السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صراع وصداع.. والحق ضَاع!

17 مايو 2016 23:29
النخبة، هو المصطلح الحديث المقابل والمرادف لمصطلح قديم ورد ذكره كثيراً في القرآن الكريم، وهو مصطلح الملأ. والملأ هم نخبة القوم وزبدته، أو مثقفوهم ونشطاؤهم ومحللوهم ومفكروهم في الوقت الراهن. وهم دائماً الموالون للسلطان والقريبون منه، والمعارضون للأنبياء والرسل. وعندما أخبر الرجل القادم من أقصى المدينة موسى عليه السلام بأن الملأ يأتمرون به ليقتلوه كان يعني بالملأ النخبة. وأكثر ما ورد فيه لفظ أو مصطلح «الملأ» هو ما يتعلق بفرعون.. ولم يرد المصطلح بمعناه الحسن إلا قليلاً، وخصوصاً في ملأ ملكة سبأ بلقيس الذين كانوا مستشاريها. وفيما عدا ذلك كان مصطلح الملأ سيئ السمعة تماماً، مثل مصطلح النخبة والمثقفين والنشطاء والحقوقيين والمفكرين والمحللين الآن. كما أن مصطلح النخبة أصبح يختلف عن مصطلح الملأ في أمر آخر الآن، هو أن النخبة لم تعد بالضرورة القريبة من السلطان، بل إن الملأ الأكثر شهرة في أمتنا الآن هم أولئك المناوئون للدولة الوطنية العربية، والسابحون ضد تيارها، على أساس أن المناكفة والمعاندة والمخالفة تحقق شهرة وشعبية أضعاف الموالاة والموافقة والتأييد. إن الثقافة في المفهوم العربي تعني كما يقولون كسر «التابوهات» الثلاثة المسكوت عنها، وهي الدين والسياسة والجنس، واختراق القيم الاجتماعية السائدة بوصفها قيماً متخلفة ورجعية، بمعنى أن المثقف هو الذي يقول ويكتب ما يخالف الدين والقيم، وما يناوئ الدولة الوطنية، وما يرسخ الحرية الجنسية، ويرى أن الزواج مشروع اجتماعي فاشل كما يقول كثير من هؤلاء الذين نسميهم المثقفين العرب. والمفهوم السائد للحرية لدى من نسميهم المثقفين العرب، هو مفهوم حرية الخطأ وحرية الرفض وحرية فعل أي شيء في أي وقت وفي أي مكان. أو باختصار هي حرية الحيوان وليست حرية الإنسان، والقوة والجرأة لديهم في اختراق القيم والسخرية منها بوصفها قيوداً على الحرية. والالتزام بالقيم والفضائل والدين في رأيهم ضعف لا يليق بالإنسان الحر، ولا يليق بالإبداع، والمبدع عندهم لا ينبغي أبداً أن تحده حدود وتشل حركته قيود. وتلقف الإرهابيون والمتطرفون هذه الأفكار، ونفخوا فيها وسوقوها وروجوها لدى الشارع العربي المغيب تماماً، فأصبح المثقف أو الناشط أو المفكر في الذهنية العربية المشوهة مرادفاً للملحد والزنديق والمارق والمرتد الذي يعاقر الخمر ويلاحق النساء ويبدو أشعث أغبر منفلتاً، وأصبح الحاجز أو السور الفاصل بين الشعوب والنخبة عالياً جداً. وصار كل ما يقوله المثقف العربي مشكوكاً فيه لأنه مضاد للدين، بالإضافة إلى اللغة الغامضة الاستعلائية التي يستخدمها من نسميهم المثقفين والمبدعين. وبينما هبطت الأفكار الهدامة والإرهابية باسم الدين من عليائها لتصبح متداولة بين الناس ومفهومة لدى البسطاء، تعالت الثقافة العربية على الناس وحبست نفسها في أبراج عاجية، وصارت لوغاريتمات لا يفهمها أحد، وبذلك انفرد الإرهابيون بالناس وامتلكوا رؤوسهم بلا منافس، كما امتلكوا أيضاً بطونهم بالطعام والمال وفروجهم بالزواج، فصارت المعركة بين الظلامية والاستنارة محسومة للظلامية، بل إن الإرهابيين نجحوا إلى حد كبير جداً في جعل الاستنارة والتنوير والليبرالية والعلمانية مرادفات للإلحاد والكفر والزندقة. وأذكر أن حواراً دار يوماً حول علاقة جماعة «الإخوان» بكافة التنظيمات الإرهابية المعروفة وغير المعروفة، وكان رأيي أنها علاقة عضوية واضحة ولا لبس فيها. وفوجئت بأن شاباً يبدو أنه متعاطف مع «الإخوان»، أو مؤيد لهم سألني فجأة: هل أنت ليبرالي؟ فسألته: ما معنى ليبرالي؟ فقال: معناها التحرر من كل القيود حتى قيود الدين؟ فقلت: هل تعني إن الليبرالي هو اللاديني؟ قال: هذا ما فهمته، قلت: أما أنا ففهمت أن الليبرالية مصطلح مضاد للديكتاتورية والاستبداد وليس مضاداً للدين. وحتى إذا كانت الليبرالية مصطلحاً يعني عدم التدين أو التحرر من الدين، فما الذي أوحى إليك بأنني ليبرالي أي ضد الدين؟ قال: لأنك ضد الجماعات الإسلامية والتيارات الإسلامية، قلت: صدقت، ولكن هل كوني ضد الجماعات الإسلامية أو التيارات الإسلامية يعني أنني ضد الدين. وسكت الشاب ولم يعقب لكنني لمحت ظل ابتسامة على وجهه، ولم أشأ أن أضغط عليه لنواصل حوارنا، ويكفي أن قناعاته السابقة قد اهتزت قليلاً وصارت آيلة للسقوط. وهذا الربط بين من نسميهم المثقفين العرب وأفكار الإلحاد والزندقة والمروق ترسخ تماماً في أذهان العامة لأن هؤلاء المثقفين سلموا الإرهابيين السلاح الذي قتلوهم به. المثقفون قتلوا أنفسهم بالاستعلاء والانعزال واحتقار المجتمع واتهامه بالتخلف مع ربط التخلف بالتدين فاتسعت الهوة بينهم والشعوب، بل كانوا الجسر الذي سار عليه الإرهابيون والمتطرفون، وصولاً إلى العقل الجمعي العربي المشوه. والحق الذي لا ينبغي تجاوزه هو أن ثقافة التطرف والإرهاب هي الحاكمة في الأمة العرية، وأن العقل العربي متطرف وإرهابي بشكل عام، وتتعدد المسالك والطرق والأساليب والتطرف والتعصب والإرهاب واحد نحن نرفض بتطرف ونقبل بتطرف، ونتدين بتطرف ونقف ضد الدين بتطرف، ومقاديرنا كلها في جميع الطبخات غير مضبوطة على الإطلاق، فإما نقص الملح حتى العدم أو زيادة الملح حتى فساد الطبخة كلها. والحوار العربي دائماً «حوار طرشان»، لأنه صراع وصراخ متطرفين مع متطرفين، حوار بين الإفراط والتفريط وكل منهما تطرف. ونحن جميعاً نهتف للحرية ولا نمارسها، وإذا كان الفيلسوف الفرنسي «فولتير» قد قال: إني أخالفك في الرأي، ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لكي تقول رأيك، فإن المتطرف العربي يقول: أخالفك في الرأي وأقتلك أو أنتحر حتى لا تقول رأيك. ولأننا متطرفون، فإن حواراتنا ومفاوضاتنا ومؤتمراتنا دائماً فاشلة، لأن الكل يتحدث ولا أحد يسمع، ولأن الاقتناع بالرأي الآخر أو قبوله في رأينا هزيمة نرفضها، ولأننا فقراء فكرياً أو معدمون فكرياً. وكل منا لديه فكرة واحدة يتيمة ليس مستعداً أبداً أن يفقدها، أو يلقى بها في القمامة إذا ثبت فسادها. أما الأثرياء فكرياً، فلن يضرهم أن يفقدوا فكرة أو حتى عشر أفكار يثبت فسادها. وفقر الفكر هو المسؤول عن التشبث العربي بالخطايا والأخطاء والأفكار الفاسدة، وتجديد الخطاب العربي في كل مجال مستحيل، لأن أحداً لا يمكنه التنازل عن أفكاره المحدودة التي لا يمتلك غيرها حتى إذا ثبت فسادها. والمواجهة الفكرية للإرهاب والتطرف في كل مجال مستحيلة، لأنها مواجهة بين متطرفين، أو بين وجهين لعملة التطرف والإرهاب الواحدة، وهي مواجهة طرشان. وإذا استعرضت التاريخ العربي، فسوف تجد التطرف سيد كل المشاهد فيه منذ الفتنة الكبرى في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه. وستجد أن الإيغال في التصوف والدروشة والخرافات المرتبطة زوراً بالدين ظهر في أوج انتشار المجون والتطرف في الانحراف والانحلال الخلقي، فكان التطرف دوماً في مقابل التطرف وليس بينهما اعتدال أو تسامح، فالعقل العربي إما معتقل في الخرافة والجهل والغفلة، وإما مطلق السراح بلا عقال كالحيوان السائب يهلك الحرث والنسل والأخضر واليابس. وفي الحالتين هو متطرف وإرهابي، والضحية دائماً في أمتنا هي الحقيقة. فلا خير في استنارة ولا خير في ظلامية. استنارة باهرة مبالغ فيها ومتطرفة تخطف الأبصار والبصائر وتعمي العيون. وظلامية دامسة مخيفة إرهابية حتى إذا أخرج العربي يده لم يكد يراها. ولا مكان في الظلام إلا للمجرمين وقطاع الطرق.. ولا خير في استنارتنا ولا ظلاميتنا.. والحق بيننا ضاع في أمة الصراع والصداع! *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©