة الفتى: تك تن.. دك دن. الفتاة: لا لا.. لا لا.. لا لا. تدخل فتاتان لتؤديا معاً رقصة تتحرك على ايقاع حروف “لا لا.. لا لا.. ن” وتدخل فتاة أخرى لتنقر من شفتيها لفظة “جم جم” فيتحول المشهد كاملاً إلى نص حروفي ذي ايقاع جميل، هنا يظهر الايقاع متولداً من التصفيق بالأكف والضرب على الأفخاذ وايقاع حركة الاقدام والضرب على خشبة المسرح أشبه بالرقص الإسباني. المشهد الغربي حركة رقص “الهيب هوب” وغناء “الراب”، حركات الشارع الغربي هذا المشهد يؤديه راقص واحد و3 مغنين، وتدخل أخيراً معه فتاة لتؤدي رقص “الهيب هوب”، الزحف على الأرض وتمايل الجسد وصراخ وعويل ويصبح الأداء سباعي يتمثل في 4 فتيات و3 فتيات، ولفترة طويلة، على خشبة المسرح. يوحي لك أن هذا التطويل في تقديم المشهد الأخير الذي اشترك فيه 7 راقصين غير متغيرين ربما يبعث الملل لدى المشاهد لكن ما يكسر هذا الملل هو البراعة في تنويع المشاهد المؤداة، حيث السرد الحكائي/ الجسدي يكسر الزمن، بل يفككه، إذ تجسد هذه الحركات أصواتاً دلالية مختلفة، شرقاً وغرباً، صوتاً وحركة. المشهد الصيني فتى يغني “تن. تاتن.. تن، تاتن” فتاة تؤدي الحركة رقصاً فالقدم لديها يؤدي “تن.. تاتن.. تن.. تاتن” هذه الحروف تعبير لغوي عن وصلة موسيقية تتجسد في حركة قدمي الفتاة. ويديها ورأسها. ونتساءل: هل الصوت “تن. تاتن” يسرد الحكاية، أم أن الجسد الراقص هو الذي يسرد الحكاية؟ تتضمن الحكاية كما نشعر بها، الخوف والهروب والضياع ومأساة ورعبا، حيث يتحول كل شيء هادئ إلى ضجيج وحيرة وتساؤلات وأجزاء متناثرة من حكاية مجهولة. مشهد الآلة خلال هذا المشهد الذي يقدمه الراقصون السبعة يصور لنا اسطوانة موسيقية مشروخة، تكرر نفسها، وقد توقفت عند صوت ظل يتكرر “تك، تي، تاتا.. تك، تي، تاتا” شريط مسجل توقف فجأة حيث يظل يدور حول نفسه، لا يطلق إلا هذه الأصوات بسرعة متناهية وبلا توقف وينتهي عندما تمتد أيدي الراقصين بالتضرع على الطريقة الهندية مشكلين حركة أشبه بحركة زهرة اللوتس. يستغل الراقصون هنا الظل والضوء، حيث ينعكس ظل الأجساد الراقصة على جدران المسرح وكأننا نشهد نصين، نصا حقيقيا ونصا سينمائيا على شاشتين متواجهتين. ينتهي المشهد بأن ينحني الشخوص لبعضهم اعتذاراً ومع كل انحناءة نجد لفظة “تن.. انحناءة” “تن.. انحناءه” “تن.. انحناءة” في حركة ثلاثية على الطريقة الصينية. المشهد الشعري 7 راقصين يتولون تقديم ما تبقى من عرض “صندوق الكاثاك” الأول يتمثل في 6 راقصين ينامون على المسرح، حيث يقف الراقص السابع ليقول شعراً. ثم ينطلق صوت هندي كصوت في البرية، صوت حزين، فيه من الحنين الشيء الكثير وتبدأ الحناجر تطلق أصوات الطبول. هنا تنهض لغة جديدة، مصوتات لفظية، وعلى ضربات “تراكاتن، تنارتن” باعتبارها رموزاً لايقاع يحرك أجساد الراقصين. مشهد تاتا نينالي الراقصون السبعة جالسون في حلقة نصف دائرية مفتوحة باتجاه الجمهور تقف فتاة وتقدم رقصتها “حكايتها” عبر صوت متكرر “تاتا نينالي” يتحول إلى “يالا لي.. يالالي.. يالالي”.. رقص روحي يجعل الراقص يحاور الآلهة وتدور الراقصة في رقصة أشبه بالتنورة الإسلامية “حول نفسها” وأقدامها تخلق ايقاعاً تسحبه الفتاه وراءها كذيل من الأنغام وهي تتنقل كالفراشة. وينطفئ المسرح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©